« التربـية مكــان للتشبت بالقول »
لويس بروسار – الحياة التربوية – الرقم 74 ، شتنبر – اكتوبر 1991 ص : 4 -8
حوار مع فيليب ميريو philppe Meirieu ، عضو المجلس الوطني للبرامج بفرنسا
بيداغوجي من العيار الثقيل ، مدير مقاطعة علوم التربية بجامعة Lumière – Lyon 2 ، فيليب ميريو أيضا عضو في المجلس الوطني للبرامج و عضو بالمجموعة التي تقود إصلاح تكوين المدرسين بفرنسا . صاحب عدة مؤلفات في ميدان التربية . في السنة الماضية قمنا بمراجعة كتابه ماقبل الاخير ، التدريس ، سيناريو لمهمة جديدة . خلال زيارته العابرة لكيبيك شهر ابريل المنصرم ، اغتنمنا الفرصة قصد استجوابه حول اخر كتابه بعنوان خيار التربية . الاخلاق و البيداغوجية .
الحياة البيداغوجية : لقد أشرتم في كتابكم إلى أننا في التربية لسنا متيقنين دائما بعد القيام بجميع المحاولات التجريبية . هل تعتقدون أن فشل المدرسة في إنجاح أكبر عدد من التلاميذ هو فشل للبيداغوجية ؟
فيليب ميريو : إلى حد ما هو فشل للبيداغوجيا ، إلا أنه فشل للمجتمع و للتلميذ أيضا . هنا نلمس خطورة و أخاف من أقول بعض الكلام أو أقوم باختزاله : إن المسؤولية ليست مثل الحلوى يمكن اقتسامها .
لا اعتقد أنه من الممكن القول فيما لو كانت البيداغوجيا مسؤولة عن هذا الفشل ، فإن التلاميذ ليسوا مسؤولين فردا فردا عن هذا الفشل ، لا أسرهم و لا المجتمع . ليست المسؤولية كمثل كمية ثابتة يمكن أن نأخذ منا قسطا ، فكلما أخذ أحد جزءا منها ، تبقى منها للآخر الشيء القليل . اعتقد أن ماهية البيداغوجيا ذاتها هي التي تريد أنه كلما ازددنا حسا و وعيا بالمسؤولية اتجاه أمر ما ، كلما جعلنا الاخر يشعر بالمسؤولية أكثر . و كلما ازداد أي أحد بالمسؤولية ، كلما أصبح الاخر مسؤولا أكثر فأكثر . اعتقد أنه من المهم جدا ، في علاقته مع التلميذ ، يشعر البيداغوجي تماما بالمسؤولية في إنجاح التلميذ . و حينما يشعر بالمسؤولية كاملة في إنجاح التلميذ ، فلا يفهم أبدا من هذا أن أسرته غير مسؤولة و لا المجتمع غير مسؤول أيضا ، و لا التلميذ نفسه بعيد عن المسؤولية. جميع هذه المسؤوليات تعمل و تتفاعل فيما بينها . لو لم ألقن للتلميذ الفكرة على أنني مسؤول عن نجاحه ، سيقرأ التلميذ بدوره في تصرفي على أنني لا أومن في نجاحه و في تقدمه و لن يشعر بالتالي بأية مسؤولية .
أغضب أحيانا في وجه المدرسين أو الزملاء الذين يقولون : لو شعر الاستاذ بالمسؤولية أكثر مما ينبغي ، سوف يشعر التلميذ بتلاشي و فقدان أية مسؤولية. أنا أقول العكس هو الصحيح . إذا لم يبد الاستاذ أي حس للمسؤولية ، في علاقة تشاركية ، لن يشعر التلميذ بأنه مسؤول ، فيستولي عليه الجمود و يفقد الحركة بعض الشيء . يحسب أنه علامة فقط و لا يتصف بالدينامية . إن المسؤولية تفاعلية : بقدر ما أنهل منها ، بقدر ما أقدم العطاء . بالاضافة إلى ذلك ، و هذا أحد الثوابت في التربية : كلما آخذ منها ، كلما أعطي المزيد ، و بقوة ما أعطي ، يتبقى لدى أكثر مما أعطيت . اعتقد أنني كتبت في مكان اخر أنه حينما نتحدث عن « المال » كلما نزيد في إنفاقه كلما ينتاقص ، لكن في موضوع المعرفة ، و التضامن ، و القيم ، لو منحت كل هذه الاشياء ، فإنني لا أزال امتلكها أكثر من اي وقت مضى . اعتقد أن الأمر هو احدى القواعد الثابتة في نشاط التربية .
هناك قسم ثاني في سؤالكم المتعلق بالجدل الاجتماعي الدائر حول مسؤولية البيداغوجيين و هنا ، اعتقد أننا غالبا ما نخطئ في الخصوم و في المنهج .
في الصحافة الفرنسية مثلا ، نتهم البيداغوجيين في هذا الوقت كونهم تسببوا في تقلص المستوى إلى حد ما لأننا نقول عنهم بأنهم « متسامحين » ، اهتموا بالأشخاص أكثر من اللازم و ابتعدوا قليلا عن المعارف ، الخ . اعتقد أنها معاينة جد سيئة ، معاينة تدعو للعبث لأنه تحديدا لا يمكن الانتباه للمعارف إن لم نكن حذرين يقظين اتجاه الافراد الذين سيمتلكون هذه المعارف . و لا يمكن الحصول على إنتباه الافراد في غياب مساءلة طبيعة هذه المعارف التي يتوجب امتلاكها .
الحياة البيداغوجية : في كتابكم الاخير ، قمتم في أول الأمر بمجاهرة حقيقية حول الايمان بعقيدة « القابلية للتربية » éducabilité الموجودة لدى الكائن البشري . هل تعتقدون أن هذا الايمان العميق و القوي هو احد المقدمات من أجل أن نصبح مدرسين ؟
فيليب ميريو : لا اعتقد أن هذا الايمان يمكن أن يصبح احد الشروط لممارسة التدريس ، أعتقد أنه يؤسس فعل التدريس . بل إنه بناء منطقي . إذا لم اومن بأن الكائن الموجود أمامي هو قابل للتربية ، فمن الأفضل لي أن استبدل المهنة . فلا فائدة من الاستمرار في المغامرة و المجازفة من أجل تعليمه أي شيء .
إنما ، احد الاسئلة التي أطرحها على نفسي ، هو : من اين أتى ، هذا الايمان ؟ اعتقد أنه آت من توجه أخلاقي في الأساس ، أحاول التوضيح أننا قصرنا من قيمته في التدريس . كيف لنا اكتسابه ؟ ليس بالخطاب أبدا على وجه الدقة . إنما نحصل عليه بما تقدمه أيدينا ، عن طريق ملاحظة تجربة الاخر ، الذي يؤمن في قابليتنا للتربية ، ماذا عساه أن يقدم لنا . الشيء الذي يعني أننا لو رغبنا في المعلمين الذين يؤمنون بقابلية التربية ، استوجب على المؤطرين أن يكونوا منسجمين مع الفكرة هاته و أن يشعر المعلمون أنفسهم كم لهذا الاعتقاد في القابلية للتربية بإمكانيه أن يطور شخصا ما .
الحياة البيداغوجية : تقدمون دور المدرس كوعاء مملوء بالمتناقضات : كونه في ذات الوقت ذلك الذي يؤثر و ذلك الذي يساعد في التخلص من هذا الأثر ؛ يساعد التلميذ في التأقلم مع المجتمع و في نفس الوقت الانفتاح و التحرر ، و مساعدته لكي يصبح حرا ؛ المطالبة بالأحسن وفي الآن نفسه القبول بالأسوء . هل من الضروري ان نكون مازوخيين machosistes بعض الشيء من أجل اختيار هذه المهنة و هل يمكننا أن نتعلم العيش بدون كثرة آلام و جراحات هذه المتناقضات ؟
فيليب ميريو : بالتأكيد . أحسب ان ما أود توضحيه في الكتاب ، هو أن التناقض الاخلاقي للمدرس ليس أكثر تناقضية من كل الاخلاق عموما ، أن الاخلاق هي قبل كل شيء الأولوية المطلقة لواجباتي على حقوقي . أريد أن أقول أن الاخلاق تعني : أنا مدين للاخر تماما لكن الاخر ، لا وجود لحقه عندي . لا حق للاخر عندي لأن لو كان يستحق شيئا في مقابل ما أسديته له ، فإنه سوف لن تكون هنالك أخلاقا أبدا ، بل سوقة قذرة . الأخلاق ، هو مبدأ اللا تبادلية بمعنى حيث الآخر يفرض ذاته علي : من الواجب علي أن أقوم بكل شيء لكي يتعلم و يتربى ، من الواجب علي أن أعطيه كل شيء لكي يقدر على بناء شخصيته ، يتوجب علي مساعدته لكي يفهم المجتمع و البحث عن مهنة ، غير أنني لن ألزمه ، في مقابل صنيعي ، لا خضوعه و احترامه لي و لا حتى نجاحه . و ما أقوله هنا ، يصح للآباء و ليس فقط للمعلمين . كل أب يعمل كل ما في وسعه ليؤمن به الأطفال حول ما يعتقده هو . هناك آباء يقولون في بعض الاحيان : لا يهمني إيمان أولادي فيما أعتقد فيه . لكن حينذاك ، إما أنهم لا يؤمنون فيما يعتقدون او لا يحبون أولادهم . إذا اعتقدنا في شيء ، تحصل لدينا الرغبة القوية في اقتسامه مع أولادنا . إذن التربية هي قضية تلقين شيء ما يقع في قلوبنا و يعز علينا ، لكن التربية أيضا تعني القبول بحرية الاخر . أستطيع أن أهبه كل شيء ، لكنني لا أعتابه أبدا لماذا لم يرضخ لقانوني او لماذا لم يؤد مستحقه . لا يوجد ما أقبح في التربية من أن مربين – سواء أكانوا آباء ، او مدرسين – يقضون أوقاتهم في وضع الناس الذين يعلمونهم في حالة تأدية مستحقاتهم . لأننا لم ننته من تأدية المستحقات و ماذا ؟ و نؤدي الدين لدعم موقفنا المدين و ليس لغرض التحرر من الدين . ليس هناك ما أفظع من سوى هذا السلوك الخانق حيث نضحي لكيلا نقدر على المنح و العطاء ، حيث نقضي جل أوقاتنا ثرثرة في وجه الاخر بأننا ضحينا من أجله ، و نقول له : « أبعد هذا كل الذي فعلته من أجلك .. » كلا ، فعلت كل شيء لأن الكائن البشري جاء إلى هذه الارض معدوما تماما ، لأنه استوجب عليه تعلم كل شيء ، و مفروض عليه أن يتعلم من أبويه ، و من أقرانه ، الخ . لكن استوجب عليه أيضا أن يصير حرية ، أي يصبح شخصا بحيث لا ألزمه التبعية و الخضوع ، و الاعتراف . بمقدروي خفية أن آمل منه الاعتراف ، لكن لا إلزاميته كسيولة تبادلية عما أقدمه من أجل الطفل . جميع الآباء يعيشون هذا الأمر . جميع هؤلاء الذين يدرسون يعيشون هذا الواقع . التربية ، هي أن تمنح أمورا و أشياء لأحد قصد امتلاكها و يغذو ، بصورة ما ، إنسانا جديدا . ليصير قائم الذات بدون قول كلمة شكر و علي أن أتذكر دوما مبدأ اللاتبادلية ، لأنني أكاد دوما مطالبة من الآخر بتقديم حجة فعاليتي .
اعتقد أنه بحوزتي فقرة أسميها « البرهان و العلامة» . هذا معناه أن في التربية ، لا يجب علي ان أنتظر البرهان او الحجة من الاخر و سبب ذلك هو أن الاخر ليس شيئا موضوعا أمامي أنا الذي صنعته . ما انتظره من الاخر ، هو علامة ، أي انتظر حتى يعطيني إشارة بشكل ما لكي نصبح متخاطبين وجها لوجه و ، بصورة اخرى ، أقران .
