التعلم في وسـط مثيـر : مهمة مستحيلة ؟
من طرف مارسيـل شابــو
الحياة البيداغوجية ، رقم 95 ، شتنبر – أكتوبر ، ص ، من 18 إلى 20 .
إن قضية التربية قضية تهم الجميع . ربما لأجل هذا السبب هو ما يجعل كل واحد يعتقد في إمكانية نقد الممارسات الموجودة في الساحة و تقديم نماذج او طرق تعليمية خاصة لتصحيح التعثرات الحقيقية او الخيالية لنظامنا التربوي . غير أن ما نجده في معظم الأحيان ، هو التشهير و الهجوم على رجال التربية بلا رحمة . في داخل هذا الخليط من الصياح و العويل المصبوغ بالاحتقار ، نرى الأساتذات و الأستاذة يتعرضون للضرر و للقسوة بشكل خاص . كمثل حكاية الحمار ، يتهمون بكل الشرور و يحاكمون بدون أي مرافعة . الأكثر حزنا ، هو أنهم ، بالرغم من عددهم ، لا يردون على هذه الاتهامات . حتى إذا أقدموا على رفع الرأس أحيانا ، فإنهم يفعلون ذلك في وقار واحتشام و في بعض الأوقات بصورة غير سليمة .
تبعا للخطاب المهيمن ، إن علاج الفشل المدرسي و العزوف يجب أن ينظر إليه من خلال الرجوع إلى القيم الحقة و إلى تدريس مبني على التقليد . الصورة المثالية للاستاذ الذي يخطب بإطناب أمام قسم من التلاميذ الظرفاء و هم يشربون كلامه في صمت و خشوع ، متخمين إلى حد الامتلاء ، مثل العنقاء ، كانت تبعث دوريا من أنقاضها . ليس من السهل التضحية بالعجول الذهبية التي كنا مرغمين للانحاء لها في أيام طفولتنا . من الغريب حقا أن ، بما أننا افتضحنا أمرها في شبابنا ، نكون أحيانا جد متسرعين إلى درجة استرجاعها من جديد مظهرين لها الاعجاب الشديد .
بعيدة عني تلك الفكرة أنه من اللازم التنكر و الرفض جملة و تفصيلا للمرتكزات و للمبادئ لبيداغوجية بنيت منذ فترة طويلة من القرون و التي تطورت ببطء بفضل إسهامات المفكرين المرموقين و البيداغوجيين . الأنماط و الاشكال تمر لكن البيداغوجية تبقى . يحصل لدى الأيديولوجيين بالأخص هذا الميلان المزعج في « رمي الطفل مع ماء الغسيل » . إن طرق التعامل مع الماضي ليست كلها عقيمة و غير منتجة ، مثل باقي الاختراعات الكثيرة التي لا تضمن دائما المردوية المأمولة .
و مع ذلك ، للمشنعون باستمرار و المنتقصون من بيداغوجية عصرية التي تعمل على تسهيل العمل و استقلالية الطفل ، لا بد أن نرد عليهم بقوة و نقول أن المجتمع الامريكي في الجنوب قد تغير بشكل كبير طيلة العقود الأخيرة و أن علوم التربية استفادت بشكل موسع من العديد من الأبحاث حول التعلم ، سواء في ميدان الديداكتيك ، أو في العلم النفس ، أو في علم النفس التربوي ، بل حتى في علم الأعصاب او علم الحياة .
العالم الذي يعيش فيه الشباب في نهاية هذا القرن هو عالم مختلف عن العالم الذي تطورنا فيه و ذلك بقليل من 30 او 40 سنة . لقد تغيرت التقاليد و العادات بشكل جذري . وسائل الاتصال قلصت حجم الكوكب و أصبح قرية كبيرة . مجتمع الاستهلاك بلا قيد الذي وصينا به و ورثه عنا الأخرون ، يريدون استغلاله في الصميم .
منذ الفلاسفة و البيداغوجيون الأغريق ، مرورا بألان ، ديوي ، منتيسوري ، فريني ، بياجي و كوكبة من المفكرين الآخرين و البحاث الحداثيين حول التربية ، و البيداغوجية ، أي فن التدريس ، تلقين للشباب الثقافة ، العلوم و التقانية ، كل هذا بدون اعتراض قد تطور . لا نملك أبدا اتجاه الطفل و الطفولة نفس الرؤية التي كانت في بعض القرون أو حتى خلال بعض العقود . منطلقين من حدوسات لبعض البيداغوجيين ، لقد وضح وبرهن بياجي في دفعة واحدة ان التعلم الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا حصيلة تجربة شخصية ، مهناج نشط و مستقل يستمد جذوره من الجينات . ماهية الرجل و المرأة تكمن هكذا في القول بيولوجيا مبنية من اجل التعلم pour apprendre ، شريطة ان يكون مع ذلك متصلا مع العالم و أن يقدر ، عن طريق التجريب ، و المحاولات ، و النجاحات او الاخفاقات ، على « استيعابه » ، يصبح جزءا من ذاته . كتب حديثة تهتم بالتعليم الاستراتيجي ، كتكاب جاك طارديف ، تشرح هذا التصور الجديد للتعلم مستعينا بأمثلة ملموسة .
هذا الاستطراد الذي قد نجده طويلا بعض الشيء يؤدي بي إلى صلب الموضوع : التعلم في وسط مثير و غني . هل هذا الكلام هو من باب تحصيل الحاصل؟ هل من الممكن تصور ، آخذين ما فات بعين الاعتبار ، أن التعلمات الحقيقية و المستدامة بإمكانها أن تقام في وسط فقير و موات قليلا لحث الفائدة و الاهتمام ؟
و بالرغم من ذلك ..
بعض العوائق
المدرسات و المدرسون الذين يرغبون في خلق وسط مثير لتلامذتهم و جعل من أقسامهم مكانا غنيا بالمناسبات تسهيلا لالتزاماتهم يجب عليهم تجاوز بعض العوائق . سيكون من الوهم و الشؤم التنقيص من أهمية الموضوع ، كما يحدث في غالب الأحيان ، بإخفاء الغبار تحت السجادة .
بداية ، هناك المقررات الدراسية : كل مقرر يجزأ إلى قطع من الأهداف التي تعد بالمآت لكل قسم ابتدائي . ليس هذا بطبيعة الحال مهمة سهلة شبيهة بأعمال البهلوان وهو يقدف في الهواء هذه الموضوعات الغزيرة و يلتقطها واحدة واحدة .. و محاولة استخراج منها ما يشكل وحدة منسجمة استعداد لخدمة نشاط يحظى بالمعنى . و لا سيما أن الدورالمنوط بالمدرسات و المدرسين هو التأكد من ان جميع الأهداف قد تحققت في الزمن الممنوح . الاخلال بهذه المأمورية الأساسية يمثل بالنسبة إلى هؤلاء نوعا من الغش و يؤدي بهم دائما إلى مساءلة كفايتهم و طبيعة التزامهم . الاغراء إذا هو جد كبير في الالتصاق بحرفية المقرر بدل التمسك بروحه . الحرفية ، كما نعلم ، تقتل : في معظم الحالات ، على الأقل ، تخنق شرارة ما يوجد في أنبل الطموحات !
