" التلقين ، التعلم " - استعراض أعمال ماري كلود بليس، مارسيل جوشيه ودومينيك أوتافي
Marie-Claude Blais, Marcel Gauchet et Dominique Ottavi
بعد من أجل فلسفة سياسية للتربية (2002) وشروط التربية (2008) ، ينشر ماري كلود بليس ، ومارسيل جوشيه ودومينيك Ottavi عملهم الثالث المشترك ، الذي سوف يعمق عملا عظيما لغرض التفكير في التربية في العصر الحديث ، و الذي يجب الاعتراف بأهميته و بوجوده .
هذا الكتاب ، بعنوان التلقين و التعلم ، المدرج في حلقة دراسية لمدة سنتين في إعدادية بيرنارداين ، يقترح بتكثيف هذين الفعلين الاثنين وعلاقتهما في " المشكل الفكري " لمدرسة اليوم . " التقلين" transmettre يشير هنا بصفة عامة إلى العملية التي تكمن في ضمان نقل بعض المكتسبات من جيل إلى آخر، و إرث الماضي ، وتحديدا مجموعة من الرموز والمعارف ، القصد أولا هو التلقي : التربية منظورا إليها من وجهة نظر التقليدانية . " التعلم "، من جانبه ، يشير عكس ذلك إلى فعل التعلم باعتبار وجهة الفاعل الذي يتعلم ، ويشير بداية في الكتاب إلى بعض المفاهيم وتوجهات التعليم التي تركزعلى البناء الذاتي الفردي للمعارف ، و ترفض فكرة الانطباع . التلقين في مقابل التعلم ، هو ذا المعنى الأول من العنوان . ولكن ما يسعى الكتاب في نهاية المطاف إلى إقامته ، هو ضرورة التفكير معا في هذين البعدين من التربية الانسانية ، و إعادة النظر في علاقتهما الأساسية ، مع الاشارة مرة واحدة للفشل النظري والعملي لمعارضتهما من جانب واحد . وفي هذا الصدد ، فإن هذين المصطلحين يكثفان " المشكل الفكري " للمدرسة اليوم ، وأيضا ، بطريقة أو بأخرى ، سبل حلهما .
مشكلة التحليل أولا : الأزمة الحالية للمؤسسة التعليمية يمكن تفسيرها من خلال الحقيقة أن لو كان عالم التلقين" مات و قد مات تماما "، فإن عالم التعلم الذي خلفه ، على الرغم من نواياه وانتصاره ، لم يستطيع إلى حد الآن إنشاء مدرسة محفزة ، فعالة ونزيهة . عالم التلقين هو عالم ميت ، ولكن ليس التلقين في حد ذاته (و لا واقعيته ، و ضرورته) ، وعالم التعلم يهيمن لكن لا يفي بوعوده و يئس ، مبرهنا في ذلك على ضعفه ( من حيث الفعل والحكم ) . و كما نعلم فهذا صحيح في المدارس ، ولكن واحدة من فوائد الكتاب هو محاولة الفهم لهذه الظواهر في خلفية أوسع من ذلك بكثير . أزمة المدرسة لا ترجع في المقام الأول إلى الأخطاء التربوية في السنوات الثلاثين الماضية ، ولكن إلى اتجاهات أكثرعمقا تشتغل على الحداثة منذ بداياتها والتي سيتم تحديثها بشكل كامل في النصف الثاني من القرن العشرين : الانتقال " النهائي" ولكن هناك إشكالية من " مجتمع التقاليد " إلى " مجتمع المعرفة " . ثم هناك مشكلة المنظور : ما يدل أيضا على هذه الأزمة - الانتصار المتناقض للتعلم ، المثابرة او الاصرار المكبوت للتلقين - ، كلنا في حاجة إلى إعادة النظر في كل هذه الأبعاد غير القابلة للاختزال واحدة تلو الاخرى للتربية الانسانية وتحثنا في هذا إلى ايجاد وسائل و أدوات لمفصلتها إجرائيا . إنها تسمح برسم الخطوط العريضة لبرنامج نظري وعملي لتجديد المؤسسة المدرسية و البيداغوجية التي تقتضيها . هذا "المشكل الفكري" للمدرسة يطرح من خلال خمسة أجزاء سلسلة من الإضاءة من عدة زوايا و بؤر، التي تجعل من هذا العمل ثروة في عدة مناحي ، والذي نود الآن تقديم أهم أبعاده في عيوننا . يتمفصل فيه بالفعل مقاربة تاريخية و أنثروبولوجية في نطاق واسع ، ومقاربة أكثر سوسيولوجية للظروف المعاصرة للتربية (دور الأسر و الحضور الوازن للأشكال " النموذجية "، تكنولوجيات حديثة) ، وعناصر لـ التاريخ الفكري الخاص بالأفكار التربوية في القرن العشرين ، و أخيرا ، تفكير فلسفي إيبستيمولوجي ، مفاهيمي و ظاهراتي حول طبيعة التعلم . سوف نركز بشكل أساسي على الأول والأخير .