الحياة البيداغوجية : لكن المدرسين هم دائما في حزن حينما لا ينجح تلامذتهم ؟
فيليب ميريو : في هذه النقطة هناك تناقض أخلاقي . لدي فقرة أخرى تسمى « العناد الديداكتيكي و التسامح البيداغوجي » . لدى المدرسين الحق بأن يقلقوا. من الضروري أن يستمروا في قلقهم هذا لأن إذا لم يساورهم القلق و الحزن ، سوف لن يتدخلوا مصحوبين بمعدات جديدة ، سوف لن يبدعوا مناهج بيداغوجية حديثة . من اللازم ان يصبحوا عنيدين من أجل خلق ظروف التعلم علما أن الاخر بإمكانه التعلم فقط بإرادته الحرة و مبادرته و عن طريق حريته الخاصة . إن هذا الأمر جد صعب لأنه تقريبا يشبه لما أشرتهم إليه بعد قليل ، « المطالبة بالأفضل و القبول بالأسوء » ؛ اي أطالب بالأحسن و أعطي أفضل ما يوجد لدي لكي أحصل على الأفضل ، لكن في ذات الوقت ، أقبل الأسوء و لما أقبل الأسوء ، فإني لا أتخلى عن مطالبة الأحسن . الصعوبة و هي أن تقبل الأسوء و تستمر في مطالبة الأحسن و الأفضل . و السبب في ذلك هو إمكانيتنا في قبول الأسوء قائلين : سأنسحب . لقد كتبت في السابق أنه لا يجب أن نعمل بشكل يجعل التربية تتأرجح على الدوام بين « افعل كما ترغب » و « افعل كما أريد » .
في المساء عدت إلى البيت و ابني يشاهد التلفاز ، بعد الغد سيجتاز مراقبة في الرياضيات . كيف يتفاوض في هذا الأمر . في معظم الأحيان ، حسب هذا المنوال : « افعل كما أريد ، أنا امتلك الحقيقة ، فأنا المربي ، وأنا الراشد . أعلم جيدا أن مراقبتك في الرياضيات هي أهم من مشاهدتك للتلفاز . إذن ، تعمل ما أريده أنا » . ام حسب االمنوال الاخر : « هذه قضيتك ، أنا شخصيا الأمر لا يهمني . فلتأخذ مبادرتك . تحمل مسؤوليتك . تفعل ما ترغب فيه . فإذا لم ترغب مراجعة مراقبتك في الرياضيات ، فلا تراجع »
هو إما أفرض قانوني او أتخلى عن قول أي شيء . أعتقد أن هذين الموقفين بعيدين من جدة الصواب الواحد و الاخر . الموقف التربوي الوحيد ، لكنه شاق و ما أصعبه ، هو مجهود يائس و طويل هدفه هو البحث عما يمكننا الرغبة فيه جماعة . و ما يمكننا رغبته فيه جماعة ، إنما يتموقع في الصيرورة ، و في الزمن الطويل ، و في الصبر ، و أحيانا في المواجهة و الصراع : الصعوبات كثيرة جدا .
إن موقف « افعل كما أريد » هو موقف سهل . إنه موقف الذي أصابه الحزن و خيبة الأمل لأننا ما فعلنا كما أراد . فلنحاول جماعة البحث عما يمكننا الرغبة فيه أجمعين . إن بالأمر صعوبة و شدة إلا أنه يعد المسلك الوحيد لكي نجعل من الآخر كائنا حرا . فهذا استباق لحريته . ما أريد قوله هو حتى إذا لم يكن حرا ، فمفروض علي أن اتصرف كمثلما هو حر بالفعل ، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لجعله حرا .
الحياة البيداغوجية : أشرتم في كتابكم إلى أنه « من الضروري أن نقبل بهدوء فكرة فحواها أن البيداغوجية لا تجد مشروعيتها في وجود وحدة للمعايير الثبوتية كما هو الحال لدى مجموعة المواد التعلمية التقليدية ». أين تجد البيداغوجية شرعيتها و لماذا هي ذات اعتبار أقل من قبل مختصي المواد التعلمية الاخرى؟ و الأمر ليس فقط في الجامعة ، لأن حتى في الاعدادي ، يفضل المدرسون نعتهم باختصاصية موادهم عوض نعتهم بالبيداغوجيين . يحصل لدينا انطباع أن البيداغوجية محصورة في الابتدائي و أن فيما وراء ذلك ، من الواجب أن تصبح عالما بالخصوص .
فيليب ميريو : و هو كذلك . أعتقد أن الأمر آت من حكاية كاملة . لقد نجم هذا الأمر ربما من رعونة البيداغوجيين الذين حسب زعمهم اعتقدوا في أن البيداغوجية يمكنها أن تمارس بدون محتويات ، و بدون مواد تعلمية disciplines ، و بدون موضوعات ، لكن هذا الأمر غير صحيح .
أعتقد أن لو كانت البيداغوجية هي أقل اعتبارا اتجاه العلوم التقليدية ، فمرد ذلك هو أنها علم الفعل l’action في حين أن البيولوجيا او الفزياء او علوم اخرى هي علوم الملاحظة . أضع مباشرة البيداغوجية في نفس الخانة مع السياسة و الطب . إن علوم الفعل ، كالبيداغوجية و كالسياسة و كالطب هي علوم ، كل علم حسب طريقته الخاصة ، يعمل بجانب الانسان لتحسين ظروف معيشته : البيداغوجية بتربية العقل ، الطب بمداواة الجسم ، السياسة بحكامة المدينة .
كذلك أعتقد أن بداخل أدمغة الناس ، التربية ، هي قبل كل شيء « قضية نسوية » ، إنها ليست قضية معقولة ، بل تدبر من تلقاء نفسها ، كل واحد منا لديه أكثر مما يدلي بدلوه في الموضوع .
اتمنى ان نسترجع الفكرة التي من خلالها يمكننا التحدث وجوبا عن البيداغوجي ، أن تصير بيداغوجيا هو في حقيقة الأمر مهنة عظيمة و بالرغم من عدم حديثنا عن البيداغوجي ، فنحن كلنا بيداغوجيون . لأن الناس الذين يصرحون أنهم ليسوا ببيداغوجيين يخدعوننا ، يمارسون البيداغوجية ، لأنهم لا يدرسون الرياضات فحسب او التاريخ و الجغرافية ، إنهم ينقلون عدة أشياء أيضا . ينقلون القيم ، و تمثلات المجتمع ، وصور المعرفة و تصورات العلاقة إزاء المعرفة . لا وجود للرياضات الخالصة و الصرفة . هنالك دائما الرياضات زائد التصور الذي نحمله عن النجاح هل أنجح على حساب الآخرين ؟ أم سأنجح صحبة الآخرين ؟ أم سأنجح مستندا على التعاون ام سأنجح بسحق جاري ؟ هل علاقتي مع المعرفة هي علاقة كشف ام علاقة فهم و استيعاب ؟ في العمق فالكل بيداغوجي ، وهذه هي المأساة . لكن القلة القليلة هي التي تفكر في الرهانات البيداغوجية لممارساتهم . اما الآخرون فهم يزاولون البيداغوجية بدون توضيح المعنى ، إذن هم ، في عدة مناحي ، عميان .
الحياة البيداغوجية : حينما قدتم تعريفا للبيداغوجي ، فعلتم ذلك من باب غاية فعله و بفضل الوسائل التي يتخذها لتحقيق مبتغاه . لقد صرحتم بتقديم إذن هنا اسم « البيداغوجي » المربي الذي يتخذ لنفسه كهدف تحرير و عتق الاشخاص الموجودين تحت سلطته ، البناء التدريجي لقدراتهم في اتخاذ القرار بأنفسهم فيما يعود لتاريخهم الخاص ، و الذي يتوخى تحقيق ذلك عبر وسيط التعلمات المحددة . »
فيليب ميريو : هو ذا ، « و الذي يتوخى تحقيق ذلك عبر وسيط التعلمات المحددة » ، أي بمعنى عبر الرياضيات ، و التاريخ ، و الجغرافية ، و الخفاف canoë ، و الزورق ، و البناءة أو شيء من هذا القبيل . يستعمل البيداغوجي وسيط التعلمات .
الحياة البيداغوجية : هذا صحيح . لكن قلتم ، لديه كهدف عتق و تحرير الاشخاص . لكن هناك مدرسون لديهم هدف تلقين المعرفة .
فيليب ميريو : نعم ، لكن المعرفة ، لأي شيء تصلح إن لم تكن لعتق الناس و التمكن من استقلالية آرائهم ؟ ماذا يجدي نفعا في تعلم الصغار الكلام إذا كان القصد هو أن لا يتكلموا .
الحياة البيداغوجية : لا يتكلمون في المدرسة كثيرا .
فيليب ميريو : أجل ، لدي جملة قاسية بعض الشيء حيث أقول فيها : « إذا أردنا منع الاطفال عن الجواب ، فمن الأفضل عدم تعليمهم الكلام .» لكن نعلمهم المعارف في حد ذاتها . إنها قضية التصور للثقافة . ما هي مقاصد المعارف ؟ هل تتحدد في شرعية المعلم و أجرته ، هل هي معاودة الانتاج للمجتمع؟ بالنسبة لي ، الامر ليس هذا . بالنسبة لي ، إن المعارف التي ندرسها في المدرسة ، هي معارف من الضروري مساعدة الاخر في فهم و تفهم المستقبل و التحكم فيه . ليس تحكما شاملا ، لأننا لا نستطيع فعل ذلك أبدا ، لكن أن نفهم و نتحكم في التاريخ و المصير المشترك ، هذا شيء أساسي و مهم بالنسبة لي . التاريخ و الجغرافية و الآدب أشياء ممتعة لو ساهمت عند الآخر في هذا الاستيعاب و في هذا التحكم .
الحياة البيداغوجية : هل للبيداغوجية معارفها الخاصة ؟
فيليب ميريو : كلا ، أعتقد ان البيداغوجية لا تملك معارف خاصة ، مثل الطب او السياسة . تحديدا ، الطب يقتبس من البيولوجيا ، و من الكيمياء ، الخ. البيداغوجية تستعير من السيكولوجيا ، و من سيكولوجيا الجماعات ، و من ديداكتيك المواد . البيداغوجيا هي علم الفعل ، تستعير من الميادين الايبستيمولوجية الجامعية المختلفة التي ستعمل على تفسيرها على ضوء الاسباب الغائية بصدد نشاط ما . غير أننا نقبل هذا الامر على مضض – في حين أن حضارات اخرى قبلته تماما – و السبب هو أننا نحيا في عالم حيث الواقع مقسم حسب الحقول و الميادين العلمية . الشجرة لا توجد ، ما يوجد ، هو شجرة البيولوجي ، شجرة الشاعر شجرة المختص بالأرصاد الجوية ، شجرة الحارس الغابوي . لكن وحدة الشجرة قد انحلت و ذابت بين مختلف المواد . إن التربية مثل الشجرة ، يمكن مقاربتها عن طريق السوسيولوجيا ، و عن طريق السيكولوجيا ، الخ . لكن الذي يجعل منها وحدة ، هو الموضوع التربوي . لذا فالبيداغوجية ليس لديها أي ظنون و وساوس حينما تستعير من المواد الاخرى . لا يشعر الطبيب بأي تردد عندنا يستعير من المواد المختلفة ، البناء الذي يبني منزلا يستعير تماما من الفزيائي الذي درس دينامية الاشياء ، و من الكيماوي ، و من المهندس ، و من الجبر و الأعداد . و لماذا نحن الذين نصنع الانسان لا يحق لنا الاعارة ؟
مادة الفعل l’action لا يمكنها أن تكون مادة ابيستيمولوجية موِّحدة . فهي مادة لا تتوحد إلا بوساطة غايتها الصادرة من الفعل . بالنسبة للباقي ، إنها بالضرورة مقتبسة .
إذن اعتقد بوجود بيداغوجيين ، بوجود هناك بيداغوجية ، بالمعنى حيث يوجد انشغال بالتربية عبر وسيط التعلمات ، لكن أظن ان البيداغوجية كعلم لا وجود لها . لا أعتقد في وجود العلم البيداغوجي ، على سبيل المثال . من الأفضل ، من الممكن التحدث عن علوم التربية ( بصيغة الجمع ) ، من أجل توضيح جيدا أن هنالك تربية ، مثلما نبني منزلا ، غير أن هناك عدة مواد تساهم في بناء هذا المنزل .