و ماذا نقول عن الروزنامات و المواعيد التي تحول الوقت الثمين جدا إلى قطاعات دقيقة يجب جمعها و تفكيكها بلا توقف ، حسب الأيام ، الأسابيع و المراحل . هل من المعقول الشروع في أنشطة ذات النفس الطويل في عالم هندسي مقطع بالسكين و مرقم بدقات الأجراس من كل نوع ؟ في هذه الظروف ، ليس من المدهش أن لا نختار سوى أنشطة أو تمارين مختصرة تخدم أكثر تأثيت الوقت و ليس إثارة التحديات الثقافية الحقة !
ثم هناك الفروقات الفردية . قسم متكون من 25 أو 30 تلميذا هو بمثابة عالم معقد : بعض التلاميذ يسهل الاهتمام بهم و تحفيزهم ، آخرون لا ؛ بعض التلاميذ يتقدمون بسرعة أكبر من غيرهم ؛ هناك من يعاني من المشاكل الشخصية ؛ هناك من هم مشاغبون و يفسدون النظام ؛ هناك أيضا من هم مرتاحون للمفاهيم المجردة ؛ هناك الأخرون الذين يحتاجون لرؤية الأشياء ، لمسها ، معالجتها يدويا ، تجريبها . بالنسبة للمدرسات و المدرسين ، خلق وسط مثير يفترض مهارة من نوع خاص تأخذ بعين الاعتبار بشكل ديناميكي كل هذه القسمات المتفرقة ، أحيانا صعبة في التآلف .
يمكننا تمديد اللائحة : العناصر المختلفة المشوشة التي تحضر طيلة السنة الدراسية ، الفقر أو قدم الأداة و العتاد ، الضغوطات المرتبطة بالتقويم و احتساب النقطة الممنوحة في التعلم .
ما وراء الخطابات النبيلة و الشجاعة حول التربية و التعليم ، نقبل تماما مضطرين القول أنه لا زال هناك بعد بين الكأس و الشفاه .
و رغم ذلك
من الصعب إلى الممكن
قد نجد العديد من المدرسات و المدرسين ، لما توقفوا عن التشكيك في قدراتهم و كفاياتهم و عن النزوع نحو التدمير و الهدم ، نراهم قد تغلبوا منذ فترة طويلة على هذه العوائق من أجل « إمساكها في أيدهم » ، كما كانت تقول أمي . و الواقع هو أنهم لا يستطيعون ممارسة مهنتهم دونما ترك الأثر في تدريسهم ببعض « الدوائر » . يمتلكون ، كما نقول ، مادتهم ؛ لهذا فهم لا يخافون « تقطيع الزوايا الدائرية » للذهاب إلى ما هو أساسي و مهم . أيضا لا يشعرون أبدا بأي ذنب و هم يضيعون بعض الوقت في الاستطراد لأثارة حب الاستطلاع أو ربط مفهوم جاف و عويص بحقيقة الحياة الواقعية . كمثل هذا القس في الستين من عمره و أنا في 15 من عمري ، بدل أن يفصل لنا مقرر التاريخ العام صفحة صفحة ، كان يشغل معظم اوقات الدرس في الحكي عن تجاربه كراهب مستعمر في آبيتيبي ، كان يحكي لنا عن أيامه في روما في عهد الفاشتية او يحدثنا أيضا عن ميلاد التعاونيات في كيبيك و عن نتائجها . « البرنامج ، غالبا ما كان يردد لنا دائما ، أنتم تحسنون جيدا االشطارة و التصرف لقراءته بدون مساعدتي ! ». أظن أن طريقته الأرثوذكسية الخافتة قليلا في تدريس التاريخ قد أثرت في كما أثرت في زملائي في القسم . موقفنا نحن جميعا ، خاصة فيما يتعلق بهذه المادة ، قد تغيير و تطور : بفضله ، أصبح التاريخ مادة حية ، متجذرة في الواقع . معه ، كلنا أجمعين ، تلامذته ، قد تعلمنا على الأقل شيئا ما ، أي التعلق و الاعجاب بالتاريخ ، ليس فقط كموضوع للدراسة ، مدهش و أخاذ في حد ذاته في بعض الجوانب ، لكن بالأخص للاستخراج منه دروسا ملائمة و شافية للحاضر و المستقبل . الباقي ، يعني الأسماء ، التواريخ ، الأحداث ، ما هي إلا آداب .
هؤلاء المدرسات و المدرسون محبون للاستطلاع و لا يستطيعون منع أنفسهم من مقاسمة أذواقهم ، اهتماماتهم ، ثقافتهم مع تلامذتهم . سواء تعلق الأمر بالموسيقى العصرية او الكلاسيكية ، بالمسرح ، بالأعمال الأدبية ، بأوقات الفراغ ، دائما يجدون الفرصة السانحة لاستدخال في دروسهم أمثلة ، نوادر ، شروحات مدهشة ، مثيرة و محيرة لدى التلاميذ . يقبلون بفقد الوقت قليلا من اجل إسماعهم المقاطع التي أدهشتهم أولا ، من اجل القراءة عليهم المختارات التي تذوقوها على وجه الخصوص ، من اجل عرض عليهم الأعمال الفنية التي لمسوها عن قرب ، من اجل مدهم بلغز محير ، من اجل دعوتهم للتفكير في أمثولة ، في فكرة ، في حكمة ، لتنشيطهم و حثهم نحو سداد الرأي او إقامة مقارنة أصيلة ، أو استعارة . كان عندي « أستاذ » شبيه بهؤلاء . كان لا يبدأ في درس أبدا بدون أن يقوم « بإعدادنا » . في يوم من الأيام ، علق على الحائط لوحة من أعمال فان كوك ؛ في يوم آخر ، أسمعنا مقطع لـ بوركي و بيس ؛ في اليوم التالي ، قرأ علينا جزءا من رواية . كانت تلك طريقته في إحداث بداخل عقولنا الصغيرة ما يسمى بالعائق المعرفي الذي تقول عنه السيكولوجيا المعاصرة بأنه ضروري في التعلم . عجبا – هل كان هذا مجرد صدفة ؟ - لقد كانت مشاكل المواد التعلمية غير معروفة في قسمه ، بالرغم من عدم اتصافه بالمستبد أو بالجلاد ، بل العكس هو الحاصل .
هؤلاء المدرسات و المدرسون أنفسهم لا يتضايقون في استعمال داخل أقسامهم الجرائد ، المجلات ، الافلام ، الفيدوهات : للعيش ، تلامذتهم يحتاجون استنشاق الهواء الخارجي ، التعرف و فهم الأحداث التي تكون معاشهم اليومي . هؤلاء التلاميذ ينتظرون من الراشد الذي يمثل أمامهم مساعدتهم في تفسيرها ، وضعها في السياق ، الكشف عن الأسباب ، استخراج منها النتائج . يتمنون بأن يلعب تماما دوره الوسيط ، لتقديم رؤيته في الأمور ، رؤية مستوضحة من قبل التجربة و المعرفة العميقة للواقع .