مفارقة تحديث المدرسة
يبدأ الكتاب بتحليل لجذور التحول العميق الذي عرفته الأنظمة التربوية منذ السبعينات 70، التحليل الذي إطاره العام هو تحليل لجزء من تاريخ " الحداثة "، منظورا إليه أساسا كسيرورة طويلة في آن واحد سوسيوـ سياسيا و إيبستيميا (معرفيا) " ضد التقليدانية " و " الفردانية " : على هذا النحو ، التلقين ، و التعلم يتموضع بوضوح في استمرارية عمل مارسيل جوشيه الذي ، منذ خيبة الأمل من العالم (1985) ، طور تحليلا موسعا ومعقدا للحداثة مفاده " الخروج من الدين " و قدوم - إشكالية - عالم حيث يتطلع فيه الناس إلى الحكم بأنفسهم . في هذا الإطار، ولادة وتطور المدرسة الحديثة كُتِبت بخطوط عريضة تنشدان " تسوية " تاريخية ، غير مستقرة ولكنها مقاوِمة دائما ، بين رغبة واضحة في بناء نظام تعليمي جديد مُكَوِّنا أفراد مستقلين يعتنقون العقلانية المنهجية و النقد ، و الحفاظ الضمني لمتطلبات التقاليد وسلطة الماضي ، من خلال المضامين المُدرَّسة وأساليب التدريس . في العمق ، لقد كانت المدرسة حتى أواخر القرن العشرين المؤسسة الحديثة المتناقضة التي ، بتعزيزها و الرفع من منزلة الأفكار الحديثة للمعرفة المنهجية والفرد العقلاني ، " كانت تصل حتى في الحداثة المتقدمة إلى روح المجتمعات التقليدية القديمة " : " التعلم " و" التلقين " يتمفصلان بطريقة أو بأخرى . انطلاقا من السبعينات 70، هذه التسوية سوف تنفك و" تتلاشى نهائيا "، لفائدة الاتجاه الحديث حصريا ، متبثين بذلك قدوم " مجتمع المعرفة " متحررا بدءا من الآن من " المجتمع التقليدي" . أصبحت المدرسة في أوائل القرن العشرين ، مع تطوير " بيداغوجيات جديدة " و " التربية التقدمية "، موضوعا للنقد السياسي والتقاني ، و تحت الضغط بشكل عام لموجة جديدة من الفردانية الديمقراطية ، ان المدرسة الحديثة ، التي كانت في الواقع ولا يزال لحد الساعة " تقليدية " في العمق في روحها و ممارساتها ، انتهت في الأخير إلى تغيير النموذج الارشادي : المأمورية الرئيسية للمدرسة ، الآن ، لن تكون أبدا الضمان الأول للتنشئة الاجتماعية عن طرق تكريس الماضي ، إرث الذاكرة الاجتماعية ، ولكن المساهمة في تطوير الأفراد ، و لهذا السبب فإن " فعل التعلم غلب على طريقة التلقين المحكومة بالتخلف و التراجع ، سواء من وجهة نظر السياسيين أو نظرتها في اكتساب المعرفة ".
ولكن الأطروحة الأصلية للتلقين ، التعلم يكمن في تسليط الضوء على المفارقة لهذا الانتصار من الأفكار الحديثة للتربية و" قدسية المتعلم" التي تلازمه ، انتصار خادع بحيث يحاول معظم الكتاب عرض حدوده : ما تكشفه و تعنيه " الأزمة " المستمرة للمدرسة المعاصرة ، في مختلف جوانبها، هو أنه في النهاية فشل واضح ، وإلى حد ما لا مفر منه ، للمؤسسة التربوية التي تسعى جاهدة للقضاء ، ولكن دون جدوى ، على أي بعد لـ " التلقين " . من جهة ، أربعون سنة من بعد منعطف السبعينات 70 ، لا بد من مواجهة الحقائق : تُظهرالحقائق التي ، على عكس الأهداف التي رسمتها وعلى الرغم من الإصلاحات المتعاقبة الموضوعة للتنفيد ، فإن المدرسة لم تتمكن لا من إعادة تجنيد فاعليها و لا أن تعيد إعطاء معنى لمحتوياتها المدرسية ، ولا أن تقضي بفعالية على الفشل الدراسي ، و بالأخص عدم القدرة على الحد من عدم مساواة التمدرس و نتائجها فيما يعود للاستنساخ الاجتماعي . لتفسير هذا التناقض ، يشير الكتاب بحق إلى الواقع الثابت والمستمر وأهمية الميكانيزمات غير الرسمية وغير المرئية للتلقين التي ، حتى نقول ذلك أبعدت من المدرسة ، لا تزال تنتج مع ذلك آثارها على الأجيال الشابة ، و خاصة بطريقة أكثر قوة مما جعل النظام المدرسي ينصرف رسميا عنها : في إطار الأسرة على وجه الخصوص ، ولكن أيضا من خلال وسائل الإعلام العلاقات بين الأقران ، سلسلة كاملة من التلقينات " السرية " تشتغل ، على المستويات النفسية ، الأخلاقية والمعرفية ، خارجة عن سيطرة المؤسسة ولكن محددة على نطاق واسع ، عملياتها الخاصة . وهكذا ، فإذا كان التلقين قد استبعد بطريقة أو بأخرى من المدرسة ، فإن هذا الأمر لم يحدث في المجتمع نفسه : و النتيجة هي أن المدرسة نفسها حرمت من وسائل للعمل على هذه المحددات الاجتماعية و التباينات و الفروقات التي تميزها : " و بالتالي ، إذا فشلت المدرسة في تقليص الفوارق ، فلأنها تعثرت أمام قوة و صلابة التلقين غير النظامي (...) الذي يؤثر بخاصة على أداءات التلاميذ بحيث يتم التركيز على طرقهم الفردية ". من هنا ينجم الردب المؤلم و الارتباك الشديد الذي تتواجد فيه الآن ، دون أن تكون تماما على علم . ولكن ما يدافع عنه الكتاب من جانب آخر هو أن هذا الاستمرار للواقع يشهد ، بشكل عميق ، للضرورة الأنثروبولوجية للتلقين والتي ، في هذا المعنى ، لا يمكن الاستغناء عنها أو القضاء عليها في التربية الانسانية لفائدة نشاط واحد للتعلم صمم ليكون بناءا فرديا ذاتيا : لأن الإنسان بحد ذاته هو كائن من الثقافة والتاريخ ، كائن بالميراث ، فإنه لا يمكن أن يبنى ذاته على انفراد ويتوجه نحو المستقبل من غير اتصال بالماضي الجماعي ، لـ " أسبقية " اجتماعية يجب ان يتبناها لكي يجد ذاته . وهذا يعني أيضا ، على ما يبدو، أن عملية " الحداثة " في حد ذاتها لا يمكن أن تتحقق تماما ، بقايا من " التقليد " – وبالتالي من " الدين " ؟ - يبدوان متعذرين إستئصالهما من العلاقات الإنسانية ، بحيث ان المهمة التربوية ، و ان لا أحد حتى الآن لم يجرؤ على إعلان أن الزمن قد عفا عنها ، تؤسس بمعنى من المعاني النواة الصلبة .