ما يجب عدم خلطه بالنسبة للمنزل ، فقط ، إنما هو التجهيزات و المواد التعلمية التي نستعيرها و ما يسعى الواحد و الآخر منا من وراء هدف الاصلاح . إننا نقوم بالخلط في البيداغوجية في معظم الاحيان . ننسى أننا نقوم بالتربية و لا نهتم إلا بالتجهيزات ، كأنما البناء ينسى ان المنزل يقام من اجل أن يصبح مؤهلا بالسكان و لا يهتم سوى بالتوازن الخاص بالكيفية و بالطريقة التي يبنى بها البيت ، أي مختلف المواد التعلمية المستعارة . في أغلب الاوقات ، ننسى تهذيب الطفل ، و ننشغل بمعرفة فيما إذا كانت السيكولوجيا و السوسيولوجيا على قدر كبير من الانسجام و التساوق .
الحياة البيداغوجية : هذا حوار بين الفن و العلم تماما .
فيليب ميريو : نعم ، لكن كلمة « فن » تزعجني بعض الشيء لأنها تحيلني إلى فكرة الكاريزماتية التي يصعب تلقينها . و الحالة هاته أظن ان البيداغوجية ليست قابلة للتلقين transmissible أي بمعنى نلقن علما جاهزا لأي كان لكن نستطيع تعلمه لأنه يندرج في نظام التدبير . بنفس الشاكلة التي نقدر على تدبير بناء المنزل على تدبير حي سكني ، يمكننا تعلم تدبير التربية لكن بمعية الحضور الدائم للغاية و مختلف العناصر المساعدة لبلوغ هذه الغاية . لكن يمكن تعلم هذا . الامر ليس فنا فطريا .
الحياة البيداغوجية : و أخيرا البيداغوجي الممتاز هو الديداكتيكي الممتاز ، ذلك الذي ، كما حددتموه ، « ينظم الوضعيات التعلمية و هو يحاول مراقبة و تتبع كل المتغيرات ، يطرد المحتمل ، و يلغي الطارئ ، ليصل إلى تحكم تام في آلية تعمل بكل تأكيد . » هل يمكن اكتساب هذا التحكم حتى خارج الممارسة التعليمية ؟
فيليب ميريو : غير مؤكد . لهذا السبب من الواجب على التكوين المستمر أن ينوب عن التكوين الأولي . لكنني أعتقد ان التكوين الأولي من المفروض عليه أن يكون مشاكلا لما نرغب في إحداثه لدى المدرسين . بعبارة أخرى ، و هذا احدى الحالات الثابتة في جميع المعاينات التي قمنا بها ، لا يفعل المدرسون أبدا كل ما شرحناه لهم أنه الواجب فعله مع تلامذتهم . دائما يفعلون ما قمنا به أثناء صحبتهم و بمعيتهم . و أنا جد مقتنع أن لو اشتغلنا بتكوين المدرسين مشيدين آليات من أجل تكوينهم انطلاقا مما نرغب و نتمنى أن يفعلوه من أجل تلامذتهم ، سنحصل أنذاك على أوفر الحظوظ بأن ينجزوه مع تلامذتهم .
أيضا ، لقد أشرتم في مقطع حيث أتحدث فيه عن « البيداغوجي الديداكتيكي » و رغبته في التحكم . أعتقد أنه يوجد هنا ، في البيداغوجي ، من يتمنى الاستحكام و التحكم في الأشياء ، من يرغب في فهم كيفية اشتغال التعلمات قصد بناء الوضعيات التي سوف تعمل تماما على مساعدة إبرازها . لكن أظن أن هذه الرغبة في التحكم يمكن أن تشكل خطرا لأنها قد تؤدي إلى الحمق . في بعض المرات أقول بنفسي أنني كنت مريضا بالقابلية للتربية . لما كان لدي تلاميذ من الصنف الصعب جدا لا يقدرون على فهم القاعدة الثلاثية règle de trois ، في بعض اللحظات ، بقدر ما كنت مغشيا من جراء الواقعة و إلى حد أقررت فيه العزم بالسير و المواصلة بقدر ما كان من الأفيد لي أن لا أمتلك اللاهب في يدي !
يجب دائما أن تكون رغبتنا التحكمية تتأرجح بواسطة ما سميته بعد حين باللاتبادلية ، أي قبول الاخر بالانفلات إلى حد ما من السلطة التي نبحث عن ممارستها ، على الرغم من البحث وجوبا على مزاولة هذه السلطة . إننا نتواجد في وضعية تناقضية .
الحياة البيداغوجية : لقد أشرتم على أن المدرسين سيشتغلون مع تلامذتهم وفق ما قمنا بمعيتهم . و الحال هنا ، نجد مدرسو الاعدادي يتلقون تكوينا أساسه موادهم التخصصية . ثم بعد ذلك يتلقون تكوينا قصيرا يشبه تكوين المعلمين . لكن هنا حيث ندرس لهم العلوم مثلا ، فإننا لا ندرسها لهم كما ينبغي أن تدرس مع التلاميذ .
فيليب ميريو : إن هذا الأمر مؤسف . من الواجب على كلية العلوم أن تقبل بأن الاستعداد و التهيؤ لمهنة المدرس إنما هو استعداد خاص ، يختلف عن نظيره الذي يهيئ لمهنة المهندس . اعتقد أنه من الضروري تقبل فكرة أن حينما نهيئ أناسا لتدريس الفيزياء او الجغرافية ، لا نهيئ أناسا لكي يصبحوا مهندسين او جغرافيين . و لذلك من اللازم دائما أن نقدم لهم المعارف من منظور نشأتها و تأسيسها و تكوينها الجنيني و ليس من منظور نتائجها .
أظن أن هذا هو لب المشكل . غالبا ما تدرس الجامعات المعارف على أساس أنها ملقنة كنتائج و ليس كاكتشافات . لا بد من وضع المدرسين الجدد في حالة فهم هذه المعارف و كيف تأسست . الأمر الذي يعني بالمشخص ، لهؤلاء الناس المتواجدين هنا ، أنه لا بد من التعاطي بكثرة لتاريخ مادتهم . لأن التاريخ يساعد في معرفة كيفية تطور الأشياء . لا بد من القيام بمزيد من الأعمال التجريبية ، اي المطالبة من الطلبة بتقديم أعمال العرض و المناولة ،الخ .
التغيير الجذري الأساسي ، يوجد هنا . هل هذه الدراسات ستضع المدرس الجديد و القادم على خط التماس بداخل معرفة حية ، في طريقها للبناء ، ام سنقدم له معرفة متحجرة و ميتة فقط ، حيث نتأكد من أنها قابلة للاكتساب ؟
الحياة البيداغوجية : فلنتناول قليلا المسألة الحرجة جدا ، نسبة للمدرسين و للمجتمع كله ، مسألة تحويل المعارف transfert de connaissances . تقولون : « على البيداغوجية التساؤل بصدد الوسائل المتخذة لكي تجعله أمرا ممكنا .» ما هي هذه الوسائل ؟
فليبب ميريو : سأتناول الموضوع باختصار شديد لأنه موضوع جد صعب و مثير للنقاش أيضا . في فرنسا ، مثلما أحس بالأشياء ، و أعتقد أنه صحيح بالمثل في العالم الانكلوساكسون ، و صحيح بلا شك بالنسبة لكيبيك أيضا ، يوجد هناك تياران من الفكر :
اول تيار فكري أساسي يكمن في تفضيل الميتودولوجيا و التعلمات الأساس ذات النوع الشكلاني formel وفق افتراضية أن حينما يغذو هذا الامر في عداد المكتسب ، فإننا سوف نشيد فوقه المعارف ذات النوع التقاني . ينتج هذا التيار أعمالا ممتازة و من جودة رفيعة . يخطر ببالي بالخصوص برنامج الاغناء الاداتي (PEI ) لفورشتين ، و معامل الاستدلال المنطقي ، الخ . إن فرضية هذا التيار تنطلق من ضرورة إعادة البناء من القاعدة ، على مستوى العمليات الذهنية الأساسية ، ذكاء الشخص . فبمجرد ما نقوم بهذا الأمر ، ها هو أمامنا الشخص و قد استعد لتملك المعارف .
في مقابل ذلك ، لدينا التيار الثاني الذي ينظر إلى ان لا وجود لنشاط ما خارج ضغوطات و إكراهات المحتويات نفسها . معنى ذلك ان برامج الاغناء الأداتي ( PEI ) تخلو من الفائدة المرجوة سوى تعليم ( PEI) ، أي أنها لا تدرس أي شيء من شأنه أن يصير محولا خارج وضعية التعلم لـ ( PEI ) و أنه إذا أردنا تعلم الميكانيك ، يجب تعلم الميكانيك . إن هذا التيار يرتكز فضلا عن ذلك على مكتسبات : فالطفل الذي يحسن تقويم الأطوال لا يعرف تقويم الاوزان . إذن ، التحدث عن قدرة التقويم بعبارات مضخمة جدا ، هذا أمر لا معنى له .
نحن بصدد موقفين : موقف يريد تكوين هذه القدرات ، القابلة للنقل و التحويل قبليا ، و موقف يعتبر أنه من الضروري على التكوين الانطلاق من الأشياء الدقيقة ، و العمل على إيجاد أجوبة لمشاكل دقيقة .
و الحالة هذه ، ما يجعل النقاش غامضا و هو أننا نخلط بين نوعين من القضايا . نخلط بين قضية ذات بعد فلسفي و قضية سيكولوجية الجانب . بتعبير الفلسفة ، يعتبر التحويل le transfert ضرورة ، أي أننا سنعبر عن التعلم الذي لم يتحول على أنه « تعلم غبي » ، لا تحرري . لكن حسب السيكولوجيا ، نلحظ أن هذا التحويل ينم عن صعوبة كبيرة اكثر مما كنا نتصوره . وجدنا أنفسنا إذن أمام تحد يجعل من التحويل او النقل ضرورة من الضرورات لأنه يعد عنصرا من المقاصد و الغايات الاساسية لكنه يمتاز بصعوبة بالغة و مفاجئة و ان كيفما كان الحال ، فلا يكفي أبدا ذكره حتى يصبح ساري المفعول .
كيف نحصل على تحويل ذكي ؟ أرى أنه من الواجب العمل على تطويق المشاكل . ليست القضية كامنة في معرفة فيما إذا كانت القدرات موجودة مثلا كالقيام بتحليل ، و تركيب ، و كونك منتبها ، و متقنا للتقويم ، الخ . المشكل قائم في معرفة ما هي نوعية القضايا التي يتحتم على الطفل تعلم حلها و حينما يتقن حلها في وضعية معطاة هل بمقدوره حلها في سياق مغاير . انطلاقا من اللحظة التي نطرح من خلالها هذا المشكل – هنا المشكل المطروح هو قضية هدم السياق ، بمعنى التساؤل حول عملية تسهيل لدى التلاميذ اكتساب قدرة إخراج المشكل من السياق المدرسي le contexte الذي تعلموا الحل بداخله .
عادة ما تقدم المعارف المدرسية للتلاميذ كمفاهيم و كبرامج ، و ليس كحلول للمشاكل . في اللحظة التي نقوم بإبراز المعارف المدرسية كحلول للمشاكل ، فإننا نحدد مع التلاميذ ما هي المسائل التي على المعارف إيجاد حلول لها و في أي مكان نلتقي بهذه المسائل . لما نبحث بشكل دقيق و ممنهج عن نوعية المسائل المتعلقة بالمعارف المدرسية و حلولها ، ستكون قضية التحويل في رأيي قد وجدت طريقها للحل بشكل موسع لأن التلميذ أصبح مالكا لهذا الموقف الذي يكمن في المساءلة و التساؤل عن أي نوع من المسائل يقدر على حله بواسطة المعارف التي درسها . بالنسبة لي ، إن التحويل الأصيل ، هو التعرف في الواقع عن المسائل التي تجد حلولا لدينا . لكن من الضروري أيضا القيام بذلك في القسم حينما نتعلم شيئا ما . حتى ولو كان ذلك قصيدة شعرية . إن شعر رامبو ، بالتأكيد نظم من أجل حل مسألة problème . لكن أبدا مسألة من نوع تفكيك دراجة . القصيدة المنظمة لحل المسألة هي قضية تهتم بفهم الذات و استشفاف ما يوجد بداخل الذات من إحساساتي الخاصة بشكل واضح ، كمثال . فتحويل رامبو ، هذا معناه أن تكون قادرا على التوغل بعيدا بحثا عن قصيدة رامبو في احدى الأمسيات حيث يلتف الغموض بروحك و تريد ان تجد ذاتك أمامك بطريقة ذكية .