البرامج المدرسية او الوثائق الأخرى المصادق عليها من طرف الوزارة تشكل ، بالتأكيد ، جزءا من مجموعة من المؤلفات المستعملة من قبل المدرسات و المدرسين الذين يعرفون ، بطبيعة الحال ، كيف يخلقون وسطا مثيرا ، لكن هذه المؤلفات ، رغم كماليتها و جاذبيتها الكبيرة ، لا يمكنها أن تستجيب لرضى الصغار المتخمين بالمعلومة و الرسائل الالكترونية حيث عرضها الديناميكي يستدعي الوسائل التقانية الاكثر تقدما و فعالية . البرامج و المقررات المدرسية هي موضوعات مغلقة ، أوحادية ، متصلة بمحتوى مهم ، مدرسي في الأساس ، و تشير من حيث الدلالة إلى الوجه الباهت و الكئيب للمدرسة – المعمل – ملء – الأدمغة . نحن في حاجة اكثر لخلق وسط مثير . مثلا ، مشاهدة فيلم قصير حتى نستطيع تعلم أشياء كثيرة حول ظاهرة مناخية بدل الانكباب على قراءة مقال طويل في الموضوع . ثم أن كل مدرسة تمتلك مكتبة حيث بإمكانها أن تستغل مواردها لإتمام أو إغناء التعلمات في العديد من المواد . نفس الشيء ، في حصة الأنشطة الاقتصادية أو الفنية ، بعضها يقدم مناسبات عدة للاغناء : لا نأخذها بعين الاعتبار في بعض الأحيان . من الغرابة أننا نقطع مسافة كبيرة لرؤية جاذبية ، في حين أننا لم نفكر البتة في زيارة المتحف المحلي .
هؤلاء المدرسات و المدرسون المدافعون عن استقلاليتهم يخصصون أكثر الأوقات لانشطة التعلم بدل مهام التقويم . متواجدون هنا لضمان نجاح التلميذ و يحكمون بأنفسهم على قدرة متابعة تقدمه من غير اللجوء إلى سلسلة من الاختبارات و الشبكات التصحيحية المعقدة . إنهم يتمسكون بروح التقويم التكويني و يخصصون مكانة كبيرة للملاحظة قصد إجراء تقويم النجاحات و صعوبات كل واحد . و عندما ينتقلون إلى مرحلة التصحيح ، يكون ذلك مصحوبا بقلق كشف و إظهار المشاكل الواضحة فرديا أو جماعيا و ليس تصنيف التلميذ حسب سلم ما . بالنسبة إليهم ، تأويل النتائج هو أمر حاسم ، لأن ، ما وراء تقدم التلاميذ ، يجيز لهم هذا الأمر تعديل أفعالهم أو تغيير « استراتيجياتهم » ، عند الحاجة .
لا يخافون أيضا ، هؤلاء المدرسات و المدرسين ، من اقتراح مشاريع على تلامذتهم ، مشاريع أكثر أقل نفسا عميقا ، و التي تستدعي مهارات أو كفايات متنوعة تتجاوز من بعيد أهداف البرامج والمقررات المدرسية . مشاريع من شأنها أن تقدم تحديات عديدة ، التي تساعد في التعاون ، العمل ضمن الفريق ، تقديم المساعدة . إن تنمية هذه المواقف و هذه الكفايات ، كم هي مهمة في الحياة العادية للراشد ، نجدها مهملة في المدرسة بشكل متواتر . رغم ذلك إنه بفضل مثل هذه المشاريع ما يجعل ممكنا إثارة و بعث الانخراط الكلي للتلاميذ ، لأن المهام التي اقترحت عليهم تحمل دلالة . ثم ، في أغلب الاحيان ، تحقيق هذه المشاريع يتطلب المشاركة الفعالة من لدن الآباء او أشخاص آخرين ينتمون للجماعة ، خبراء في بعض المواد أو يشغلون حرفا خاصة . لا يوجد هناك أفضل طريقة لردم الهوة الموجودة بين المدرسة و الجماعة .
هؤلاء المدرسات و المدرسون الملتزمون يعدون في الغالب من ضمن الأوائل المهتمين بالابتكارات بشأن التكوين و الاتصال و استخدامها بشكل موسع . إنهم واعون بأن المعلوماتية أو وسائل الاتصال يمكنها أن تصير أدوات تعلمية قوية ، و خاصة أنها تثير فائدة ظاهرة و مستدامة لدى كل الشباب . و حجة ذلك على الأرجح هو أن التحديات التي تطرحها هذه الوسائل على العقل تتضاعف بنفس الايقاع ذاته لتطوراتها المدوية . إن الثورة الاعلامية هي ثورة لا يمكن تفاديها ، لأنها تحول تصرفاتنا بعمق و احيانا عاداتنا في الحياة . تقدم المعلوماتية لكل الناس مجموعة من البرانم التي تعمل على تسهيل حل المشاكل او القيام بأعمال معقدة بكل دقة متناهية . مع الحرص الشديد بعدم اتخاذها كالترياق الجديد ، الضامن لكل النجاحات و كل التقدم ، فإن المدرسات و المدرسين الجدد ، بالمعنى الايجابي للكلمة ، لا يدخرون جهدا لكي يستفيذ جميع تلامذتهم من هذا المعطى الأساسي ألا وهو وسط غني و مثير .
هؤلاء المدرسات و المدرسين لا ينسون كذلك أن سلوكياتهم و مواقفهم اتجاه التعلم ، العلم و الثقافة تحسب من ضمن العوامل الأكثر تسهيلا من حيث خلق وسط مثير . منشطون ، وسطاء ، إنما يتواجدون هنا لإعطاء الحياة ، رسوخ المفاهيم ، تكثيف الأفكار، الوقائع ، الأحداث التي تشكل برامج و مقررات الدراسة . «في مقابل العقل الهندسي » و « العقل المستقيم » نبحث عن « خفايا العقل » و « التفكير غير المباشر » . هم هنا لغرض الانصات ، قادرون على الليونة من أجل احتواء كل الوضعيات . يظهرون نوعا من الحيلة ، بمضاعفة الاستراتيجيات ، و الخدع لجعل مفهوم مبهم ممتعا ، لتسليط الضوء على مشكل مجرد . يبنون روح التعاون ، يشجعون على تقديم المساعدة ،. يرفعون من قيمة و فضائل المعرفة ، لكنهم يحافظون على موقف نقدي فيما يخص الاستعمال الذي يمكن أن نستخرجه من هذه المعرفة . يأخذون بعين الاعتبار الفروقات الفردية مستعملين وسائل و ادوات متنوعة للاستجابة لحاجيات هؤلاء الذين هم في امس الحاجة ، للتعلم و الاستيعاب ، من رؤية ، و لمس ، و معالجة ، و ولوج للأمثلة ، واستيضاح . يشجعون التفوق في الامتحانات ، لكن بدون المراهنة على جو مشحون بالتنافس . إنهم أكثر حساسية لمشاكل التلاميذ ، لصعوباتهم المدرسية أو الشخصية و يعرفون كيف العثور على كلمة طيبة أو أداة سليمة لمواساتهم . باستطاعتهم التهيؤ والمرح و الابتهاج و يقبلون بأن يكونوا محط مساءلة أو احتجاج .