معنى التعلم
هذا التفسير التاريخي للحالة الحرجة للمدرسة المعاصرة أدى بمؤلفي الكتاب إلى رغبة إعادة على هذا الأساس طرح قضية التربية المدرسية ، من خلال تحليل أساسي فيما يكمن وماذا يعني أن " نتعلم" ، تحليل يعطي للكتاب كثافة فلسفية و أيضا بعدا برمجيا : " إعادة الكل من جديد ، بدءا من المعارضة المفترضة بين نشاط التلميذ وتلقين المعرفة ". الجزء الرابع من الكتاب على وجه الخصوص ، فضلا عن الفصل المخصص للمعلمين والتلاميذ ، يهتم بتطوير مقاربة في آن واحد ظاهراتية ، إيبستيمولوجية و مفاهيمية ، و التي تؤدي إلى إقامة تكامل من حيث الواقع و المبدأ بين التعلم و التلقين . كيف تقدم فعلا المعرفة للطفل ، مثل ما هو عليه في المضامين الدراسية من الأكثر بساطة و تسهيلا إلى الأكثر تعقيدا ، هذه هي نقطة الانطلاق والقضية الرئيسية للجزء الرابع من الكتاب تحت عنوان « من أجل ظاهراتية التعلم »« Pour une phénoménologie de l’apprendre »
ما يستنتج عامة من هذا التحليل ، هو أن الطبيعة " المُقاوِمَةُ " للموضوع الذي نجري من ورائه - المعارف المتوافرة في المدرسة – تجعل من فعل التعلم نفسه " صعب " ، في الواقع تجربة " متفردة " لن تنطلق هكذا كأمر مسلم به ، في سير متقطع اتجاه التجربة الطبيعية للطفل : " هذا الموضوع لا يخضع في انضباط و تلقائية لمنطق التملك الشخصي . فهو يتحدى هذا المنطق بل يعارضه. " غير أن هذا يَستبعد من حيث المبدأ إمكانية تعلم هذه الأشياء بشكل طبيعي في حد ذاتها ولذاتها - فكرة البناء الذاتي للمعرفة من قبل التلميذ - ويظهر بدلا من ذلك الضرورة الحاسمة و الملحة لفعل التلقين . إن الظاهراتية للتعلم تشير فعلا إلى الملامح الرئيسية التي تجعل من الصعوبة بمكان إدخال الفرد في عالم المعرفة ، الملامح والصعوبات التي أدت بالتصور الحديث للمعرفة (تأكيد صدارة الفرد العارف ) والنظرية البيداغوجية السائدة في القرن العشرين (وخصوصا نظرية جان بياجيه) إلى إهمالها أو حتى إلى قمعها . تعلم القراءة ، و تعلم الكتابة والعد ، كما في وقت لاحق ، تعلم حقول التخصصات الدراسية (الفيزياء ، والتاريخ ، والجغرافيا ، وغيرها ) ، يعني في كل مرة محاولة اختراق مجموعات شمولية مُشَكَّلة مسبقا ، عبارة عن" متاهات " من المعاني المترسبة ، التي تُقَدَّمُ في بداية الأمر بالضرورة إلى الفرد الذي يعالجها مجردة بغرابة ، مصطنعة و حتى" باطنية " و التي تستدعي من جانبها شكلا من أشكال الازاحة عن المركز مقارنة مع باقي تجربته الشخصية – هذه المجموعات الشمولية لا تفرز المعنى على الفور : " التعلم ، هو وجوب الدخول في منظومة من المعاني المتماسكة و يلزم القدرة على امتلاكها في لمحة من البصر– لأنها منسجمة ، بالتحديد ، وأن هذا البعد الكلي أو النظرة العامة هي التي تمنحها إمكانيتها. وبالتالي أي ولوج من هذا النوع ينتهي عند الحائزين بفتور الهمة بأن الدخول مستحيل . الجزء الذي أمسكنا به ضئيل و الكل بعيد المنال . لما نصل عند سفح القلعة ، فإنها تبدو منيعة . " لن أتمكن أبدا ": هذا الانطباع الصراعي الميئوس منه هو هيكلي . سببه لا يعتمد على السيكولوجيا الفردية ، ولكن يعود لطبيعة المهمة . " وهكذا ، التعلم ( المدرسي بخاصة ، ولكن ليس فقط ) يكمن بالضرورة ، يمكننا قول ذلك ، في تجربة شكل من أشكال " التعالي transcendance " ، أشكال موضوعات المعرفة التي يجب أن تكون ، إذا كنت تريد أن تتعلمها ، قادرا على المكابدة و تحمل الموضوعية - عواملها الخارجية ، و سوابقها ، و حقيقتها و شموليتها غير قابلة للحجز أو الادرك تماما - ، و أشياء و موضوعات التي يتم استبعادها إذاً مسبقا من أن الفرد يستطيع بناءها على الفور وبشكل كامل من طرفه بالذات . اللغة ، بامتياز ، تمثل مثل هذا الموضوع المتعالي ، باعتبار أنها تسبق و تتجاوز الفرد المتكلم ، الذي يجب أن يستقبلها أولا و يندمج فيها ليتحدث بها بنفسه بصيغة المتكلم ، الأمر الذي لم يحصل بعد في أي مكان بالمعنى الدقيق للكلمة " نحن لم ننته بعد من تعلم الكلام أبدا ". ولكن ما هو صحيح في اللغة المحكية هو صحيح أيضا ، في أشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة ، في كل موضوع خاضع للتعلم ، سواء كان ذلك معارف الفعل الخاصة بالحرف أو كذلك عالم الرموز المكتوبة ، الذي يعتبر المجال المميز للتربية المدرسية . و لهذا السبب يتضح في كل مرة ضرورة الوساطة التوجيهية ، نوع معين من التدريبات ، شكل من التلقين : " فهو في حاجة إلى من يقود ..للعبور .. الذين يبنون قنطرة مع تلك الضفة الاخرى التي تبدو متعذرة البلوغ . يجب القدرة على الاعتماد على المتواطئين الذين يجلبون لك على حد سواء السلامة بسبب سيطرتهم على نقطة النهاية وفهم الطرق و المسلكيات . " لكي يتحقق التعلم وحتى يكون الفرد" نشطا " في تعلمه ، فإنه يجب أولا أن يكون مدعما و مصاحَبا من طرف " معلم " قادر على ايجاد الأدوات و الوسائل للتقديم بداخل الأشياء والحقول والتي على خلاف ذلك تبقى غريبة إلى حد كبير ، و قادر من أن يجعل من التلميذ يتمتع و يستفيد من السهولة الشخصية التي كانت لديه ، وبنفس الطريقة ، مكتسبة . التلقين ، حسب هذا المعنى ، ليس هو غرس في الذهن بطريقة سلطوية مضامين و محتويات موحد مرة واحدة وإلى الأبد لتقليد مقدس ، والكتاب يصر على أن لا نخلط بين فكرة التلقين مع الأنماط الخاصة التي تبنتها في التاريخ . التلقين هنا ، هو أولا التغلب على صعوبة التعلم ، هو انعتاق و تحرير المقدرة على التعلم من خلال التنظيم بحدق و بمهارة استدخال في العالم مواضيع المعرفة ، و جعلها مألوفة تدريجيا . و هكذا في حالة من الفهم الجديد فإن التلقين والتعلم لا يتعارضان فيما بينهما في الواقع كثيرا ، تحالف جديد بينهما يمكن تصوره ، و بيداغوجية جديدة يمكن تخيلها ، هذا هو الاتجاه العام الذي يشير إليه الكتاب - إمكانية وتسهيل فعل التعلم : " هدفها الاستراتيجي هو بناء التدرجات المساعدة للتغلب على الفجوة الهيكلية الموجودة بين المعنى العام و الطبيعة المجزأة لا محالة للمكتسبات . هذا هو معنى " التلقين ". مهمة صعبة للغاية التي تكمن في إيجاد ترتيبات للمراحل التي تعطي فكرة شاملة للمجال المعني في حدود المعرفة المجزأة . لأنه على هذا التوتر الداخلي ما يتعثر و يصطدم في كل لحظة فعل التعلم . إنه عقبته الدفينة ، إثارته الأصلية للرفض و التخلي : تجعل أن ، كلما تعلمت كثيرا ، كلما أدركت اتساع و مدى ضعفك و ما ينقصك ، و أيضا يحصل لديك الانطباع بالتراجع كلما تتقدم .