الحياة البيداغوجية : غير أنه يوجد شيء آخر . غالبا ما يقول الآباء : عندما يكتب ابني في المدرسة فإنه لا يترتكب الأخطاء . عندما يترك لي كلمة معلنا فيها أنه ذاهب لزيارة صديقه ، فهناك أخطاء كثيرة .
فيليب ميريو : إنها قضية ، قضية أخرى أسميها التحديد الفوقي للمعايير الوظيفية من قبل المعايير الاكاديمية في المدرسة . سآخذ مثالا بسيطا قمنا بدراسته في السنة الماضية و يهتم بقدرة التلاميذ في تحرير ملخص لتجربة .
لو طلبت من تلاميذ السنة الاولى و الثانية ثانوي تحرير ملخص في العلوم الطبيعية ، لسوف ينجزونه لك . و الآن ، اطلب منهم : بماذا عرفتهم أن هذا الملخص هو ملخص ناجح ؟ لقد طرحنا السؤال على ألف تلميذ . ما كان أحدهم بقادر على أن يقول : الملخص الناجح هو عندما لا يشاهد شخص آخر التجربة بإمكانه إعادة هذه التجربة فقط انطلاقا من هذا الملخص . و مع ذلك ، إن هذا هو الملخص الناجح . و الحالة هذه ، و لا تلميذ واحد من بين ألف تلميذ كان بمقدروه قول ذلك . بالمقابل ، كانوا يقولون : ملخصي ناجح لأنني استعملت درس الأسبوع الأخير ، لأنني لم أرتكب الأخطاء النحوية ، لأنني وضعت رسومات ، لأنني استخدمت تلوينات . بعبارة اخرى ، لقد انتهينا بجعلهم يعتقدون في المدرسة أن النجاح و التفوق يقاس بجنس التوافقات الاكاديمية بدل معايير الفعالية .
إن الطفل لا يعرف ماذا يعني الملخص الناجح ، لكنه يعرف ان أستاذه مصاب بالهوس ، وأنه يطالب بالحروف الكبيرة في بداية الجملة ، و النقط و الألوان الثلاثية . إلى حد و لا يزال نسبة للتلميذ ، ليست المدرسة ذلك الفضاء حيث نقوم فيه بالأشياء المتضمنة للمعنى لكنما الأشياء التي تتلاءم و أوامر بعض المدرسين أكثر أقل تشددا و سيطرة . لكن حينما لا نتواجد في المدرسة ، فإن هذه الأمور لا نهتم بها إطلاقا .
لو ذهبت إلى ضواحي مدينة ليون و طلبت من تلميذ يقطن مانكيت ( الحي الأكثر صعوبة في ليون ) أن يكتب لك على ظهر ورقة كيف تتم زيارته في البيت سيقول : « تتابع سيرك نحو الامام ثم تدور جهة اليسار . تبين له أن كلمة يسار « goche » لا تكتب هكذا . سيرد عليك أن ليس للأمر أهمية لأنك لا تستطع الذهاب إلى المكان .
و مع ذلك لو كان تلميذا نجيبا ، سيكتب : « تتابع سيرك نحو الأمام و تدور جهة الامام » . مع العلم أنه لا يعرف كتابة كلمة « يسار / gauche » و واضح أنك لن تأتي لزيارته و إنما فقط لتصحيح هنا خطأه الاملائي ، فيستعمل الكلمة التي يحسن كتابتها . و هذا يتماشى أساسا مع الواقعة من حيث أن في المدرسة تقام التمارين بصفة رئيسية وفق أحكام و مواضعات الأكاديمية و ليس وفق مدلولاتها بينما في خارج في المدرسة فإننا نتصرف بمدلولات اجتماعية ؛ لا نعير أي اهتمام للمعرفة الاكاديمية . هذه الوحدة هي التي يجب البحث عنها .
الحياة البيداغوجية : في الكتاب الأخير، تحدثم كثيرا عن المجلس الميتودولوجي ، في هذا الكتاب الحالي الموجود بين أيدينا تتحدثون عن الميتامعرفية . هل من اختلاف في الأمر ؟
فيليب ميريو : كلا . يُنظر للمجلس الميتودولوجي من زاوية المدرس ؛ اما الميتامعرفية ، فهو ما يحدث في رأس التلميذ . لكن الحقيقة هي ذاتها . المجلس الميتوولوجي يؤسس الطريقة التي بفضلها يساعد المدرس التلميذ لكي يزاول الميتامعرفية ، أي الفكر حول طريقته التي يتعلم بها ليصبح مستقلا .
الحياة البيداغوجية : و هذا ، هو الأهـم ؟
فيليب ميريو : بالفعل ، هذا هو الأهم على مستوى جودة التعلمات . هذا هو الأهم على مستوى فلسفة التعلم apprentissage لأن حتى تكون قادرا على فهم كيف تفهم ، هذا يشكل في حد ذاته أكثر من الفهم . المهم هو أن تصبح مستقلا حقيقيا . في الواقع ، فأنا جد مقتنع لأنني قد جربت هذا الأمر مع صغار الحضانة و رجال الجامعة على حد سواء ، أن حينما نضع أي أحد في وضعية التعقل فيما يخص طريقته التعلمية ، سيكتشف عدة أمور بذكاء عجيب .
الحياة البيداغوجية : كل حوار حول التربية يعيدنا ، على ما يبدو ، إلى قضية تكوين المعلمين . لقد عدت إليه و عالجتم الأمر في كتابكم . غير ان في الكتاب الأول ، في إشارة ، قلتم « أتساءل ، فعلا ، هل اللجوء إلى الآدب و المسرح و السينما ،الخ . هل بودكم تدقيق فكرتكم بعض الشيء حول هذه النقطة في ارتباط مع الثقافة العامة للمدرسين .
فيليب ميريو : خطرت ببالي هذه الفكرة لأن بعض السيكولوجيين يقولون أن المجرم هو ذلك الذي لا يقدر على تخيل آلام الاخر ، في حين أن بعض المدرسين ، الذين ليسوا كلهم بمجرمين ، بعيدين من هذا ، إنما يلحقون الضرر بالتلاميذ بسبب عدم مقدرتهم على تفهم الوضعية و ما تحمله من مأساة كبيرة و حالات من الوجدان . إنني اعتقد أنه من الممكن استحضار مقاربة العلاقة البيداغوجية من خلال الآدب ، في تكوين المعليمن ، مثل السينما ، و المسرح ، و ذلك فقط لكي يدرك المعلم ما يمكن أن يعنيه هذا الأمر كونه يصبح تلميذا ، يصبح مرفوضا ، و محتقرا ، و أن يشعر المعلم به بإحساسه .
اعتقد أن الانفعال هو أداة للتكوين ، و لما أقول هذا ، فإنني لا أتكلم عن التحسيس ، قصدي هو الانفعال الحقيقي . لو انتهيت من مشاهدة فيلم أو قراءة كتاب بعدما تملكني إحساس و انفعال قويين ، أترك المكان و أنا مكوَّن ، و ليس مكوِّنا بمعنى أصير أكثر إلتصاقا بالانسانية ، برموزها التي يعبر من خلالها الطفل الحدود و التي نسيتها في الغالب لما كبرت و أصبحت راشدا . إننا ننسى ما معنى الخوف في حالة العزلة امام سبورة مع ثلاثين عين تراقبك ، ننسى خوف التلميذ الغائب امام مسألة لا يفهمها .
عندما استحضر هذه النصوص ، أظن أنها قضية الثقافة العامة لكن إجمالا هي قضية القبول لملاقاة الآخر بعاطفة قوية تكشف لنا مكنون و حقيقة العلاقات الانسانية ، علاقات من شأنها مساعدتنا على أن نصير اكثر صفاء ، نحطم أقل ما يمكن من القيود و الاغلال .
الحياة البيداغوجية : نقول أحيانا ان المدرسين يفتقدون لهذه الثقافة العامة بغية مساعدة التلاميذ للقيام بالربط بين التعلمات . في تكوين المعلمين ، هل يوجد لديكم انشغالا بهذا البعد ؟
فيليب ميريو : أتمنى أن نهتم بذلك أكثر . لا يزال تكوين المعلمين متمركزا بقوة على المواد التعلمية و على مقاربة تقانية . و هذا نقاش قديم . في كل مرة نسمع أيا كان يقول هذا الكلام ، نتهمه بمحاولة تقليص المستوى العلمي للاساتذة لهدف استبداله بنوع آخر من مربى السيكولوجيا . ليس الامر هكذا إطلاقا . لست ابدا من أنصار المطالبين بحدف الفيزياء من البرنامج الدراسي المعد للمدرسين الجدد ؛ أنا معهم في تدريس الفزياء بشكل مختلف عما يتم تدريسه للمهندسين الجدد . أتمنى أن تدرس الفزياء و ذلك بدمجها مع الجوانب التاريخية ، و الاييستميولوجية ، و السيكولوجية .
الحياة البيداغوجية : أريد أن أقول كلمة حول التقويم . هنا يقول المدرسون بأنهم مطالبون بالتقويم طيلة الوقت ، بأنهم في حالة دائمة و مستمرة للتقويم و لا يمتلكون تقريبا الوقت الكافي لمزاولة التدريس .
فيليب ميريو : هذا صحيح ، عندنا نفس الشيء ! أرى في التقويم مكانة كبيرة . من الواجب اتخاذ المزيد من الوقت في التعلم و و القليل من الوقت في التقويم . إن التقويم بقدر ما يمتاز بالقوة بقدر ما يشل حركة التعلم . مخافة من الوقوع في الخطأ و إصدار الأحكام ، لا يبحث التلاميذ عن الحل ، لا يجرؤون على تقديم مقترح خوفا من الخطأ . يوجد نوع من المرحلة التقويمية حول النظام التربوي الذي يتجاوز بعيدا حتى تلك اللحظات حيث نجري فيها التقويم ، مما يجعل التلميذ يشعر دوما بأنه مقوم ( مراقب ) ؛ هذا الأمر يعرقل سيره و يشله في تلمساته ، و في خياله ، و في بحثه عن الجواب .
الحياة البيداغوجية : يبدو لي أن الرسالة المهمة في آخر كتابكم ، في التربية أكثر من اي شيء آخر ، و هي انه من غير الممكن السماح لأنفسنا بالتناقض ، بمعنى أن الفعل يجب أن يساير و يطابق القول ، أن الوسائل يجب ان تتلاءم مع الغاية المنشودة ، في كلمة من الواجب أن نفعل ما نقوله و أن بهذا المعنى كل الممارسات الديداكتيكية ليست محايدة ؟
فيليب ميريو : اعتقد أن فكرة الانسجام و الملاءمة هو فكرة قوية جدا . هذه الفكرة في روحي قوية جدا جدا . أعبر عنها في معظم الأحيان متكلما عن ضرورة التشبت بالقول و مصداقيته . أعتقد أن التربية هي الفضاء المخصص لتثبيت القول المتعاهد عليه . و القول المتعاهد عليه هو رسالة تربوية عظيمة. لا شيء يفقد ثقة المربي سوى عدم الوفاء بالقول ، يعني التلميح بأشياء و العمل بمقتضى ضدها ، أن يتم إعلان عن أمور كواجبات تتخذ من طرف التلاميذ و لا نفعلها نحن بأنفسنا . الوفاء بالقول ، هو أمر صعب لأننا نتواجد دائما بين مقتضيات عدة . لكن القول المؤكد الثابت هو بلا شك أفضل وسيلة نقدمها للطفل كي نمنحه ثقته ، و أبعد من هذا ، كي نقدر على إلزامه بعدم إهمال أقواله . لكنه أمر صعب ، يلزم المعاودة في كل يوم .