العناصر التي تؤلف مناخ القسم أو المدرسة يمكن أن تكون متنوعة إلى ما لا نهاية و تمتلك كل الخصائص لوسط مثير و غني ، لكن هذه العناصر تظل فارغة من المعنى إذا لم « تنشط » من طرف أشخاص ذوي بصيرة ، منشغلة في مساعدة الصغار لينخرطوا بثقة و عزم في طريق أحيانا ملتو للتعلم .
البحث عن التوازن
السبيل الذي يتخذه المدرسات و المدرسون المتصف أعلاه ليس بالسبيل الأكثر سهولة . مقاصد التربية ، غالبا ما تنافش ، هي بعيدة من ان تكون محددة بكل الوضوح و الشفافية التي نتمناها . من جهة ، نجد أصحاب البيداغوجية المتمركزة على الطفل ، التي تراهن على قدرته في التعلم ، حضورية الراشد متوقفة في أغلب الأحيان على توجيه ، على تحديده في وضعية التعلم من اجل التعلم . حسب هذا الشكل ، إذا ما وجدت حقيقة لا يجب أن ينساها مدرس ، فهي ، رغم كل الجهد المبذول ، استحالته على التعلم في مكان تلميذ . نادرا ما نجني من العنف البيداغوجي الثمار المرجوة .
من جهة اخرى ، يوجد هناك مروجو المدرسة الهندسية ، المنضبطة ، المتمركزة حول المحتويات و حول الانجاز المدرسي الوحيد . هذا النموذج المدرسي هو في كل يوم معظم و ممجد من قبل المحطات الاداعية و التلفزية .
هذا التفرع الثنائي بين هذين التصورين للبيداغوجية لا صلة له ربما بالواقع ، لكنه يتراءى مع ذلك بوضوح في خطابات هؤلاء و الآخرين . إلا أنه مما لا شك فيه هذا الجر العنيف للحبل الايديولوجي له معقبات وخيمة اتجاه الممارسة البيداغوجية . ألن يكون البحث عن التوازن أجدى و أنفع بعيدا من هذه التجاذبات المستمرة التي تزرع الشقاق و الغموض و تساهم في إنطفاء الفعل ؟
و السبب أنه باستطاعتنا أن نفترض أن المدرسات و المدرسين الذين يؤمنون بفضيلة الوسط المثير و الغني ، الذين يدعمون بيداغوجية التدوير و الرشاقة ، لا يهملون فوق ذلك التعلمات الاساس و يمكنهم اللجوء ، عندما تسنح لهم الفرصة أو تفرض عليهم ، إلى أنشطة او إلى تمارين شكلانية مثل الاملاء ، التحليل المنطقي أو الاستذكار . ذوو عقول حرة و ناقدة ، سوف لن يتضايقوا كثيرا من المبادئ أو نظريات الموضة . لكن على أي حال من الأحوال ، فهم يتوفرون على الكفاية و الثقة سيرا قدما نحو التحكم في التوازن بين المواقف المتشددة ، غالبا ما تعرض كأنها متناقضة . يدركون انه بمجرد ما يقنعون التلاميذ بمتعة التعلم ، فإن اختيار الوسائل لا يهم كثيرا و أن الأكثر جفاءا و استهجانا منهم يمكن أن يبدو بلا عمل . المتعة le plaisir ، يذكرنا هانيري لابوريت في جميع كتبه ، تعد بشكل ما محرك الفعل : إننا مطوقين جيدا بكل أنواع العياء ، الاكراهات ، مجهودات للحصول عليها : « حينما ( أي الكائن الحي ) يلتقي بموضوعات أو كائنات حيث يجد معهم المتعة ، فإنه سوف يعيد الاستراتيجية التي أسعدته [...]. إذا كانت مؤلمة ، سوف يفر . عندما لا يقدر لا على الفرار و لا على الصمود ، سيدخل في الانطفاء للفعل ( منشأ التآكل النفسي العنيف و عدة امراض ، حسب هذا البيولوجي .
بين الأمـن و الهــدم
إكراهات النظام المدرسي متعددة . لهذا فإن ممارسة مهنة البيداغوجي تفترض قدرا مؤكدا من الأمـان و قليلا من روح الهدم . إن حرية التصرف التي يمتلكها في القسم ، من الممكن أن يستخدمها كلية لتدبير الزمن بالطريقة الأكثر فعالية ممكنة . من الممكن أيضا قرن الأهداف المراد تحقيقها وفق مقطع غير المقطع المتوقع من قبل المقرارت ، عندما يتكشف له ذلك أنه أكثر ملاءمة . من الممكن كذلك استبدال بعض الأهداف التي يرى أنها ثانوية بأهداف اخرى تظهر له مهمة و أساسية . من الممكن الابتعاد عن النهج المقترح إذا كان نهجه ، قد اغتنى بفضل تجارب السنين ، يبدو له مناسب و افضل . باستطاعته القيام ببعض انواع الأنشطة على حساب أنشطة أخرى ملزمة عموما من طرف المختصين . مأموريته هي فعل التربية ، فعل التعلم آخذين بعين الاعتبار بعض البرامترات و الأهداف و ، كمحترف ، فهو يعد المسؤول الأول عن الوسائل المتخذة لإنجاز هذه المأمورية .
لو اعتمادنا على مجهودات الأغلبية العظمى للمدرسات و المدرسين من حيث الاعتناء بمهمتهم ، لا يوجد أدنى شك في أنهم مقتنعين بضرورة خلق وسط غني و مثير لتلامذتهم . المشكل هو أنهم لا يجرؤون على الانخراط بعيدا جدا في هذا السبيل بسبب ضغوطات متنوعة ، إدارية و محلية . و عليه ، يتنكرون لمرتكزات الحافزية في التعليم . يشعرون أنهم متواجدين في مصاف المتنفذين البسطاء . التفكيـر المقترح في هذا المقال كان لديه هدف دعوتهم إلى الفكرة التي مفادها أن ، بواسطة تأمين أكبر ، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي ، من الجائز لهم تحويل أقسامهم إلى أمكنة تعليمة غنية و مثيرة ، ضامنة للنجاح التربوي للتلاميذ ، لكن بالأخص نموهم كمواطنين الغد . وخاصة لو رغبنا ، كمجتمع ، في أن تكون المدرسة أكثر من ذلك بدل مكان مخصص للأهداف المدرسية المراد تحقيقها .