مهمة البيداغوجية هو قلب هذا العامل المثبط إلى عامل دعوة أو نداء ، وذلك بفضل مسارات مصممة تصميما جيدا ، التي تعرف كيف تعطي فكرة للهدف في أي مستوى من المستويات المتواضعة مهما كان الأمر. " هذا الاستنتاج المبرمج لديه الأفضلية في تقديم طريق للخروج من المآزق للنقاش الأبدي بين الأنصار" التقليديين " للمعرفة والتعليم و المروجون " التقدميون " لنشاط التلميذ . لدى المدرسة " التقليدية " ميل في إدراك التلقين كأنه إنطباع وغرس في الذهن بشكل مستبد لماض غير قابل للتغيير ومقدس ، دونما الاهتمام بمعرفة كيف لهذه المحتويات قد تكون حقيقة مكتسبة فرديا من طرف أفراد المدرسة : فهي مدعوة للنقد ، ومن وجهة النظر هاته البيداغوجيات الحديثة و نظريات نمو الطفل في القرن العشرين لهما دور ملائم و شاف يظل في هذا الصدد أمرا مكتسبا . ولكن ، لأن هذه الأخيرة غالبا ما أخطأت أيضا بسبب نظرتها الأحادية ، فإنها تجعل اليوم من " نقد النقد " حاجة ضرورية ، مرحلة جديدة من الفكر التربوي الحديث " خطوة من شأنها مفصلة هذه المصطلحات ، التلقين و التعلم ، المطروحة منذ زمن طويل في عداء الذي أعفى بجدية عن مساءلة المحتوى و المضمون .
إذن فهو كتاب مكثف و مثير يقترحه علينا ماري كلود بليس ، و مارسيل جوشيه ودومينيك اوتافي ، و يستحق ليس فقط إلى أن يُقرأ ولكن أيضا ليستمر و يناقَش من قبل جميع أولئك الذين ، كانوا فلاسفة أم لا، يرغبون في تعزيز التفكير الجماعي للمدرسة اليوم وغدا . على المستوى التحليل التاريخي للحداثة ونتائجها التمدرسية ، الأطروحات هي واضحة و مدعمة بقوة ، ولكن يمكننا مع ذلك من أن نتأسف من عدم وجود مساحة كبيرة مخصصة لمقاربة سوسيو ـ اقتصادية : و لنقولها بصراحة كل ما يوجد هنا من تفكير كعلامات لـ " الحداثة " و تناقضاتها الداخلية ( " القضاء على التقليدانية " ، و" الفردانية " ، و" خيبة الأمل " ، و حاضر/ مستقبل ، و هيمنة العقلانية الأداتية ، و فقدان معنى المعارف ، وسلطة وسائل الإعلام ، وما إلى ذلك) أليس هذا له علاقة ، بشكل أساسي ، مع الرأسمالية وتطورها ؟ وبشكل أكثر تحديدا ، لفهم التطور النقدي والحاسم للأنظمة المدرسية في النصف الثاني من القرن العشرين أليس من الضروري الأخذ بعين الاعتبار أيضا الانتقال إلى " رأسمالية معرفية " التي تدمج بداخلها الحياة الرمزية الإنسانية كلها في منظومة الإنتاج ، نفسها متورطة في الابتكار المستمر والنزعة الاستهلاكية ؟ من جهة أخرى على المستوى فلسفة التربية و نتائجها البيداغوجية ، فإنه يمكننا أن نجد مفرطا في بعض الأحيان التشديد على الجانب " الباطني " و " المتعالي" للمعرفة ، وبالتلازم حول الصعوبة وأسرار فعل التعلم ، في خطر ربما للمجازفة بالتركيب النظري و العملي المبحوث عنه بين الحداثة و التلقين : على نطاق واسع ، إن فكرة " معرفة " ألم يتم تقديمها في الكتاب بطريقة مجردة جدا بعض الشيء ، مركزية و" أثرية " دون أن يكون بما فيه الكفاية توضيحا و تحديدا لمضموناتها لمدرسة اليوم ، ولا الأخذ في الاعتبار بشكل كاف القدرات التي تتمنى تشكيلها ، أي ما يقدر عليه تلاميذ اليوم من اكتسابه بأنفسهم ؟ لا يمكننا مواصلة البحث في هذه القضايا هنا، ولكن ربما أنها ستكون موضوع المناقشة على طاولة مستديرة يوم الثلاثاء 3 يونيو القادم ، تنظيم حول الكتاب بحضور المؤلفين .