لويس بروسار – الحياة التربوية – الرقم 74 ، شتنبر – اكتوبر 1991 ص : 4 -8
حوار مع فيليب ميريو philppe Meirieu ، عضو المجلس الوطني للبرامج بفرنسا
بيداغوجي من العيار الثقيل ، مدير مقاطعة علوم التربية بجامعة Lumière – Lyon 2 ، فيليب ميريو أيضا عضو في المجلس الوطني للبرامج و عضو بالمجموعة التي تقود إصلاح تكوين المدرسين بفرنسا . صاحب عدة مؤلفات في ميدان التربية . في السنة الماضية قمنا بمراجعة كتابه ماقبل الاخير ، التدريس ، سيناريو لمهمة جديدة . خلال زيارته العابرة لكيبيك شهر ابريل المنصرم ، اغتنمنا الفرصة قصد استجوابه حول اخر كتابه بعنوان خيار التربية . الاخلاق و البيداغوجية .
الحياة البيداغوجية : لقد أشرتم في كتابكم إلى أننا في التربية لسنا متيقنين دائما بعد القيام بجميع المحاولات التجريبية . هل تعتقدون أن فشل المدرسة في إنجاح أكبر عدد من التلاميذ هو فشل للبيداغوجية ؟
فيليب ميريو : إلى حد ما هو فشل للبيداغوجيا ، إلا أنه فشل للمجتمع و للتلميذ أيضا . هنا نلمس خطورة و أخاف من أقول بعض الكلام أو أقوم باختزاله : إن المسؤولية ليست مثل الحلوى يمكن اقتسامها .
لا اعتقد أنه من الممكن القول فيما لو كانت البيداغوجيا مسؤولة عن هذا الفشل ، فإن التلاميذ ليسوا مسؤولين فردا فردا عن هذا الفشل ، لا أسرهم و لا المجتمع . ليست المسؤولية كمثل كمية ثابتة يمكن أن نأخذ منا قسطا ، فكلما أخذ أحد جزءا منها ، تبقى منها للآخر الشيء القليل . اعتقد أن ماهية البيداغوجيا ذاتها هي التي تريد أنه كلما ازددنا حسا و وعيا بالمسؤولية اتجاه أمر ما ، كلما جعلنا الاخر يشعر بالمسؤولية أكثر . و كلما ازداد أي أحد بالمسؤولية ، كلما أصبح الاخر مسؤولا أكثر فأكثر . اعتقد أنه من المهم جدا ، في علاقته مع التلميذ ، يشعر البيداغوجي تماما بالمسؤولية في إنجاح التلميذ . و حينما يشعر بالمسؤولية كاملة في إنجاح التلميذ ، فلا يفهم أبدا من هذا أن أسرته غير مسؤولة و لا المجتمع غير مسؤول أيضا ، و لا التلميذ نفسه بعيد عن المسؤولية. جميع هذه المسؤوليات تعمل و تتفاعل فيما بينها . لو لم ألقن للتلميذ الفكرة على أنني مسؤول عن نجاحه ، سيقرأ التلميذ بدوره في تصرفي على أنني لا أومن في نجاحه و في تقدمه و لن يشعر بالتالي بأية مسؤولية .
أغضب أحيانا في وجه المدرسين أو الزملاء الذين يقولون : لو شعر الاستاذ بالمسؤولية أكثر مما ينبغي ، سوف يشعر التلميذ بتلاشي و فقدان أية مسؤولية. أنا أقول العكس هو الصحيح . إذا لم يبد الاستاذ أي حس للمسؤولية ، في علاقة تشاركية ، لن يشعر التلميذ بأنه مسؤول ، فيستولي عليه الجمود و يفقد الحركة بعض الشيء . يحسب أنه علامة فقط و لا يتصف بالدينامية . إن المسؤولية تفاعلية : بقدر ما أنهل منها ، بقدر ما أقدم العطاء . بالاضافة إلى ذلك ، و هذا أحد الثوابت في التربية : كلما آخذ منها ، كلما أعطي المزيد ، و بقوة ما أعطي ، يتبقى لدى أكثر مما أعطيت . اعتقد أنني كتبت في مكان اخر أنه حينما نتحدث عن « المال » كلما نزيد في إنفاقه كلما ينتاقص ، لكن في موضوع المعرفة ، و التضامن ، و القيم ، لو منحت كل هذه الاشياء ، فإنني لا أزال امتلكها أكثر من اي وقت مضى . اعتقد أن الأمر هو احدى القواعد الثابتة في نشاط التربية .
هناك قسم ثاني في سؤالكم المتعلق بالجدل الاجتماعي الدائر حول مسؤولية البيداغوجيين و هنا ، اعتقد أننا غالبا ما نخطئ في الخصوم و في المنهج .
في الصحافة الفرنسية مثلا ، نتهم البيداغوجيين في هذا الوقت كونهم تسببوا في تقلص المستوى إلى حد ما لأننا نقول عنهم بأنهم « متسامحين » ، اهتموا بالأشخاص أكثر من اللازم و ابتعدوا قليلا عن المعارف ، الخ . اعتقد أنها معاينة جد سيئة ، معاينة تدعو للعبث لأنه تحديدا لا يمكن الانتباه للمعارف إن لم نكن حذرين يقظين اتجاه الافراد الذين سيمتلكون هذه المعارف . و لا يمكن الحصول على إنتباه الافراد في غياب مساءلة طبيعة هذه المعارف التي يتوجب امتلاكها .
الحياة البيداغوجية : في كتابكم الاخير ، قمتم في أول الأمر بمجاهرة حقيقية حول الايمان بعقيدة « القابلية للتربية » éducabilité الموجودة لدى الكائن البشري . هل تعتقدون أن هذا الايمان العميق و القوي هو احد المقدمات من أجل أن نصبح مدرسين ؟
فيليب ميريو : لا اعتقد أن هذا الايمان يمكن أن يصبح احد الشروط لممارسة التدريس ، أعتقد أنه يؤسس فعل التدريس . بل إنه بناء منطقي . إذا لم اومن بأن الكائن الموجود أمامي هو قابل للتربية ، فمن الأفضل لي أن استبدل المهنة . فلا فائدة من الاستمرار في المغامرة و المجازفة من أجل تعليمه أي شيء .
إنما ، احد الاسئلة التي أطرحها على نفسي ، هو : من اين أتى ، هذا الايمان ؟ اعتقد أنه آت من توجه أخلاقي في الأساس ، أحاول التوضيح أننا قصرنا من قيمته في التدريس . كيف لنا اكتسابه ؟ ليس بالخطاب أبدا على وجه الدقة . إنما نحصل عليه بما تقدمه أيدينا ، عن طريق ملاحظة تجربة الاخر ، الذي يؤمن في قابليتنا للتربية ، ماذا عساه أن يقدم لنا . الشيء الذي يعني أننا لو رغبنا في المعلمين الذين يؤمنون بقابلية التربية ، استوجب على المؤطرين أن يكونوا منسجمين مع الفكرة هاته و أن يشعر المعلمون أنفسهم كم لهذا الاعتقاد في القابلية للتربية بإمكانيه أن يطور شخصا ما .
الحياة البيداغوجية : تقدمون دور المدرس كوعاء مملوء بالمتناقضات : كونه في ذات الوقت ذلك الذي يؤثر و ذلك الذي يساعد في التخلص من هذا الأثر ؛ يساعد التلميذ في التأقلم مع المجتمع و في نفس الوقت الانفتاح و التحرر ، و مساعدته لكي يصبح حرا ؛ المطالبة بالأحسن وفي الآن نفسه القبول بالأسوء . هل من الضروري ان نكون مازوخيين machosistes بعض الشيء من أجل اختيار هذه المهنة و هل يمكننا أن نتعلم العيش بدون كثرة آلام و جراحات هذه المتناقضات ؟
فيليب ميريو : بالتأكيد . أحسب ان ما أود توضحيه في الكتاب ، هو أن التناقض الاخلاقي للمدرس ليس أكثر تناقضية من كل الاخلاق عموما ، أن الاخلاق هي قبل كل شيء الأولوية المطلقة لواجباتي على حقوقي . أريد أن أقول أن الاخلاق تعني : أنا مدين للاخر تماما لكن الاخر ، لا وجود لحقه عندي . لا حق للاخر عندي لأن لو كان يستحق شيئا في مقابل ما أسديته له ، فإنه سوف لن تكون هنالك أخلاقا أبدا ، بل سوقة قذرة . الأخلاق ، هو مبدأ اللا تبادلية بمعنى حيث الآخر يفرض ذاته علي : من الواجب علي أن أقوم بكل شيء لكي يتعلم و يتربى ، من الواجب علي أن أعطيه كل شيء لكي يقدر على بناء شخصيته ، يتوجب علي مساعدته لكي يفهم المجتمع و البحث عن مهنة ، غير أنني لن ألزمه ، في مقابل صنيعي ، لا خضوعه و احترامه لي و لا حتى نجاحه . و ما أقوله هنا ، يصح للآباء و ليس فقط للمعلمين . كل أب يعمل كل ما في وسعه ليؤمن به الأطفال حول ما يعتقده هو . هناك آباء يقولون في بعض الاحيان : لا يهمني إيمان أولادي فيما أعتقد فيه . لكن حينذاك ، إما أنهم لا يؤمنون فيما يعتقدون او لا يحبون أولادهم . إذا اعتقدنا في شيء ، تحصل لدينا الرغبة القوية في اقتسامه مع أولادنا . إذن التربية هي قضية تلقين شيء ما يقع في قلوبنا و يعز علينا ، لكن التربية أيضا تعني القبول بحرية الاخر . أستطيع أن أهبه كل شيء ، لكنني لا أعتابه أبدا لماذا لم يرضخ لقانوني او لماذا لم يؤد مستحقه . لا يوجد ما أقبح في التربية من أن مربين – سواء أكانوا آباء ، او مدرسين – يقضون أوقاتهم في وضع الناس الذين يعلمونهم في حالة تأدية مستحقاتهم . لأننا لم ننته من تأدية المستحقات و ماذا ؟ و نؤدي الدين لدعم موقفنا المدين و ليس لغرض التحرر من الدين . ليس هناك ما أفظع من سوى هذا السلوك الخانق حيث نضحي لكيلا نقدر على المنح و العطاء ، حيث نقضي جل أوقاتنا ثرثرة في وجه الاخر بأننا ضحينا من أجله ، و نقول له : « أبعد هذا كل الذي فعلته من أجلك .. » كلا ، فعلت كل شيء لأن الكائن البشري جاء إلى هذه الارض معدوما تماما ، لأنه استوجب عليه تعلم كل شيء ، و مفروض عليه أن يتعلم من أبويه ، و من أقرانه ، الخ . لكن استوجب عليه أيضا أن يصير حرية ، أي يصبح شخصا بحيث لا ألزمه التبعية و الخضوع ، و الاعتراف . بمقدروي خفية أن آمل منه الاعتراف ، لكن لا إلزاميته كسيولة تبادلية عما أقدمه من أجل الطفل . جميع الآباء يعيشون هذا الأمر . جميع هؤلاء الذين يدرسون يعيشون هذا الواقع . التربية ، هي أن تمنح أمورا و أشياء لأحد قصد امتلاكها و يغذو ، بصورة ما ، إنسانا جديدا . ليصير قائم الذات بدون قول كلمة شكر و علي أن أتذكر دوما مبدأ اللاتبادلية ، لأنني أكاد دوما مطالبة من الآخر بتقديم حجة فعاليتي .
اعتقد أنه بحوزتي فقرة أسميها « البرهان و العلامة» . هذا معناه أن في التربية ، لا يجب علي ان أنتظر البرهان او الحجة من الاخر و سبب ذلك هو أن الاخر ليس شيئا موضوعا أمامي أنا الذي صنعته . ما انتظره من الاخر ، هو علامة ، أي انتظر حتى يعطيني إشارة بشكل ما لكي نصبح متخاطبين وجها لوجه و ، بصورة اخرى ، أقران .