من طرف مارسيـل شابــو
الحياة البيداغوجية ، رقم 95 ، شتنبر – أكتوبر ، ص ، من 18 إلى 20 .
إن قضية التربية قضية تهم الجميع . ربما لأجل هذا السبب هو ما يجعل كل واحد يعتقد في إمكانية نقد الممارسات الموجودة في الساحة و تقديم نماذج او طرق تعليمية خاصة لتصحيح التعثرات الحقيقية او الخيالية لنظامنا التربوي . غير أن ما نجده في معظم الأحيان ، هو التشهير و الهجوم على رجال التربية بلا رحمة . في داخل هذا الخليط من الصياح و العويل المصبوغ بالاحتقار ، نرى الأساتذات و الأستاذة يتعرضون للضرر و للقسوة بشكل خاص . كمثل حكاية الحمار ، يتهمون بكل الشرور و يحاكمون بدون أي مرافعة . الأكثر حزنا ، هو أنهم ، بالرغم من عددهم ، لا يردون على هذه الاتهامات . حتى إذا أقدموا على رفع الرأس أحيانا ، فإنهم يفعلون ذلك في وقار واحتشام و في بعض الأوقات بصورة غير سليمة .
تبعا للخطاب المهيمن ، إن علاج الفشل المدرسي و العزوف يجب أن ينظر إليه من خلال الرجوع إلى القيم الحقة و إلى تدريس مبني على التقليد . الصورة المثالية للاستاذ الذي يخطب بإطناب أمام قسم من التلاميذ الظرفاء و هم يشربون كلامه في صمت و خشوع ، متخمين إلى حد الامتلاء ، مثل العنقاء ، كانت تبعث دوريا من أنقاضها . ليس من السهل التضحية بالعجول الذهبية التي كنا مرغمين للانحاء لها في أيام طفولتنا . من الغريب حقا أن ، بما أننا افتضحنا أمرها في شبابنا ، نكون أحيانا جد متسرعين إلى درجة استرجاعها من جديد مظهرين لها الاعجاب الشديد .
بعيدة عني تلك الفكرة أنه من اللازم التنكر و الرفض جملة و تفصيلا للمرتكزات و للمبادئ لبيداغوجية بنيت منذ فترة طويلة من القرون و التي تطورت ببطء بفضل إسهامات المفكرين المرموقين و البيداغوجيين . الأنماط و الاشكال تمر لكن البيداغوجية تبقى . يحصل لدى الأيديولوجيين بالأخص هذا الميلان المزعج في « رمي الطفل مع ماء الغسيل » . إن طرق التعامل مع الماضي ليست كلها عقيمة و غير منتجة ، مثل باقي الاختراعات الكثيرة التي لا تضمن دائما المردوية المأمولة .
و مع ذلك ، للمشنعون باستمرار و المنتقصون من بيداغوجية عصرية التي تعمل على تسهيل العمل و استقلالية الطفل ، لا بد أن نرد عليهم بقوة و نقول أن المجتمع الامريكي في الجنوب قد تغير بشكل كبير طيلة العقود الأخيرة و أن علوم التربية استفادت بشكل موسع من العديد من الأبحاث حول التعلم ، سواء في ميدان الديداكتيك ، أو في العلم النفس ، أو في علم النفس التربوي ، بل حتى في علم الأعصاب او علم الحياة .
العالم الذي يعيش فيه الشباب في نهاية هذا القرن هو عالم مختلف عن العالم الذي تطورنا فيه و ذلك بقليل من 30 او 40 سنة . لقد تغيرت التقاليد و العادات بشكل جذري . وسائل الاتصال قلصت حجم الكوكب و أصبح قرية كبيرة . مجتمع الاستهلاك بلا قيد الذي وصينا به و ورثه عنا الأخرون ، يريدون استغلاله في الصميم .
منذ الفلاسفة و البيداغوجيون الأغريق ، مرورا بألان ، ديوي ، منتيسوري ، فريني ، بياجي و كوكبة من المفكرين الآخرين و البحاث الحداثيين حول التربية ، و البيداغوجية ، أي فن التدريس ، تلقين للشباب الثقافة ، العلوم و التقانية ، كل هذا بدون اعتراض قد تطور . لا نملك أبدا اتجاه الطفل و الطفولة نفس الرؤية التي كانت في بعض القرون أو حتى خلال بعض العقود . منطلقين من حدوسات لبعض البيداغوجيين ، لقد وضح وبرهن بياجي في دفعة واحدة ان التعلم الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا حصيلة تجربة شخصية ، مهناج نشط و مستقل يستمد جذوره من الجينات . ماهية الرجل و المرأة تكمن هكذا في القول بيولوجيا مبنية من اجل التعلم pour apprendre ، شريطة ان يكون مع ذلك متصلا مع العالم و أن يقدر ، عن طريق التجريب ، و المحاولات ، و النجاحات او الاخفاقات ، على « استيعابه » ، يصبح جزءا من ذاته . كتب حديثة تهتم بالتعليم الاستراتيجي ، كتكاب جاك طارديف ، تشرح هذا التصور الجديد للتعلم مستعينا بأمثلة ملموسة .
هذا الاستطراد الذي قد نجده طويلا بعض الشيء يؤدي بي إلى صلب الموضوع : التعلم في وسط مثير و غني . هل هذا الكلام هو من باب تحصيل الحاصل؟ هل من الممكن تصور ، آخذين ما فات بعين الاعتبار ، أن التعلمات الحقيقية و المستدامة بإمكانها أن تقام في وسط فقير و موات قليلا لحث الفائدة و الاهتمام ؟
و بالرغم من ذلك ..
بعض العوائق
المدرسات و المدرسون الذين يرغبون في خلق وسط مثير لتلامذتهم و جعل من أقسامهم مكانا غنيا بالمناسبات تسهيلا لالتزاماتهم يجب عليهم تجاوز بعض العوائق . سيكون من الوهم و الشؤم التنقيص من أهمية الموضوع ، كما يحدث في غالب الأحيان ، بإخفاء الغبار تحت السجادة .
بداية ، هناك المقررات الدراسية : كل مقرر يجزأ إلى قطع من الأهداف التي تعد بالمآت لكل قسم ابتدائي . ليس هذا بطبيعة الحال مهمة سهلة شبيهة بأعمال البهلوان وهو يقدف في الهواء هذه الموضوعات الغزيرة و يلتقطها واحدة واحدة .. و محاولة استخراج منها ما يشكل وحدة منسجمة استعداد لخدمة نشاط يحظى بالمعنى . و لا سيما أن الدورالمنوط بالمدرسات و المدرسين هو التأكد من ان جميع الأهداف قد تحققت في الزمن الممنوح . الاخلال بهذه المأمورية الأساسية يمثل بالنسبة إلى هؤلاء نوعا من الغش و يؤدي بهم دائما إلى مساءلة كفايتهم و طبيعة التزامهم . الاغراء إذا هو جد كبير في الالتصاق بحرفية المقرر بدل التمسك بروحه . الحرفية ، كما نعلم ، تقتل : في معظم الحالات ، على الأقل ، تخنق شرارة ما يوجد في أنبل الطموحات !