Marie-Claude Blais, Marcel Gauchet et Dominique Ottavi
بعد من أجل فلسفة سياسية للتربية (2002) وشروط التربية (2008) ، ينشر ماري كلود بليس ، ومارسيل جوشيه ودومينيك Ottavi عملهم الثالث المشترك ، الذي سوف يعمق عملا عظيما لغرض التفكير في التربية في العصر الحديث ، و الذي يجب الاعتراف بأهميته و بوجوده .
هذا الكتاب ، بعنوان التلقين و التعلم ، المدرج في حلقة دراسية لمدة سنتين في إعدادية بيرنارداين ، يقترح بتكثيف هذين الفعلين الاثنين وعلاقتهما في " المشكل الفكري " لمدرسة اليوم . " التقلين" transmettre يشير هنا بصفة عامة إلى العملية التي تكمن في ضمان نقل بعض المكتسبات من جيل إلى آخر، و إرث الماضي ، وتحديدا مجموعة من الرموز والمعارف ، القصد أولا هو التلقي : التربية منظورا إليها من وجهة نظر التقليدانية . " التعلم "، من جانبه ، يشير عكس ذلك إلى فعل التعلم باعتبار وجهة الفاعل الذي يتعلم ، ويشير بداية في الكتاب إلى بعض المفاهيم وتوجهات التعليم التي تركزعلى البناء الذاتي الفردي للمعارف ، و ترفض فكرة الانطباع . التلقين في مقابل التعلم ، هو ذا المعنى الأول من العنوان . ولكن ما يسعى الكتاب في نهاية المطاف إلى إقامته ، هو ضرورة التفكير معا في هذين البعدين من التربية الانسانية ، و إعادة النظر في علاقتهما الأساسية ، مع الاشارة مرة واحدة للفشل النظري والعملي لمعارضتهما من جانب واحد . وفي هذا الصدد ، فإن هذين المصطلحين يكثفان " المشكل الفكري " للمدرسة اليوم ، وأيضا ، بطريقة أو بأخرى ، سبل حلهما .
مشكلة التحليل أولا : الأزمة الحالية للمؤسسة التعليمية يمكن تفسيرها من خلال الحقيقة أن لو كان عالم التلقين" مات و قد مات تماما "، فإن عالم التعلم الذي خلفه ، على الرغم من نواياه وانتصاره ، لم يستطيع إلى حد الآن إنشاء مدرسة محفزة ، فعالة ونزيهة . عالم التلقين هو عالم ميت ، ولكن ليس التلقين في حد ذاته (و لا واقعيته ، و ضرورته) ، وعالم التعلم يهيمن لكن لا يفي بوعوده و يئس ، مبرهنا في ذلك على ضعفه ( من حيث الفعل والحكم ) . و كما نعلم فهذا صحيح في المدارس ، ولكن واحدة من فوائد الكتاب هو محاولة الفهم لهذه الظواهر في خلفية أوسع من ذلك بكثير . أزمة المدرسة لا ترجع في المقام الأول إلى الأخطاء التربوية في السنوات الثلاثين الماضية ، ولكن إلى اتجاهات أكثرعمقا تشتغل على الحداثة منذ بداياتها والتي سيتم تحديثها بشكل كامل في النصف الثاني من القرن العشرين : الانتقال " النهائي" ولكن هناك إشكالية من " مجتمع التقاليد " إلى " مجتمع المعرفة " . ثم هناك مشكلة المنظور : ما يدل أيضا على هذه الأزمة - الانتصار المتناقض للتعلم ، المثابرة او الاصرار المكبوت للتلقين - ، كلنا في حاجة إلى إعادة النظر في كل هذه الأبعاد غير القابلة للاختزال واحدة تلو الاخرى للتربية الانسانية وتحثنا في هذا إلى ايجاد وسائل و أدوات لمفصلتها إجرائيا . إنها تسمح برسم الخطوط العريضة لبرنامج نظري وعملي لتجديد المؤسسة المدرسية و البيداغوجية التي تقتضيها . هذا "المشكل الفكري" للمدرسة يطرح من خلال خمسة أجزاء سلسلة من الإضاءة من عدة زوايا و بؤر، التي تجعل من هذا العمل ثروة في عدة مناحي ، والذي نود الآن تقديم أهم أبعاده في عيوننا . يتمفصل فيه بالفعل مقاربة تاريخية و أنثروبولوجية في نطاق واسع ، ومقاربة أكثر سوسيولوجية للظروف المعاصرة للتربية (دور الأسر و الحضور الوازن للأشكال " النموذجية "، تكنولوجيات حديثة) ، وعناصر لـ التاريخ الفكري الخاص بالأفكار التربوية في القرن العشرين ، و أخيرا ، تفكير فلسفي إيبستيمولوجي ، مفاهيمي و ظاهراتي حول طبيعة التعلم . سوف نركز بشكل أساسي على الأول والأخير .