الحياة البيداغوجية : لكن المدرسين هم دائما في حزن حينما لا ينجح تلامذتهم ؟
فيليب ميريو : في هذه النقطة هناك تناقض أخلاقي . لدي فقرة أخرى تسمى « العناد الديداكتيكي و التسامح البيداغوجي » . لدى المدرسين الحق بأن يقلقوا. من الضروري أن يستمروا في قلقهم هذا لأن إذا لم يساورهم القلق و الحزن ، سوف لن يتدخلوا مصحوبين بمعدات جديدة ، سوف لن يبدعوا مناهج بيداغوجية حديثة . من اللازم ان يصبحوا عنيدين من أجل خلق ظروف التعلم علما أن الاخر بإمكانه التعلم فقط بإرادته الحرة و مبادرته و عن طريق حريته الخاصة . إن هذا الأمر جد صعب لأنه تقريبا يشبه لما أشرتهم إليه بعد قليل ، « المطالبة بالأفضل و القبول بالأسوء » ؛ اي أطالب بالأحسن و أعطي أفضل ما يوجد لدي لكي أحصل على الأفضل ، لكن في ذات الوقت ، أقبل الأسوء و لما أقبل الأسوء ، فإني لا أتخلى عن مطالبة الأحسن . الصعوبة و هي أن تقبل الأسوء و تستمر في مطالبة الأحسن و الأفضل . و السبب في ذلك هو إمكانيتنا في قبول الأسوء قائلين : سأنسحب . لقد كتبت في السابق أنه لا يجب أن نعمل بشكل يجعل التربية تتأرجح على الدوام بين « افعل كما ترغب » و « افعل كما أريد » .
في المساء عدت إلى البيت و ابني يشاهد التلفاز ، بعد الغد سيجتاز مراقبة في الرياضيات . كيف يتفاوض في هذا الأمر . في معظم الأحيان ، حسب هذا المنوال : « افعل كما أريد ، أنا امتلك الحقيقة ، فأنا المربي ، وأنا الراشد . أعلم جيدا أن مراقبتك في الرياضيات هي أهم من مشاهدتك للتلفاز . إذن ، تعمل ما أريده أنا » . ام حسب االمنوال الاخر : « هذه قضيتك ، أنا شخصيا الأمر لا يهمني . فلتأخذ مبادرتك . تحمل مسؤوليتك . تفعل ما ترغب فيه . فإذا لم ترغب مراجعة مراقبتك في الرياضيات ، فلا تراجع »
هو إما أفرض قانوني او أتخلى عن قول أي شيء . أعتقد أن هذين الموقفين بعيدين من جدة الصواب الواحد و الاخر . الموقف التربوي الوحيد ، لكنه شاق و ما أصعبه ، هو مجهود يائس و طويل هدفه هو البحث عما يمكننا الرغبة فيه جماعة . و ما يمكننا رغبته فيه جماعة ، إنما يتموقع في الصيرورة ، و في الزمن الطويل ، و في الصبر ، و أحيانا في المواجهة و الصراع : الصعوبات كثيرة جدا .
إن موقف « افعل كما أريد » هو موقف سهل . إنه موقف الذي أصابه الحزن و خيبة الأمل لأننا ما فعلنا كما أراد . فلنحاول جماعة البحث عما يمكننا الرغبة فيه أجمعين . إن بالأمر صعوبة و شدة إلا أنه يعد المسلك الوحيد لكي نجعل من الآخر كائنا حرا . فهذا استباق لحريته . ما أريد قوله هو حتى إذا لم يكن حرا ، فمفروض علي أن اتصرف كمثلما هو حر بالفعل ، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لجعله حرا .
الحياة البيداغوجية : أشرتم في كتابكم إلى أنه « من الضروري أن نقبل بهدوء فكرة فحواها أن البيداغوجية لا تجد مشروعيتها في وجود وحدة للمعايير الثبوتية كما هو الحال لدى مجموعة المواد التعلمية التقليدية ». أين تجد البيداغوجية شرعيتها و لماذا هي ذات اعتبار أقل من قبل مختصي المواد التعلمية الاخرى؟ و الأمر ليس فقط في الجامعة ، لأن حتى في الاعدادي ، يفضل المدرسون نعتهم باختصاصية موادهم عوض نعتهم بالبيداغوجيين . يحصل لدينا انطباع أن البيداغوجية محصورة في الابتدائي و أن فيما وراء ذلك ، من الواجب أن تصبح عالما بالخصوص .
فيليب ميريو : و هو كذلك . أعتقد أن الأمر آت من حكاية كاملة . لقد نجم هذا الأمر ربما من رعونة البيداغوجيين الذين حسب زعمهم اعتقدوا في أن البيداغوجية يمكنها أن تمارس بدون محتويات ، و بدون مواد تعلمية disciplines ، و بدون موضوعات ، لكن هذا الأمر غير صحيح .
أعتقد أن لو كانت البيداغوجية هي أقل اعتبارا اتجاه العلوم التقليدية ، فمرد ذلك هو أنها علم الفعل l’action في حين أن البيولوجيا او الفزياء او علوم اخرى هي علوم الملاحظة . أضع مباشرة البيداغوجية في نفس الخانة مع السياسة و الطب . إن علوم الفعل ، كالبيداغوجية و كالسياسة و كالطب هي علوم ، كل علم حسب طريقته الخاصة ، يعمل بجانب الانسان لتحسين ظروف معيشته : البيداغوجية بتربية العقل ، الطب بمداواة الجسم ، السياسة بحكامة المدينة .
كذلك أعتقد أن بداخل أدمغة الناس ، التربية ، هي قبل كل شيء « قضية نسوية » ، إنها ليست قضية معقولة ، بل تدبر من تلقاء نفسها ، كل واحد منا لديه أكثر مما يدلي بدلوه في الموضوع .
اتمنى ان نسترجع الفكرة التي من خلالها يمكننا التحدث وجوبا عن البيداغوجي ، أن تصير بيداغوجيا هو في حقيقة الأمر مهنة عظيمة و بالرغم من عدم حديثنا عن البيداغوجي ، فنحن كلنا بيداغوجيون . لأن الناس الذين يصرحون أنهم ليسوا ببيداغوجيين يخدعوننا ، يمارسون البيداغوجية ، لأنهم لا يدرسون الرياضات فحسب او التاريخ و الجغرافية ، إنهم ينقلون عدة أشياء أيضا . ينقلون القيم ، و تمثلات المجتمع ، وصور المعرفة و تصورات العلاقة إزاء المعرفة . لا وجود للرياضات الخالصة و الصرفة . هنالك دائما الرياضات زائد التصور الذي نحمله عن النجاح هل أنجح على حساب الآخرين ؟ أم سأنجح صحبة الآخرين ؟ أم سأنجح مستندا على التعاون ام سأنجح بسحق جاري ؟ هل علاقتي مع المعرفة هي علاقة كشف ام علاقة فهم و استيعاب ؟ في العمق فالكل بيداغوجي ، وهذه هي المأساة . لكن القلة القليلة هي التي تفكر في الرهانات البيداغوجية لممارساتهم . اما الآخرون فهم يزاولون البيداغوجية بدون توضيح المعنى ، إذن هم ، في عدة مناحي ، عميان .
الحياة البيداغوجية : حينما قدتم تعريفا للبيداغوجي ، فعلتم ذلك من باب غاية فعله و بفضل الوسائل التي يتخذها لتحقيق مبتغاه . لقد صرحتم بتقديم إذن هنا اسم « البيداغوجي » المربي الذي يتخذ لنفسه كهدف تحرير و عتق الاشخاص الموجودين تحت سلطته ، البناء التدريجي لقدراتهم في اتخاذ القرار بأنفسهم فيما يعود لتاريخهم الخاص ، و الذي يتوخى تحقيق ذلك عبر وسيط التعلمات المحددة . »
فيليب ميريو : هو ذا ، « و الذي يتوخى تحقيق ذلك عبر وسيط التعلمات المحددة » ، أي بمعنى عبر الرياضيات ، و التاريخ ، و الجغرافية ، و الخفاف canoë ، و الزورق ، و البناءة أو شيء من هذا القبيل . يستعمل البيداغوجي وسيط التعلمات .
الحياة البيداغوجية : هذا صحيح . لكن قلتم ، لديه كهدف عتق و تحرير الاشخاص . لكن هناك مدرسون لديهم هدف تلقين المعرفة .
فيليب ميريو : نعم ، لكن المعرفة ، لأي شيء تصلح إن لم تكن لعتق الناس و التمكن من استقلالية آرائهم ؟ ماذا يجدي نفعا في تعلم الصغار الكلام إذا كان القصد هو أن لا يتكلموا .
الحياة البيداغوجية : لا يتكلمون في المدرسة كثيرا .
فيليب ميريو : أجل ، لدي جملة قاسية بعض الشيء حيث أقول فيها : « إذا أردنا منع الاطفال عن الجواب ، فمن الأفضل عدم تعليمهم الكلام .» لكن نعلمهم المعارف في حد ذاتها . إنها قضية التصور للثقافة . ما هي مقاصد المعارف ؟ هل تتحدد في شرعية المعلم و أجرته ، هل هي معاودة الانتاج للمجتمع؟ بالنسبة لي ، الامر ليس هذا . بالنسبة لي ، إن المعارف التي ندرسها في المدرسة ، هي معارف من الضروري مساعدة الاخر في فهم و تفهم المستقبل و التحكم فيه . ليس تحكما شاملا ، لأننا لا نستطيع فعل ذلك أبدا ، لكن أن نفهم و نتحكم في التاريخ و المصير المشترك ، هذا شيء أساسي و مهم بالنسبة لي . التاريخ و الجغرافية و الآدب أشياء ممتعة لو ساهمت عند الآخر في هذا الاستيعاب و في هذا التحكم .
الحياة البيداغوجية : هل للبيداغوجية معارفها الخاصة ؟
فيليب ميريو : كلا ، أعتقد ان البيداغوجية لا تملك معارف خاصة ، مثل الطب او السياسة . تحديدا ، الطب يقتبس من البيولوجيا ، و من الكيمياء ، الخ. البيداغوجية تستعير من السيكولوجيا ، و من سيكولوجيا الجماعات ، و من ديداكتيك المواد . البيداغوجيا هي علم الفعل ، تستعير من الميادين الايبستيمولوجية الجامعية المختلفة التي ستعمل على تفسيرها على ضوء الاسباب الغائية بصدد نشاط ما . غير أننا نقبل هذا الامر على مضض – في حين أن حضارات اخرى قبلته تماما – و السبب هو أننا نحيا في عالم حيث الواقع مقسم حسب الحقول و الميادين العلمية . الشجرة لا توجد ، ما يوجد ، هو شجرة البيولوجي ، شجرة الشاعر شجرة المختص بالأرصاد الجوية ، شجرة الحارس الغابوي . لكن وحدة الشجرة قد انحلت و ذابت بين مختلف المواد . إن التربية مثل الشجرة ، يمكن مقاربتها عن طريق السوسيولوجيا ، و عن طريق السيكولوجيا ، الخ . لكن الذي يجعل منها وحدة ، هو الموضوع التربوي . لذا فالبيداغوجية ليس لديها أي ظنون و وساوس حينما تستعير من المواد الاخرى . لا يشعر الطبيب بأي تردد عندنا يستعير من المواد المختلفة ، البناء الذي يبني منزلا يستعير تماما من الفزيائي الذي درس دينامية الاشياء ، و من الكيماوي ، و من المهندس ، و من الجبر و الأعداد . و لماذا نحن الذين نصنع الانسان لا يحق لنا الاعارة ؟
مادة الفعل l’action لا يمكنها أن تكون مادة ابيستيمولوجية موِّحدة . فهي مادة لا تتوحد إلا بوساطة غايتها الصادرة من الفعل . بالنسبة للباقي ، إنها بالضرورة مقتبسة .
إذن اعتقد بوجود بيداغوجيين ، بوجود هناك بيداغوجية ، بالمعنى حيث يوجد انشغال بالتربية عبر وسيط التعلمات ، لكن أظن ان البيداغوجية كعلم لا وجود لها . لا أعتقد في وجود العلم البيداغوجي ، على سبيل المثال . من الأفضل ، من الممكن التحدث عن علوم التربية ( بصيغة الجمع ) ، من أجل توضيح جيدا أن هنالك تربية ، مثلما نبني منزلا ، غير أن هناك عدة مواد تساهم في بناء هذا المنزل .