و ماذا نقول عن الروزنامات و المواعيد التي تحول الوقت الثمين جدا إلى قطاعات دقيقة يجب جمعها و تفكيكها بلا توقف ، حسب الأيام ، الأسابيع و المراحل . هل من المعقول الشروع في أنشطة ذات النفس الطويل في عالم هندسي مقطع بالسكين و مرقم بدقات الأجراس من كل نوع ؟ في هذه الظروف ، ليس من المدهش أن لا نختار سوى أنشطة أو تمارين مختصرة تخدم أكثر تأثيت الوقت و ليس إثارة التحديات الثقافية الحقة !
ثم هناك الفروقات الفردية . قسم متكون من 25 أو 30 تلميذا هو بمثابة عالم معقد : بعض التلاميذ يسهل الاهتمام بهم و تحفيزهم ، آخرون لا ؛ بعض التلاميذ يتقدمون بسرعة أكبر من غيرهم ؛ هناك من يعاني من المشاكل الشخصية ؛ هناك من هم مشاغبون و يفسدون النظام ؛ هناك أيضا من هم مرتاحون للمفاهيم المجردة ؛ هناك الأخرون الذين يحتاجون لرؤية الأشياء ، لمسها ، معالجتها يدويا ، تجريبها . بالنسبة للمدرسات و المدرسين ، خلق وسط مثير يفترض مهارة من نوع خاص تأخذ بعين الاعتبار بشكل ديناميكي كل هذه القسمات المتفرقة ، أحيانا صعبة في التآلف .
يمكننا تمديد اللائحة : العناصر المختلفة المشوشة التي تحضر طيلة السنة الدراسية ، الفقر أو قدم الأداة و العتاد ، الضغوطات المرتبطة بالتقويم و احتساب النقطة الممنوحة في التعلم .
ما وراء الخطابات النبيلة و الشجاعة حول التربية و التعليم ، نقبل تماما مضطرين القول أنه لا زال هناك بعد بين الكأس و الشفاه .
و رغم ذلك
من الصعب إلى الممكن
قد نجد العديد من المدرسات و المدرسين ، لما توقفوا عن التشكيك في قدراتهم و كفاياتهم و عن النزوع نحو التدمير و الهدم ، نراهم قد تغلبوا منذ فترة طويلة على هذه العوائق من أجل « إمساكها في أيدهم » ، كما كانت تقول أمي . و الواقع هو أنهم لا يستطيعون ممارسة مهنتهم دونما ترك الأثر في تدريسهم ببعض « الدوائر » . يمتلكون ، كما نقول ، مادتهم ؛ لهذا فهم لا يخافون « تقطيع الزوايا الدائرية » للذهاب إلى ما هو أساسي و مهم . أيضا لا يشعرون أبدا بأي ذنب و هم يضيعون بعض الوقت في الاستطراد لأثارة حب الاستطلاع أو ربط مفهوم جاف و عويص بحقيقة الحياة الواقعية . كمثل هذا القس في الستين من عمره و أنا في 15 من عمري ، بدل أن يفصل لنا مقرر التاريخ العام صفحة صفحة ، كان يشغل معظم اوقات الدرس في الحكي عن تجاربه كراهب مستعمر في آبيتيبي ، كان يحكي لنا عن أيامه في روما في عهد الفاشتية او يحدثنا أيضا عن ميلاد التعاونيات في كيبيك و عن نتائجها . « البرنامج ، غالبا ما كان يردد لنا دائما ، أنتم تحسنون جيدا االشطارة و التصرف لقراءته بدون مساعدتي ! ». أظن أن طريقته الأرثوذكسية الخافتة قليلا في تدريس التاريخ قد أثرت في كما أثرت في زملائي في القسم . موقفنا نحن جميعا ، خاصة فيما يتعلق بهذه المادة ، قد تغيير و تطور : بفضله ، أصبح التاريخ مادة حية ، متجذرة في الواقع . معه ، كلنا أجمعين ، تلامذته ، قد تعلمنا على الأقل شيئا ما ، أي التعلق و الاعجاب بالتاريخ ، ليس فقط كموضوع للدراسة ، مدهش و أخاذ في حد ذاته في بعض الجوانب ، لكن بالأخص للاستخراج منه دروسا ملائمة و شافية للحاضر و المستقبل . الباقي ، يعني الأسماء ، التواريخ ، الأحداث ، ما هي إلا آداب .
هؤلاء المدرسات و المدرسون محبون للاستطلاع و لا يستطيعون منع أنفسهم من مقاسمة أذواقهم ، اهتماماتهم ، ثقافتهم مع تلامذتهم . سواء تعلق الأمر بالموسيقى العصرية او الكلاسيكية ، بالمسرح ، بالأعمال الأدبية ، بأوقات الفراغ ، دائما يجدون الفرصة السانحة لاستدخال في دروسهم أمثلة ، نوادر ، شروحات مدهشة ، مثيرة و محيرة لدى التلاميذ . يقبلون بفقد الوقت قليلا من اجل إسماعهم المقاطع التي أدهشتهم أولا ، من اجل القراءة عليهم المختارات التي تذوقوها على وجه الخصوص ، من اجل عرض عليهم الأعمال الفنية التي لمسوها عن قرب ، من اجل مدهم بلغز محير ، من اجل دعوتهم للتفكير في أمثولة ، في فكرة ، في حكمة ، لتنشيطهم و حثهم نحو سداد الرأي او إقامة مقارنة أصيلة ، أو استعارة . كان عندي « أستاذ » شبيه بهؤلاء . كان لا يبدأ في درس أبدا بدون أن يقوم « بإعدادنا » . في يوم من الأيام ، علق على الحائط لوحة من أعمال فان كوك ؛ في يوم آخر ، أسمعنا مقطع لـ بوركي و بيس ؛ في اليوم التالي ، قرأ علينا جزءا من رواية . كانت تلك طريقته في إحداث بداخل عقولنا الصغيرة ما يسمى بالعائق المعرفي الذي تقول عنه السيكولوجيا المعاصرة بأنه ضروري في التعلم . عجبا – هل كان هذا مجرد صدفة ؟ - لقد كانت مشاكل المواد التعلمية غير معروفة في قسمه ، بالرغم من عدم اتصافه بالمستبد أو بالجلاد ، بل العكس هو الحاصل .
هؤلاء المدرسات و المدرسون أنفسهم لا يتضايقون في استعمال داخل أقسامهم الجرائد ، المجلات ، الافلام ، الفيدوهات : للعيش ، تلامذتهم يحتاجون استنشاق الهواء الخارجي ، التعرف و فهم الأحداث التي تكون معاشهم اليومي . هؤلاء التلاميذ ينتظرون من الراشد الذي يمثل أمامهم مساعدتهم في تفسيرها ، وضعها في السياق ، الكشف عن الأسباب ، استخراج منها النتائج . يتمنون بأن يلعب تماما دوره الوسيط ، لتقديم رؤيته في الأمور ، رؤية مستوضحة من قبل التجربة و المعرفة العميقة للواقع .