مفارقة تحديث المدرسة
يبدأ الكتاب بتحليل لجذور التحول العميق الذي عرفته الأنظمة التربوية منذ السبعينات 70، التحليل الذي إطاره العام هو تحليل لجزء من تاريخ " الحداثة "، منظورا إليه أساسا كسيرورة طويلة في آن واحد سوسيوـ سياسيا و إيبستيميا (معرفيا) " ضد التقليدانية " و " الفردانية " : على هذا النحو ، التلقين ، و التعلم يتموضع بوضوح في استمرارية عمل مارسيل جوشيه الذي ، منذ خيبة الأمل من العالم (1985) ، طور تحليلا موسعا ومعقدا للحداثة مفاده " الخروج من الدين " و قدوم - إشكالية - عالم حيث يتطلع فيه الناس إلى الحكم بأنفسهم . في هذا الإطار، ولادة وتطور المدرسة الحديثة كُتِبت بخطوط عريضة تنشدان " تسوية " تاريخية ، غير مستقرة ولكنها مقاوِمة دائما ، بين رغبة واضحة في بناء نظام تعليمي جديد مُكَوِّنا أفراد مستقلين يعتنقون العقلانية المنهجية و النقد ، و الحفاظ الضمني لمتطلبات التقاليد وسلطة الماضي ، من خلال المضامين المُدرَّسة وأساليب التدريس . في العمق ، لقد كانت المدرسة حتى أواخر القرن العشرين المؤسسة الحديثة المتناقضة التي ، بتعزيزها و الرفع من منزلة الأفكار الحديثة للمعرفة المنهجية والفرد العقلاني ، " كانت تصل حتى في الحداثة المتقدمة إلى روح المجتمعات التقليدية القديمة " : " التعلم " و" التلقين " يتمفصلان بطريقة أو بأخرى . انطلاقا من السبعينات 70، هذه التسوية سوف تنفك و" تتلاشى نهائيا "، لفائدة الاتجاه الحديث حصريا ، متبثين بذلك قدوم " مجتمع المعرفة " متحررا بدءا من الآن من " المجتمع التقليدي" . أصبحت المدرسة في أوائل القرن العشرين ، مع تطوير " بيداغوجيات جديدة " و " التربية التقدمية "، موضوعا للنقد السياسي والتقاني ، و تحت الضغط بشكل عام لموجة جديدة من الفردانية الديمقراطية ، ان المدرسة الحديثة ، التي كانت في الواقع ولا يزال لحد الساعة " تقليدية " في العمق في روحها و ممارساتها ، انتهت في الأخير إلى تغيير النموذج الارشادي : المأمورية الرئيسية للمدرسة ، الآن ، لن تكون أبدا الضمان الأول للتنشئة الاجتماعية عن طرق تكريس الماضي ، إرث الذاكرة الاجتماعية ، ولكن المساهمة في تطوير الأفراد ، و لهذا السبب فإن " فعل التعلم غلب على طريقة التلقين المحكومة بالتخلف و التراجع ، سواء من وجهة نظر السياسيين أو نظرتها في اكتساب المعرفة ".
ولكن الأطروحة الأصلية للتلقين ، التعلم يكمن في تسليط الضوء على المفارقة لهذا الانتصار من الأفكار الحديثة للتربية و" قدسية المتعلم" التي تلازمه ، انتصار خادع بحيث يحاول معظم الكتاب عرض حدوده : ما تكشفه و تعنيه " الأزمة " المستمرة للمدرسة المعاصرة ، في مختلف جوانبها، هو أنه في النهاية فشل واضح ، وإلى حد ما لا مفر منه ، للمؤسسة التربوية التي تسعى جاهدة للقضاء ، ولكن دون جدوى ، على أي بعد لـ " التلقين " . من جهة ، أربعون سنة من بعد منعطف السبعينات 70 ، لا بد من مواجهة الحقائق : تُظهرالحقائق التي ، على عكس الأهداف التي رسمتها وعلى الرغم من الإصلاحات المتعاقبة الموضوعة للتنفيد ، فإن المدرسة لم تتمكن لا من إعادة تجنيد فاعليها و لا أن تعيد إعطاء معنى لمحتوياتها المدرسية ، ولا أن تقضي بفعالية على الفشل الدراسي ، و بالأخص عدم القدرة على الحد من عدم مساواة التمدرس و نتائجها فيما يعود للاستنساخ الاجتماعي . لتفسير هذا التناقض ، يشير الكتاب بحق إلى الواقع الثابت والمستمر وأهمية الميكانيزمات غير الرسمية وغير المرئية للتلقين التي ، حتى نقول ذلك أبعدت من المدرسة ، لا تزال تنتج مع ذلك آثارها على الأجيال الشابة ، و خاصة بطريقة أكثر قوة مما جعل النظام المدرسي ينصرف رسميا عنها : في إطار الأسرة على وجه الخصوص ، ولكن أيضا من خلال وسائل الإعلام العلاقات بين الأقران ، سلسلة كاملة من التلقينات " السرية " تشتغل ، على المستويات النفسية ، الأخلاقية والمعرفية ، خارجة عن سيطرة المؤسسة ولكن محددة على نطاق واسع ، عملياتها الخاصة . وهكذا ، فإذا كان التلقين قد استبعد بطريقة أو بأخرى من المدرسة ، فإن هذا الأمر لم يحدث في المجتمع نفسه : و النتيجة هي أن المدرسة نفسها حرمت من وسائل للعمل على هذه المحددات الاجتماعية و التباينات و الفروقات التي تميزها : " و بالتالي ، إذا فشلت المدرسة في تقليص الفوارق ، فلأنها تعثرت أمام قوة و صلابة التلقين غير النظامي (...) الذي يؤثر بخاصة على أداءات التلاميذ بحيث يتم التركيز على طرقهم الفردية ". من هنا ينجم الردب المؤلم و الارتباك الشديد الذي تتواجد فيه الآن ، دون أن تكون تماما على علم . ولكن ما يدافع عنه الكتاب من جانب آخر هو أن هذا الاستمرار للواقع يشهد ، بشكل عميق ، للضرورة الأنثروبولوجية للتلقين والتي ، في هذا المعنى ، لا يمكن الاستغناء عنها أو القضاء عليها في التربية الانسانية لفائدة نشاط واحد للتعلم صمم ليكون بناءا فرديا ذاتيا : لأن الإنسان بحد ذاته هو كائن من الثقافة والتاريخ ، كائن بالميراث ، فإنه لا يمكن أن يبنى ذاته على انفراد ويتوجه نحو المستقبل من غير اتصال بالماضي الجماعي ، لـ " أسبقية " اجتماعية يجب ان يتبناها لكي يجد ذاته . وهذا يعني أيضا ، على ما يبدو، أن عملية " الحداثة " في حد ذاتها لا يمكن أن تتحقق تماما ، بقايا من " التقليد " – وبالتالي من " الدين " ؟ - يبدوان متعذرين إستئصالهما من العلاقات الإنسانية ، بحيث ان المهمة التربوية ، و ان لا أحد حتى الآن لم يجرؤ على إعلان أن الزمن قد عفا عنها ، تؤسس بمعنى من المعاني النواة الصلبة .