ما يجب عدم خلطه بالنسبة للمنزل ، فقط ، إنما هو التجهيزات و المواد التعلمية التي نستعيرها و ما يسعى الواحد و الآخر منا من وراء هدف الاصلاح . إننا نقوم بالخلط في البيداغوجية في معظم الاحيان . ننسى أننا نقوم بالتربية و لا نهتم إلا بالتجهيزات ، كأنما البناء ينسى ان المنزل يقام من اجل أن يصبح مؤهلا بالسكان و لا يهتم سوى بالتوازن الخاص بالكيفية و بالطريقة التي يبنى بها البيت ، أي مختلف المواد التعلمية المستعارة . في أغلب الاوقات ، ننسى تهذيب الطفل ، و ننشغل بمعرفة فيما إذا كانت السيكولوجيا و السوسيولوجيا على قدر كبير من الانسجام و التساوق .
الحياة البيداغوجية : هذا حوار بين الفن و العلم تماما .
فيليب ميريو : نعم ، لكن كلمة « فن » تزعجني بعض الشيء لأنها تحيلني إلى فكرة الكاريزماتية التي يصعب تلقينها . و الحالة هاته أظن ان البيداغوجية ليست قابلة للتلقين transmissible أي بمعنى نلقن علما جاهزا لأي كان لكن نستطيع تعلمه لأنه يندرج في نظام التدبير . بنفس الشاكلة التي نقدر على تدبير بناء المنزل على تدبير حي سكني ، يمكننا تعلم تدبير التربية لكن بمعية الحضور الدائم للغاية و مختلف العناصر المساعدة لبلوغ هذه الغاية . لكن يمكن تعلم هذا . الامر ليس فنا فطريا .
الحياة البيداغوجية : و أخيرا البيداغوجي الممتاز هو الديداكتيكي الممتاز ، ذلك الذي ، كما حددتموه ، « ينظم الوضعيات التعلمية و هو يحاول مراقبة و تتبع كل المتغيرات ، يطرد المحتمل ، و يلغي الطارئ ، ليصل إلى تحكم تام في آلية تعمل بكل تأكيد . » هل يمكن اكتساب هذا التحكم حتى خارج الممارسة التعليمية ؟
فيليب ميريو : غير مؤكد . لهذا السبب من الواجب على التكوين المستمر أن ينوب عن التكوين الأولي . لكنني أعتقد ان التكوين الأولي من المفروض عليه أن يكون مشاكلا لما نرغب في إحداثه لدى المدرسين . بعبارة أخرى ، و هذا احدى الحالات الثابتة في جميع المعاينات التي قمنا بها ، لا يفعل المدرسون أبدا كل ما شرحناه لهم أنه الواجب فعله مع تلامذتهم . دائما يفعلون ما قمنا به أثناء صحبتهم و بمعيتهم . و أنا جد مقتنع أن لو اشتغلنا بتكوين المدرسين مشيدين آليات من أجل تكوينهم انطلاقا مما نرغب و نتمنى أن يفعلوه من أجل تلامذتهم ، سنحصل أنذاك على أوفر الحظوظ بأن ينجزوه مع تلامذتهم .
أيضا ، لقد أشرتم في مقطع حيث أتحدث فيه عن « البيداغوجي الديداكتيكي » و رغبته في التحكم . أعتقد أنه يوجد هنا ، في البيداغوجي ، من يتمنى الاستحكام و التحكم في الأشياء ، من يرغب في فهم كيفية اشتغال التعلمات قصد بناء الوضعيات التي سوف تعمل تماما على مساعدة إبرازها . لكن أظن أن هذه الرغبة في التحكم يمكن أن تشكل خطرا لأنها قد تؤدي إلى الحمق . في بعض المرات أقول بنفسي أنني كنت مريضا بالقابلية للتربية . لما كان لدي تلاميذ من الصنف الصعب جدا لا يقدرون على فهم القاعدة الثلاثية règle de trois ، في بعض اللحظات ، بقدر ما كنت مغشيا من جراء الواقعة و إلى حد أقررت فيه العزم بالسير و المواصلة بقدر ما كان من الأفيد لي أن لا أمتلك اللاهب في يدي !
يجب دائما أن تكون رغبتنا التحكمية تتأرجح بواسطة ما سميته بعد حين باللاتبادلية ، أي قبول الاخر بالانفلات إلى حد ما من السلطة التي نبحث عن ممارستها ، على الرغم من البحث وجوبا على مزاولة هذه السلطة . إننا نتواجد في وضعية تناقضية .
الحياة البيداغوجية : لقد أشرتم على أن المدرسين سيشتغلون مع تلامذتهم وفق ما قمنا بمعيتهم . و الحال هنا ، نجد مدرسو الاعدادي يتلقون تكوينا أساسه موادهم التخصصية . ثم بعد ذلك يتلقون تكوينا قصيرا يشبه تكوين المعلمين . لكن هنا حيث ندرس لهم العلوم مثلا ، فإننا لا ندرسها لهم كما ينبغي أن تدرس مع التلاميذ .
فيليب ميريو : إن هذا الأمر مؤسف . من الواجب على كلية العلوم أن تقبل بأن الاستعداد و التهيؤ لمهنة المدرس إنما هو استعداد خاص ، يختلف عن نظيره الذي يهيئ لمهنة المهندس . اعتقد أنه من الضروري تقبل فكرة أن حينما نهيئ أناسا لتدريس الفيزياء او الجغرافية ، لا نهيئ أناسا لكي يصبحوا مهندسين او جغرافيين . و لذلك من اللازم دائما أن نقدم لهم المعارف من منظور نشأتها و تأسيسها و تكوينها الجنيني و ليس من منظور نتائجها .
أظن أن هذا هو لب المشكل . غالبا ما تدرس الجامعات المعارف على أساس أنها ملقنة كنتائج و ليس كاكتشافات . لا بد من وضع المدرسين الجدد في حالة فهم هذه المعارف و كيف تأسست . الأمر الذي يعني بالمشخص ، لهؤلاء الناس المتواجدين هنا ، أنه لا بد من التعاطي بكثرة لتاريخ مادتهم . لأن التاريخ يساعد في معرفة كيفية تطور الأشياء . لا بد من القيام بمزيد من الأعمال التجريبية ، اي المطالبة من الطلبة بتقديم أعمال العرض و المناولة ،الخ .
التغيير الجذري الأساسي ، يوجد هنا . هل هذه الدراسات ستضع المدرس الجديد و القادم على خط التماس بداخل معرفة حية ، في طريقها للبناء ، ام سنقدم له معرفة متحجرة و ميتة فقط ، حيث نتأكد من أنها قابلة للاكتساب ؟
الحياة البيداغوجية : فلنتناول قليلا المسألة الحرجة جدا ، نسبة للمدرسين و للمجتمع كله ، مسألة تحويل المعارف transfert de connaissances . تقولون : « على البيداغوجية التساؤل بصدد الوسائل المتخذة لكي تجعله أمرا ممكنا .» ما هي هذه الوسائل ؟
فليبب ميريو : سأتناول الموضوع باختصار شديد لأنه موضوع جد صعب و مثير للنقاش أيضا . في فرنسا ، مثلما أحس بالأشياء ، و أعتقد أنه صحيح بالمثل في العالم الانكلوساكسون ، و صحيح بلا شك بالنسبة لكيبيك أيضا ، يوجد هناك تياران من الفكر :
اول تيار فكري أساسي يكمن في تفضيل الميتودولوجيا و التعلمات الأساس ذات النوع الشكلاني formel وفق افتراضية أن حينما يغذو هذا الامر في عداد المكتسب ، فإننا سوف نشيد فوقه المعارف ذات النوع التقاني . ينتج هذا التيار أعمالا ممتازة و من جودة رفيعة . يخطر ببالي بالخصوص برنامج الاغناء الاداتي (PEI ) لفورشتين ، و معامل الاستدلال المنطقي ، الخ . إن فرضية هذا التيار تنطلق من ضرورة إعادة البناء من القاعدة ، على مستوى العمليات الذهنية الأساسية ، ذكاء الشخص . فبمجرد ما نقوم بهذا الأمر ، ها هو أمامنا الشخص و قد استعد لتملك المعارف .
في مقابل ذلك ، لدينا التيار الثاني الذي ينظر إلى ان لا وجود لنشاط ما خارج ضغوطات و إكراهات المحتويات نفسها . معنى ذلك ان برامج الاغناء الأداتي ( PEI ) تخلو من الفائدة المرجوة سوى تعليم ( PEI) ، أي أنها لا تدرس أي شيء من شأنه أن يصير محولا خارج وضعية التعلم لـ ( PEI ) و أنه إذا أردنا تعلم الميكانيك ، يجب تعلم الميكانيك . إن هذا التيار يرتكز فضلا عن ذلك على مكتسبات : فالطفل الذي يحسن تقويم الأطوال لا يعرف تقويم الاوزان . إذن ، التحدث عن قدرة التقويم بعبارات مضخمة جدا ، هذا أمر لا معنى له .
نحن بصدد موقفين : موقف يريد تكوين هذه القدرات ، القابلة للنقل و التحويل قبليا ، و موقف يعتبر أنه من الضروري على التكوين الانطلاق من الأشياء الدقيقة ، و العمل على إيجاد أجوبة لمشاكل دقيقة .
و الحالة هذه ، ما يجعل النقاش غامضا و هو أننا نخلط بين نوعين من القضايا . نخلط بين قضية ذات بعد فلسفي و قضية سيكولوجية الجانب . بتعبير الفلسفة ، يعتبر التحويل le transfert ضرورة ، أي أننا سنعبر عن التعلم الذي لم يتحول على أنه « تعلم غبي » ، لا تحرري . لكن حسب السيكولوجيا ، نلحظ أن هذا التحويل ينم عن صعوبة كبيرة اكثر مما كنا نتصوره . وجدنا أنفسنا إذن أمام تحد يجعل من التحويل او النقل ضرورة من الضرورات لأنه يعد عنصرا من المقاصد و الغايات الاساسية لكنه يمتاز بصعوبة بالغة و مفاجئة و ان كيفما كان الحال ، فلا يكفي أبدا ذكره حتى يصبح ساري المفعول .
كيف نحصل على تحويل ذكي ؟ أرى أنه من الواجب العمل على تطويق المشاكل . ليست القضية كامنة في معرفة فيما إذا كانت القدرات موجودة مثلا كالقيام بتحليل ، و تركيب ، و كونك منتبها ، و متقنا للتقويم ، الخ . المشكل قائم في معرفة ما هي نوعية القضايا التي يتحتم على الطفل تعلم حلها و حينما يتقن حلها في وضعية معطاة هل بمقدوره حلها في سياق مغاير . انطلاقا من اللحظة التي نطرح من خلالها هذا المشكل – هنا المشكل المطروح هو قضية هدم السياق ، بمعنى التساؤل حول عملية تسهيل لدى التلاميذ اكتساب قدرة إخراج المشكل من السياق المدرسي le contexte الذي تعلموا الحل بداخله .
عادة ما تقدم المعارف المدرسية للتلاميذ كمفاهيم و كبرامج ، و ليس كحلول للمشاكل . في اللحظة التي نقوم بإبراز المعارف المدرسية كحلول للمشاكل ، فإننا نحدد مع التلاميذ ما هي المسائل التي على المعارف إيجاد حلول لها و في أي مكان نلتقي بهذه المسائل . لما نبحث بشكل دقيق و ممنهج عن نوعية المسائل المتعلقة بالمعارف المدرسية و حلولها ، ستكون قضية التحويل في رأيي قد وجدت طريقها للحل بشكل موسع لأن التلميذ أصبح مالكا لهذا الموقف الذي يكمن في المساءلة و التساؤل عن أي نوع من المسائل يقدر على حله بواسطة المعارف التي درسها . بالنسبة لي ، إن التحويل الأصيل ، هو التعرف في الواقع عن المسائل التي تجد حلولا لدينا . لكن من الضروري أيضا القيام بذلك في القسم حينما نتعلم شيئا ما . حتى ولو كان ذلك قصيدة شعرية . إن شعر رامبو ، بالتأكيد نظم من أجل حل مسألة problème . لكن أبدا مسألة من نوع تفكيك دراجة . القصيدة المنظمة لحل المسألة هي قضية تهتم بفهم الذات و استشفاف ما يوجد بداخل الذات من إحساساتي الخاصة بشكل واضح ، كمثال . فتحويل رامبو ، هذا معناه أن تكون قادرا على التوغل بعيدا بحثا عن قصيدة رامبو في احدى الأمسيات حيث يلتف الغموض بروحك و تريد ان تجد ذاتك أمامك بطريقة ذكية .