البرامج المدرسية او الوثائق الأخرى المصادق عليها من طرف الوزارة تشكل ، بالتأكيد ، جزءا من مجموعة من المؤلفات المستعملة من قبل المدرسات و المدرسين الذين يعرفون ، بطبيعة الحال ، كيف يخلقون وسطا مثيرا ، لكن هذه المؤلفات ، رغم كماليتها و جاذبيتها الكبيرة ، لا يمكنها أن تستجيب لرضى الصغار المتخمين بالمعلومة و الرسائل الالكترونية حيث عرضها الديناميكي يستدعي الوسائل التقانية الاكثر تقدما و فعالية . البرامج و المقررات المدرسية هي موضوعات مغلقة ، أوحادية ، متصلة بمحتوى مهم ، مدرسي في الأساس ، و تشير من حيث الدلالة إلى الوجه الباهت و الكئيب للمدرسة – المعمل – ملء – الأدمغة . نحن في حاجة اكثر لخلق وسط مثير . مثلا ، مشاهدة فيلم قصير حتى نستطيع تعلم أشياء كثيرة حول ظاهرة مناخية بدل الانكباب على قراءة مقال طويل في الموضوع . ثم أن كل مدرسة تمتلك مكتبة حيث بإمكانها أن تستغل مواردها لإتمام أو إغناء التعلمات في العديد من المواد . نفس الشيء ، في حصة الأنشطة الاقتصادية أو الفنية ، بعضها يقدم مناسبات عدة للاغناء : لا نأخذها بعين الاعتبار في بعض الأحيان . من الغرابة أننا نقطع مسافة كبيرة لرؤية جاذبية ، في حين أننا لم نفكر البتة في زيارة المتحف المحلي .
هؤلاء المدرسات و المدرسون المدافعون عن استقلاليتهم يخصصون أكثر الأوقات لانشطة التعلم بدل مهام التقويم . متواجدون هنا لضمان نجاح التلميذ و يحكمون بأنفسهم على قدرة متابعة تقدمه من غير اللجوء إلى سلسلة من الاختبارات و الشبكات التصحيحية المعقدة . إنهم يتمسكون بروح التقويم التكويني و يخصصون مكانة كبيرة للملاحظة قصد إجراء تقويم النجاحات و صعوبات كل واحد . و عندما ينتقلون إلى مرحلة التصحيح ، يكون ذلك مصحوبا بقلق كشف و إظهار المشاكل الواضحة فرديا أو جماعيا و ليس تصنيف التلميذ حسب سلم ما . بالنسبة إليهم ، تأويل النتائج هو أمر حاسم ، لأن ، ما وراء تقدم التلاميذ ، يجيز لهم هذا الأمر تعديل أفعالهم أو تغيير « استراتيجياتهم » ، عند الحاجة .
لا يخافون أيضا ، هؤلاء المدرسات و المدرسين ، من اقتراح مشاريع على تلامذتهم ، مشاريع أكثر أقل نفسا عميقا ، و التي تستدعي مهارات أو كفايات متنوعة تتجاوز من بعيد أهداف البرامج والمقررات المدرسية . مشاريع من شأنها أن تقدم تحديات عديدة ، التي تساعد في التعاون ، العمل ضمن الفريق ، تقديم المساعدة . إن تنمية هذه المواقف و هذه الكفايات ، كم هي مهمة في الحياة العادية للراشد ، نجدها مهملة في المدرسة بشكل متواتر . رغم ذلك إنه بفضل مثل هذه المشاريع ما يجعل ممكنا إثارة و بعث الانخراط الكلي للتلاميذ ، لأن المهام التي اقترحت عليهم تحمل دلالة . ثم ، في أغلب الاحيان ، تحقيق هذه المشاريع يتطلب المشاركة الفعالة من لدن الآباء او أشخاص آخرين ينتمون للجماعة ، خبراء في بعض المواد أو يشغلون حرفا خاصة . لا يوجد هناك أفضل طريقة لردم الهوة الموجودة بين المدرسة و الجماعة .
هؤلاء المدرسات و المدرسون الملتزمون يعدون في الغالب من ضمن الأوائل المهتمين بالابتكارات بشأن التكوين و الاتصال و استخدامها بشكل موسع . إنهم واعون بأن المعلوماتية أو وسائل الاتصال يمكنها أن تصير أدوات تعلمية قوية ، و خاصة أنها تثير فائدة ظاهرة و مستدامة لدى كل الشباب . و حجة ذلك على الأرجح هو أن التحديات التي تطرحها هذه الوسائل على العقل تتضاعف بنفس الايقاع ذاته لتطوراتها المدوية . إن الثورة الاعلامية هي ثورة لا يمكن تفاديها ، لأنها تحول تصرفاتنا بعمق و احيانا عاداتنا في الحياة . تقدم المعلوماتية لكل الناس مجموعة من البرانم التي تعمل على تسهيل حل المشاكل او القيام بأعمال معقدة بكل دقة متناهية . مع الحرص الشديد بعدم اتخاذها كالترياق الجديد ، الضامن لكل النجاحات و كل التقدم ، فإن المدرسات و المدرسين الجدد ، بالمعنى الايجابي للكلمة ، لا يدخرون جهدا لكي يستفيذ جميع تلامذتهم من هذا المعطى الأساسي ألا وهو وسط غني و مثير .
هؤلاء المدرسات و المدرسين لا ينسون كذلك أن سلوكياتهم و مواقفهم اتجاه التعلم ، العلم و الثقافة تحسب من ضمن العوامل الأكثر تسهيلا من حيث خلق وسط مثير . منشطون ، وسطاء ، إنما يتواجدون هنا لإعطاء الحياة ، رسوخ المفاهيم ، تكثيف الأفكار، الوقائع ، الأحداث التي تشكل برامج و مقررات الدراسة . «في مقابل العقل الهندسي » و « العقل المستقيم » نبحث عن « خفايا العقل » و « التفكير غير المباشر » . هم هنا لغرض الانصات ، قادرون على الليونة من أجل احتواء كل الوضعيات . يظهرون نوعا من الحيلة ، بمضاعفة الاستراتيجيات ، و الخدع لجعل مفهوم مبهم ممتعا ، لتسليط الضوء على مشكل مجرد . يبنون روح التعاون ، يشجعون على تقديم المساعدة ،. يرفعون من قيمة و فضائل المعرفة ، لكنهم يحافظون على موقف نقدي فيما يخص الاستعمال الذي يمكن أن نستخرجه من هذه المعرفة . يأخذون بعين الاعتبار الفروقات الفردية مستعملين وسائل و ادوات متنوعة للاستجابة لحاجيات هؤلاء الذين هم في امس الحاجة ، للتعلم و الاستيعاب ، من رؤية ، و لمس ، و معالجة ، و ولوج للأمثلة ، واستيضاح . يشجعون التفوق في الامتحانات ، لكن بدون المراهنة على جو مشحون بالتنافس . إنهم أكثر حساسية لمشاكل التلاميذ ، لصعوباتهم المدرسية أو الشخصية و يعرفون كيف العثور على كلمة طيبة أو أداة سليمة لمواساتهم . باستطاعتهم التهيؤ والمرح و الابتهاج و يقبلون بأن يكونوا محط مساءلة أو احتجاج .