معنى التعلم
هذا التفسير التاريخي للحالة الحرجة للمدرسة المعاصرة أدى بمؤلفي الكتاب إلى رغبة إعادة على هذا الأساس طرح قضية التربية المدرسية ، من خلال تحليل أساسي فيما يكمن وماذا يعني أن " نتعلم" ، تحليل يعطي للكتاب كثافة فلسفية و أيضا بعدا برمجيا : " إعادة الكل من جديد ، بدءا من المعارضة المفترضة بين نشاط التلميذ وتلقين المعرفة ". الجزء الرابع من الكتاب على وجه الخصوص ، فضلا عن الفصل المخصص للمعلمين والتلاميذ ، يهتم بتطوير مقاربة في آن واحد ظاهراتية ، إيبستيمولوجية و مفاهيمية ، و التي تؤدي إلى إقامة تكامل من حيث الواقع و المبدأ بين التعلم و التلقين . كيف تقدم فعلا المعرفة للطفل ، مثل ما هو عليه في المضامين الدراسية من الأكثر بساطة و تسهيلا إلى الأكثر تعقيدا ، هذه هي نقطة الانطلاق والقضية الرئيسية للجزء الرابع من الكتاب تحت عنوان « من أجل ظاهراتية التعلم »« Pour une phénoménologie de l’apprendre »
ما يستنتج عامة من هذا التحليل ، هو أن الطبيعة " المُقاوِمَةُ " للموضوع الذي نجري من ورائه - المعارف المتوافرة في المدرسة – تجعل من فعل التعلم نفسه " صعب " ، في الواقع تجربة " متفردة " لن تنطلق هكذا كأمر مسلم به ، في سير متقطع اتجاه التجربة الطبيعية للطفل : " هذا الموضوع لا يخضع في انضباط و تلقائية لمنطق التملك الشخصي . فهو يتحدى هذا المنطق بل يعارضه. " غير أن هذا يَستبعد من حيث المبدأ إمكانية تعلم هذه الأشياء بشكل طبيعي في حد ذاتها ولذاتها - فكرة البناء الذاتي للمعرفة من قبل التلميذ - ويظهر بدلا من ذلك الضرورة الحاسمة و الملحة لفعل التلقين . إن الظاهراتية للتعلم تشير فعلا إلى الملامح الرئيسية التي تجعل من الصعوبة بمكان إدخال الفرد في عالم المعرفة ، الملامح والصعوبات التي أدت بالتصور الحديث للمعرفة (تأكيد صدارة الفرد العارف ) والنظرية البيداغوجية السائدة في القرن العشرين (وخصوصا نظرية جان بياجيه) إلى إهمالها أو حتى إلى قمعها . تعلم القراءة ، و تعلم الكتابة والعد ، كما في وقت لاحق ، تعلم حقول التخصصات الدراسية (الفيزياء ، والتاريخ ، والجغرافيا ، وغيرها ) ، يعني في كل مرة محاولة اختراق مجموعات شمولية مُشَكَّلة مسبقا ، عبارة عن" متاهات " من المعاني المترسبة ، التي تُقَدَّمُ في بداية الأمر بالضرورة إلى الفرد الذي يعالجها مجردة بغرابة ، مصطنعة و حتى" باطنية " و التي تستدعي من جانبها شكلا من أشكال الازاحة عن المركز مقارنة مع باقي تجربته الشخصية – هذه المجموعات الشمولية لا تفرز المعنى على الفور : " التعلم ، هو وجوب الدخول في منظومة من المعاني المتماسكة و يلزم القدرة على امتلاكها في لمحة من البصر– لأنها منسجمة ، بالتحديد ، وأن هذا البعد الكلي أو النظرة العامة هي التي تمنحها إمكانيتها. وبالتالي أي ولوج من هذا النوع ينتهي عند الحائزين بفتور الهمة بأن الدخول مستحيل . الجزء الذي أمسكنا به ضئيل و الكل بعيد المنال . لما نصل عند سفح القلعة ، فإنها تبدو منيعة . " لن أتمكن أبدا ": هذا الانطباع الصراعي الميئوس منه هو هيكلي . سببه لا يعتمد على السيكولوجيا الفردية ، ولكن يعود لطبيعة المهمة . " وهكذا ، التعلم ( المدرسي بخاصة ، ولكن ليس فقط ) يكمن بالضرورة ، يمكننا قول ذلك ، في تجربة شكل من أشكال " التعالي transcendance " ، أشكال موضوعات المعرفة التي يجب أن تكون ، إذا كنت تريد أن تتعلمها ، قادرا على المكابدة و تحمل الموضوعية - عواملها الخارجية ، و سوابقها ، و حقيقتها و شموليتها غير قابلة للحجز أو الادرك تماما - ، و أشياء و موضوعات التي يتم استبعادها إذاً مسبقا من أن الفرد يستطيع بناءها على الفور وبشكل كامل من طرفه بالذات . اللغة ، بامتياز ، تمثل مثل هذا الموضوع المتعالي ، باعتبار أنها تسبق و تتجاوز الفرد المتكلم ، الذي يجب أن يستقبلها أولا و يندمج فيها ليتحدث بها بنفسه بصيغة المتكلم ، الأمر الذي لم يحصل بعد في أي مكان بالمعنى الدقيق للكلمة " نحن لم ننته بعد من تعلم الكلام أبدا ". ولكن ما هو صحيح في اللغة المحكية هو صحيح أيضا ، في أشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة ، في كل موضوع خاضع للتعلم ، سواء كان ذلك معارف الفعل الخاصة بالحرف أو كذلك عالم الرموز المكتوبة ، الذي يعتبر المجال المميز للتربية المدرسية . و لهذا السبب يتضح في كل مرة ضرورة الوساطة التوجيهية ، نوع معين من التدريبات ، شكل من التلقين : " فهو في حاجة إلى من يقود ..للعبور .. الذين يبنون قنطرة مع تلك الضفة الاخرى التي تبدو متعذرة البلوغ . يجب القدرة على الاعتماد على المتواطئين الذين يجلبون لك على حد سواء السلامة بسبب سيطرتهم على نقطة النهاية وفهم الطرق و المسلكيات . " لكي يتحقق التعلم وحتى يكون الفرد" نشطا " في تعلمه ، فإنه يجب أولا أن يكون مدعما و مصاحَبا من طرف " معلم " قادر على ايجاد الأدوات و الوسائل للتقديم بداخل الأشياء والحقول والتي على خلاف ذلك تبقى غريبة إلى حد كبير ، و قادر من أن يجعل من التلميذ يتمتع و يستفيد من السهولة الشخصية التي كانت لديه ، وبنفس الطريقة ، مكتسبة . التلقين ، حسب هذا المعنى ، ليس هو غرس في الذهن بطريقة سلطوية مضامين و محتويات موحد مرة واحدة وإلى الأبد لتقليد مقدس ، والكتاب يصر على أن لا نخلط بين فكرة التلقين مع الأنماط الخاصة التي تبنتها في التاريخ . التلقين هنا ، هو أولا التغلب على صعوبة التعلم ، هو انعتاق و تحرير المقدرة على التعلم من خلال التنظيم بحدق و بمهارة استدخال في العالم مواضيع المعرفة ، و جعلها مألوفة تدريجيا . و هكذا في حالة من الفهم الجديد فإن التلقين والتعلم لا يتعارضان فيما بينهما في الواقع كثيرا ، تحالف جديد بينهما يمكن تصوره ، و بيداغوجية جديدة يمكن تخيلها ، هذا هو الاتجاه العام الذي يشير إليه الكتاب - إمكانية وتسهيل فعل التعلم : " هدفها الاستراتيجي هو بناء التدرجات المساعدة للتغلب على الفجوة الهيكلية الموجودة بين المعنى العام و الطبيعة المجزأة لا محالة للمكتسبات . هذا هو معنى " التلقين ". مهمة صعبة للغاية التي تكمن في إيجاد ترتيبات للمراحل التي تعطي فكرة شاملة للمجال المعني في حدود المعرفة المجزأة . لأنه على هذا التوتر الداخلي ما يتعثر و يصطدم في كل لحظة فعل التعلم . إنه عقبته الدفينة ، إثارته الأصلية للرفض و التخلي : تجعل أن ، كلما تعلمت كثيرا ، كلما أدركت اتساع و مدى ضعفك و ما ينقصك ، و أيضا يحصل لديك الانطباع بالتراجع كلما تتقدم .