الحياة البيداغوجية : غير أنه يوجد شيء آخر . غالبا ما يقول الآباء : عندما يكتب ابني في المدرسة فإنه لا يترتكب الأخطاء . عندما يترك لي كلمة معلنا فيها أنه ذاهب لزيارة صديقه ، فهناك أخطاء كثيرة .
فيليب ميريو : إنها قضية ، قضية أخرى أسميها التحديد الفوقي للمعايير الوظيفية من قبل المعايير الاكاديمية في المدرسة . سآخذ مثالا بسيطا قمنا بدراسته في السنة الماضية و يهتم بقدرة التلاميذ في تحرير ملخص لتجربة .
لو طلبت من تلاميذ السنة الاولى و الثانية ثانوي تحرير ملخص في العلوم الطبيعية ، لسوف ينجزونه لك . و الآن ، اطلب منهم : بماذا عرفتهم أن هذا الملخص هو ملخص ناجح ؟ لقد طرحنا السؤال على ألف تلميذ . ما كان أحدهم بقادر على أن يقول : الملخص الناجح هو عندما لا يشاهد شخص آخر التجربة بإمكانه إعادة هذه التجربة فقط انطلاقا من هذا الملخص . و مع ذلك ، إن هذا هو الملخص الناجح . و الحالة هذه ، و لا تلميذ واحد من بين ألف تلميذ كان بمقدروه قول ذلك . بالمقابل ، كانوا يقولون : ملخصي ناجح لأنني استعملت درس الأسبوع الأخير ، لأنني لم أرتكب الأخطاء النحوية ، لأنني وضعت رسومات ، لأنني استخدمت تلوينات . بعبارة اخرى ، لقد انتهينا بجعلهم يعتقدون في المدرسة أن النجاح و التفوق يقاس بجنس التوافقات الاكاديمية بدل معايير الفعالية .
إن الطفل لا يعرف ماذا يعني الملخص الناجح ، لكنه يعرف ان أستاذه مصاب بالهوس ، وأنه يطالب بالحروف الكبيرة في بداية الجملة ، و النقط و الألوان الثلاثية . إلى حد و لا يزال نسبة للتلميذ ، ليست المدرسة ذلك الفضاء حيث نقوم فيه بالأشياء المتضمنة للمعنى لكنما الأشياء التي تتلاءم و أوامر بعض المدرسين أكثر أقل تشددا و سيطرة . لكن حينما لا نتواجد في المدرسة ، فإن هذه الأمور لا نهتم بها إطلاقا .
لو ذهبت إلى ضواحي مدينة ليون و طلبت من تلميذ يقطن مانكيت ( الحي الأكثر صعوبة في ليون ) أن يكتب لك على ظهر ورقة كيف تتم زيارته في البيت سيقول : « تتابع سيرك نحو الامام ثم تدور جهة اليسار . تبين له أن كلمة يسار « goche » لا تكتب هكذا . سيرد عليك أن ليس للأمر أهمية لأنك لا تستطع الذهاب إلى المكان .
و مع ذلك لو كان تلميذا نجيبا ، سيكتب : « تتابع سيرك نحو الأمام و تدور جهة الامام » . مع العلم أنه لا يعرف كتابة كلمة « يسار / gauche » و واضح أنك لن تأتي لزيارته و إنما فقط لتصحيح هنا خطأه الاملائي ، فيستعمل الكلمة التي يحسن كتابتها . و هذا يتماشى أساسا مع الواقعة من حيث أن في المدرسة تقام التمارين بصفة رئيسية وفق أحكام و مواضعات الأكاديمية و ليس وفق مدلولاتها بينما في خارج في المدرسة فإننا نتصرف بمدلولات اجتماعية ؛ لا نعير أي اهتمام للمعرفة الاكاديمية . هذه الوحدة هي التي يجب البحث عنها .
الحياة البيداغوجية : في الكتاب الأخير، تحدثم كثيرا عن المجلس الميتودولوجي ، في هذا الكتاب الحالي الموجود بين أيدينا تتحدثون عن الميتامعرفية . هل من اختلاف في الأمر ؟
فيليب ميريو : كلا . يُنظر للمجلس الميتودولوجي من زاوية المدرس ؛ اما الميتامعرفية ، فهو ما يحدث في رأس التلميذ . لكن الحقيقة هي ذاتها . المجلس الميتوولوجي يؤسس الطريقة التي بفضلها يساعد المدرس التلميذ لكي يزاول الميتامعرفية ، أي الفكر حول طريقته التي يتعلم بها ليصبح مستقلا .
الحياة البيداغوجية : و هذا ، هو الأهـم ؟
فيليب ميريو : بالفعل ، هذا هو الأهم على مستوى جودة التعلمات . هذا هو الأهم على مستوى فلسفة التعلم apprentissage لأن حتى تكون قادرا على فهم كيف تفهم ، هذا يشكل في حد ذاته أكثر من الفهم . المهم هو أن تصبح مستقلا حقيقيا . في الواقع ، فأنا جد مقتنع لأنني قد جربت هذا الأمر مع صغار الحضانة و رجال الجامعة على حد سواء ، أن حينما نضع أي أحد في وضعية التعقل فيما يخص طريقته التعلمية ، سيكتشف عدة أمور بذكاء عجيب .
الحياة البيداغوجية : كل حوار حول التربية يعيدنا ، على ما يبدو ، إلى قضية تكوين المعلمين . لقد عدت إليه و عالجتم الأمر في كتابكم . غير ان في الكتاب الأول ، في إشارة ، قلتم « أتساءل ، فعلا ، هل اللجوء إلى الآدب و المسرح و السينما ،الخ . هل بودكم تدقيق فكرتكم بعض الشيء حول هذه النقطة في ارتباط مع الثقافة العامة للمدرسين .
فيليب ميريو : خطرت ببالي هذه الفكرة لأن بعض السيكولوجيين يقولون أن المجرم هو ذلك الذي لا يقدر على تخيل آلام الاخر ، في حين أن بعض المدرسين ، الذين ليسوا كلهم بمجرمين ، بعيدين من هذا ، إنما يلحقون الضرر بالتلاميذ بسبب عدم مقدرتهم على تفهم الوضعية و ما تحمله من مأساة كبيرة و حالات من الوجدان . إنني اعتقد أنه من الممكن استحضار مقاربة العلاقة البيداغوجية من خلال الآدب ، في تكوين المعليمن ، مثل السينما ، و المسرح ، و ذلك فقط لكي يدرك المعلم ما يمكن أن يعنيه هذا الأمر كونه يصبح تلميذا ، يصبح مرفوضا ، و محتقرا ، و أن يشعر المعلم به بإحساسه .
اعتقد أن الانفعال هو أداة للتكوين ، و لما أقول هذا ، فإنني لا أتكلم عن التحسيس ، قصدي هو الانفعال الحقيقي . لو انتهيت من مشاهدة فيلم أو قراءة كتاب بعدما تملكني إحساس و انفعال قويين ، أترك المكان و أنا مكوَّن ، و ليس مكوِّنا بمعنى أصير أكثر إلتصاقا بالانسانية ، برموزها التي يعبر من خلالها الطفل الحدود و التي نسيتها في الغالب لما كبرت و أصبحت راشدا . إننا ننسى ما معنى الخوف في حالة العزلة امام سبورة مع ثلاثين عين تراقبك ، ننسى خوف التلميذ الغائب امام مسألة لا يفهمها .
عندما استحضر هذه النصوص ، أظن أنها قضية الثقافة العامة لكن إجمالا هي قضية القبول لملاقاة الآخر بعاطفة قوية تكشف لنا مكنون و حقيقة العلاقات الانسانية ، علاقات من شأنها مساعدتنا على أن نصير اكثر صفاء ، نحطم أقل ما يمكن من القيود و الاغلال .
الحياة البيداغوجية : نقول أحيانا ان المدرسين يفتقدون لهذه الثقافة العامة بغية مساعدة التلاميذ للقيام بالربط بين التعلمات . في تكوين المعلمين ، هل يوجد لديكم انشغالا بهذا البعد ؟
فيليب ميريو : أتمنى أن نهتم بذلك أكثر . لا يزال تكوين المعلمين متمركزا بقوة على المواد التعلمية و على مقاربة تقانية . و هذا نقاش قديم . في كل مرة نسمع أيا كان يقول هذا الكلام ، نتهمه بمحاولة تقليص المستوى العلمي للاساتذة لهدف استبداله بنوع آخر من مربى السيكولوجيا . ليس الامر هكذا إطلاقا . لست ابدا من أنصار المطالبين بحدف الفيزياء من البرنامج الدراسي المعد للمدرسين الجدد ؛ أنا معهم في تدريس الفزياء بشكل مختلف عما يتم تدريسه للمهندسين الجدد . أتمنى أن تدرس الفزياء و ذلك بدمجها مع الجوانب التاريخية ، و الاييستميولوجية ، و السيكولوجية .
الحياة البيداغوجية : أريد أن أقول كلمة حول التقويم . هنا يقول المدرسون بأنهم مطالبون بالتقويم طيلة الوقت ، بأنهم في حالة دائمة و مستمرة للتقويم و لا يمتلكون تقريبا الوقت الكافي لمزاولة التدريس .
فيليب ميريو : هذا صحيح ، عندنا نفس الشيء ! أرى في التقويم مكانة كبيرة . من الواجب اتخاذ المزيد من الوقت في التعلم و و القليل من الوقت في التقويم . إن التقويم بقدر ما يمتاز بالقوة بقدر ما يشل حركة التعلم . مخافة من الوقوع في الخطأ و إصدار الأحكام ، لا يبحث التلاميذ عن الحل ، لا يجرؤون على تقديم مقترح خوفا من الخطأ . يوجد نوع من المرحلة التقويمية حول النظام التربوي الذي يتجاوز بعيدا حتى تلك اللحظات حيث نجري فيها التقويم ، مما يجعل التلميذ يشعر دوما بأنه مقوم ( مراقب ) ؛ هذا الأمر يعرقل سيره و يشله في تلمساته ، و في خياله ، و في بحثه عن الجواب .
الحياة البيداغوجية : يبدو لي أن الرسالة المهمة في آخر كتابكم ، في التربية أكثر من اي شيء آخر ، و هي انه من غير الممكن السماح لأنفسنا بالتناقض ، بمعنى أن الفعل يجب أن يساير و يطابق القول ، أن الوسائل يجب ان تتلاءم مع الغاية المنشودة ، في كلمة من الواجب أن نفعل ما نقوله و أن بهذا المعنى كل الممارسات الديداكتيكية ليست محايدة ؟
فيليب ميريو : اعتقد أن فكرة الانسجام و الملاءمة هو فكرة قوية جدا . هذه الفكرة في روحي قوية جدا جدا . أعبر عنها في معظم الأحيان متكلما عن ضرورة التشبت بالقول و مصداقيته . أعتقد أن التربية هي الفضاء المخصص لتثبيت القول المتعاهد عليه . و القول المتعاهد عليه هو رسالة تربوية عظيمة. لا شيء يفقد ثقة المربي سوى عدم الوفاء بالقول ، يعني التلميح بأشياء و العمل بمقتضى ضدها ، أن يتم إعلان عن أمور كواجبات تتخذ من طرف التلاميذ و لا نفعلها نحن بأنفسنا . الوفاء بالقول ، هو أمر صعب لأننا نتواجد دائما بين مقتضيات عدة . لكن القول المؤكد الثابت هو بلا شك أفضل وسيلة نقدمها للطفل كي نمنحه ثقته ، و أبعد من هذا ، كي نقدر على إلزامه بعدم إهمال أقواله . لكنه أمر صعب ، يلزم المعاودة في كل يوم .