العناصر التي تؤلف مناخ القسم أو المدرسة يمكن أن تكون متنوعة إلى ما لا نهاية و تمتلك كل الخصائص لوسط مثير و غني ، لكن هذه العناصر تظل فارغة من المعنى إذا لم « تنشط » من طرف أشخاص ذوي بصيرة ، منشغلة في مساعدة الصغار لينخرطوا بثقة و عزم في طريق أحيانا ملتو للتعلم .
البحث عن التوازن
السبيل الذي يتخذه المدرسات و المدرسون المتصف أعلاه ليس بالسبيل الأكثر سهولة . مقاصد التربية ، غالبا ما تنافش ، هي بعيدة من ان تكون محددة بكل الوضوح و الشفافية التي نتمناها . من جهة ، نجد أصحاب البيداغوجية المتمركزة على الطفل ، التي تراهن على قدرته في التعلم ، حضورية الراشد متوقفة في أغلب الأحيان على توجيه ، على تحديده في وضعية التعلم من اجل التعلم . حسب هذا الشكل ، إذا ما وجدت حقيقة لا يجب أن ينساها مدرس ، فهي ، رغم كل الجهد المبذول ، استحالته على التعلم في مكان تلميذ . نادرا ما نجني من العنف البيداغوجي الثمار المرجوة .
من جهة اخرى ، يوجد هناك مروجو المدرسة الهندسية ، المنضبطة ، المتمركزة حول المحتويات و حول الانجاز المدرسي الوحيد . هذا النموذج المدرسي هو في كل يوم معظم و ممجد من قبل المحطات الاداعية و التلفزية .
هذا التفرع الثنائي بين هذين التصورين للبيداغوجية لا صلة له ربما بالواقع ، لكنه يتراءى مع ذلك بوضوح في خطابات هؤلاء و الآخرين . إلا أنه مما لا شك فيه هذا الجر العنيف للحبل الايديولوجي له معقبات وخيمة اتجاه الممارسة البيداغوجية . ألن يكون البحث عن التوازن أجدى و أنفع بعيدا من هذه التجاذبات المستمرة التي تزرع الشقاق و الغموض و تساهم في إنطفاء الفعل ؟
و السبب أنه باستطاعتنا أن نفترض أن المدرسات و المدرسين الذين يؤمنون بفضيلة الوسط المثير و الغني ، الذين يدعمون بيداغوجية التدوير و الرشاقة ، لا يهملون فوق ذلك التعلمات الاساس و يمكنهم اللجوء ، عندما تسنح لهم الفرصة أو تفرض عليهم ، إلى أنشطة او إلى تمارين شكلانية مثل الاملاء ، التحليل المنطقي أو الاستذكار . ذوو عقول حرة و ناقدة ، سوف لن يتضايقوا كثيرا من المبادئ أو نظريات الموضة . لكن على أي حال من الأحوال ، فهم يتوفرون على الكفاية و الثقة سيرا قدما نحو التحكم في التوازن بين المواقف المتشددة ، غالبا ما تعرض كأنها متناقضة . يدركون انه بمجرد ما يقنعون التلاميذ بمتعة التعلم ، فإن اختيار الوسائل لا يهم كثيرا و أن الأكثر جفاءا و استهجانا منهم يمكن أن يبدو بلا عمل . المتعة le plaisir ، يذكرنا هانيري لابوريت في جميع كتبه ، تعد بشكل ما محرك الفعل : إننا مطوقين جيدا بكل أنواع العياء ، الاكراهات ، مجهودات للحصول عليها : « حينما ( أي الكائن الحي ) يلتقي بموضوعات أو كائنات حيث يجد معهم المتعة ، فإنه سوف يعيد الاستراتيجية التي أسعدته [...]. إذا كانت مؤلمة ، سوف يفر . عندما لا يقدر لا على الفرار و لا على الصمود ، سيدخل في الانطفاء للفعل ( منشأ التآكل النفسي العنيف و عدة امراض ، حسب هذا البيولوجي .
بين الأمـن و الهــدم
إكراهات النظام المدرسي متعددة . لهذا فإن ممارسة مهنة البيداغوجي تفترض قدرا مؤكدا من الأمـان و قليلا من روح الهدم . إن حرية التصرف التي يمتلكها في القسم ، من الممكن أن يستخدمها كلية لتدبير الزمن بالطريقة الأكثر فعالية ممكنة . من الممكن أيضا قرن الأهداف المراد تحقيقها وفق مقطع غير المقطع المتوقع من قبل المقرارت ، عندما يتكشف له ذلك أنه أكثر ملاءمة . من الممكن كذلك استبدال بعض الأهداف التي يرى أنها ثانوية بأهداف اخرى تظهر له مهمة و أساسية . من الممكن الابتعاد عن النهج المقترح إذا كان نهجه ، قد اغتنى بفضل تجارب السنين ، يبدو له مناسب و افضل . باستطاعته القيام ببعض انواع الأنشطة على حساب أنشطة أخرى ملزمة عموما من طرف المختصين . مأموريته هي فعل التربية ، فعل التعلم آخذين بعين الاعتبار بعض البرامترات و الأهداف و ، كمحترف ، فهو يعد المسؤول الأول عن الوسائل المتخذة لإنجاز هذه المأمورية .
لو اعتمادنا على مجهودات الأغلبية العظمى للمدرسات و المدرسين من حيث الاعتناء بمهمتهم ، لا يوجد أدنى شك في أنهم مقتنعين بضرورة خلق وسط غني و مثير لتلامذتهم . المشكل هو أنهم لا يجرؤون على الانخراط بعيدا جدا في هذا السبيل بسبب ضغوطات متنوعة ، إدارية و محلية . و عليه ، يتنكرون لمرتكزات الحافزية في التعليم . يشعرون أنهم متواجدين في مصاف المتنفذين البسطاء . التفكيـر المقترح في هذا المقال كان لديه هدف دعوتهم إلى الفكرة التي مفادها أن ، بواسطة تأمين أكبر ، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي ، من الجائز لهم تحويل أقسامهم إلى أمكنة تعليمة غنية و مثيرة ، ضامنة للنجاح التربوي للتلاميذ ، لكن بالأخص نموهم كمواطنين الغد . وخاصة لو رغبنا ، كمجتمع ، في أن تكون المدرسة أكثر من ذلك بدل مكان مخصص للأهداف المدرسية المراد تحقيقها .