مهمة البيداغوجية هو قلب هذا العامل المثبط إلى عامل دعوة أو نداء ، وذلك بفضل مسارات مصممة تصميما جيدا ، التي تعرف كيف تعطي فكرة للهدف في أي مستوى من المستويات المتواضعة مهما كان الأمر. " هذا الاستنتاج المبرمج لديه الأفضلية في تقديم طريق للخروج من المآزق للنقاش الأبدي بين الأنصار" التقليديين " للمعرفة والتعليم و المروجون " التقدميون " لنشاط التلميذ . لدى المدرسة " التقليدية " ميل في إدراك التلقين كأنه إنطباع وغرس في الذهن بشكل مستبد لماض غير قابل للتغيير ومقدس ، دونما الاهتمام بمعرفة كيف لهذه المحتويات قد تكون حقيقة مكتسبة فرديا من طرف أفراد المدرسة : فهي مدعوة للنقد ، ومن وجهة النظر هاته البيداغوجيات الحديثة و نظريات نمو الطفل في القرن العشرين لهما دور ملائم و شاف يظل في هذا الصدد أمرا مكتسبا . ولكن ، لأن هذه الأخيرة غالبا ما أخطأت أيضا بسبب نظرتها الأحادية ، فإنها تجعل اليوم من " نقد النقد " حاجة ضرورية ، مرحلة جديدة من الفكر التربوي الحديث " خطوة من شأنها مفصلة هذه المصطلحات ، التلقين و التعلم ، المطروحة منذ زمن طويل في عداء الذي أعفى بجدية عن مساءلة المحتوى و المضمون .
إذن فهو كتاب مكثف و مثير يقترحه علينا ماري كلود بليس ، و مارسيل جوشيه ودومينيك اوتافي ، و يستحق ليس فقط إلى أن يُقرأ ولكن أيضا ليستمر و يناقَش من قبل جميع أولئك الذين ، كانوا فلاسفة أم لا، يرغبون في تعزيز التفكير الجماعي للمدرسة اليوم وغدا . على المستوى التحليل التاريخي للحداثة ونتائجها التمدرسية ، الأطروحات هي واضحة و مدعمة بقوة ، ولكن يمكننا مع ذلك من أن نتأسف من عدم وجود مساحة كبيرة مخصصة لمقاربة سوسيو ـ اقتصادية : و لنقولها بصراحة كل ما يوجد هنا من تفكير كعلامات لـ " الحداثة " و تناقضاتها الداخلية ( " القضاء على التقليدانية " ، و" الفردانية " ، و" خيبة الأمل " ، و حاضر/ مستقبل ، و هيمنة العقلانية الأداتية ، و فقدان معنى المعارف ، وسلطة وسائل الإعلام ، وما إلى ذلك) أليس هذا له علاقة ، بشكل أساسي ، مع الرأسمالية وتطورها ؟ وبشكل أكثر تحديدا ، لفهم التطور النقدي والحاسم للأنظمة المدرسية في النصف الثاني من القرن العشرين أليس من الضروري الأخذ بعين الاعتبار أيضا الانتقال إلى " رأسمالية معرفية " التي تدمج بداخلها الحياة الرمزية الإنسانية كلها في منظومة الإنتاج ، نفسها متورطة في الابتكار المستمر والنزعة الاستهلاكية ؟ من جهة أخرى على المستوى فلسفة التربية و نتائجها البيداغوجية ، فإنه يمكننا أن نجد مفرطا في بعض الأحيان التشديد على الجانب " الباطني " و " المتعالي" للمعرفة ، وبالتلازم حول الصعوبة وأسرار فعل التعلم ، في خطر ربما للمجازفة بالتركيب النظري و العملي المبحوث عنه بين الحداثة و التلقين : على نطاق واسع ، إن فكرة " معرفة " ألم يتم تقديمها في الكتاب بطريقة مجردة جدا بعض الشيء ، مركزية و" أثرية " دون أن يكون بما فيه الكفاية توضيحا و تحديدا لمضموناتها لمدرسة اليوم ، ولا الأخذ في الاعتبار بشكل كاف القدرات التي تتمنى تشكيلها ، أي ما يقدر عليه تلاميذ اليوم من اكتسابه بأنفسهم ؟ لا يمكننا مواصلة البحث في هذه القضايا هنا، ولكن ربما أنها ستكون موضوع المناقشة على طاولة مستديرة يوم الثلاثاء 3 يونيو القادم ، تنظيم حول الكتاب بحضور المؤلفين .