أزمة السلطة
Guy De Villiers – Québec
« Crise de l’autorité » / ترجمة
خلاصـة
يتناول هذا المقال أزمة السلطة l’autorité Crise deفي المجتمع المعاصر الذي أدى إلى تغيرات جذرية و عميقة في عالم التربية .يؤكد الكاتب على أن أزمة السلطة تمـر بوجه خاص بظروف صعبة في مدرسة تصب في « نزعة بيداغوجية متمركزة على حاجيات الطفل ». و الحالة هذه أن الطفل كائن يخضع لتغيير مستمر لا ينقطع ، من أجل قياس إمكانات التدرب على حريته ، من الواجب عليه أن يعرف هذه الحرية و لكي يقوم باختيارات في عالم المعرفة ، من الضروري أن يعرف أسسها . يعظم الكاتب رد الاعتبار للسلطة بداخل القسم ، سلطة تتمايز عن التعسف السلطوي المستبد و تتمظهر ، بالخصوص ، من خلال القدرات الثقافية و القيمة الأخلاقيـة للمدرس . إن هذه السلطة ، من اللازم أن تدعم من قبل المؤسسة المدرسية التي تسهر على إعادة استثمار العلاقة التربوية ذات الحجم الثقافي ، الأخلاقي و السياسي التي تقتضيها .
و مع ذلك ، يوجد هناك إلتباس و غموض فيما يتعلق بسلطة المدرس في عالم المدرسة . نضع سلطته في حالة التوتر جنبا إلى جنب مع مساواة التلاميذ ، مخطئين في الاعتقاد ان المدرسة هي مكان للديمقراطية . و في الواقع ، المدرسة و الأسرة كيلهما ليستا بالتأكيد فضاءات ديموقراطية نظرا لأن الأطفال ، إلى حدود السن الثامن عشر سنة (18) ، يعيشون تحت مسؤولية البالغيـن . يمكن أن نتحدث عن أماكن لممارسة الديمقراطية ، لكن هذا شيء صعب جدا . ما دام الطفل لم يصل إلى سن الرشـد la majorité ، فإنه يتعلم الحرية ، و فنون الحياة و الديمقراطية تحت وصاية البالغ . لا يستطيع التملص او الانفلات من سلطة الآباء في المنزل ، و لا من سلطة المدرس في الفصل . ندرك جيدا المهمة المستحيلة للمدرس الاحتياطي le suppléant الذي يقاوم بكل ما أوتي من قوة و هو أمام عنف التلاميذ الذين لا يعترفون له بأية سلطة . يجد نفسه تماما مجردا ، مبهورا بعد قضاء ساعة من الدرس حيث ، زيادة على ذلك ، قد ينجح في إنقاد حياته و بعض المتاع المدرسي . لا يريد التلاميذ منحه إياه فرصة تجسد سلطته المهنية التي من أجلها تم تكوينه و تدريبه . إن أزمة السلطـة ، في عالم المدرسة ، لا تثير فقط المشاكل بالنسبة للمدرسين ، لكن أيضا للتلاميذ . لهذا من الضروري التفكيـر في مختلف أبعاد السلطة – المهنية ، الثقافية و الاخلاقية – ، مساءلة هذه المشاكل و القضايا ، و فتح سبل المناقشة .
إن الأزمة الحالية للسلطة ، في المجتمع المعاصر ، تحمل اضطرابات عميقة بداخل عالم التربية . المدرس الذي يوجد في وضعية سلطة يدلي بمعايير مشتركة ، بمعالم ، بحدود هوياتية و اجتماعية ملائمة لنمو التلميذ . المزج و التشويش في معالم الدلالة و القيم الذي يطبع مجتمعاتنا المعاصرة لا ينطلق هكذا من دون ارتباط و صلات مع هذه الأزمة . إن المنطق الحديث لتطوير استقلال الذات قد سهل مع ذلك المزايدات للإرادات الفردية . مبهورين بالتقدم ، بالهروب نحو الأمام ، الأمر الذي جعلنا نظن ان الضغوطات هي التي تستلب التلميذ . غير أن ، المزايدة على الفردانية و الاستقلال الشخصي يمنعانه من القدرة على التطلع نحو مستقبل واضح و جلي مملوء بالطموح و الأمل . لعل تسكع عدد من الشباب في المجتمع الحالي – تسكع في الاحياء و تسكع سيكولوجي3- ، يكشف عن ظاهرة مرضية لهذه العصرية la modernité التي تقضي على أوجه السلطة ، تلتقي بعلاقات البنوة و النسب و تمجد المتعة الحاضرة .
اضطراب عدد من المدرسين وقت المجابهة و العصيان أمر يعاش في أغلب الاحيان كعجز في تحقيق السلطة. يظن البعض أنهم لا يتوفرون على المظهر العام le profil أو الشخصية لمزاولة قيادة الفصل . و بالرغم من ذلك ، فإن مسألة الشرعية لسلطتهم هي أيضا مسألة تهم المؤسسة . من اللازم على المدرسة السماح لصورة المعلم ممارسة السلطة . لأن سلطة المدرس ما عادت تفهم من طرف التلاميذ على أساس أنها تلقائية ، من قبيل الأمور الطبيعية ، من الواجب على المدرس تطوير قدرته في تجسيد سلطته . لكن ، لا يمكنه أن يلعب دور السلطة بشكل صحيح إذا كانت المؤسسة و الآباء لا يسمحان له بذلك . فالمدرس ، بصورة ما ، يعتبر الرجل القائم بأعمال الدولة و الآباء . فهو يستمد مكانته من هؤلاء الذين أسندوا إليه الفصل . في فصله ، إنه سيد الموقف . لقد تم السماح له لكي يقود التلاميذ نحو النجاح المدرسي ، و ذلك بالرغم من مقاومتهـم .
كيف السبيل للمدرس حتى يجعل سلطته تحظى باعتراف من طرف التلاميذ ؟ إن السلطة سيروة من التفاعلات ، علاقة ، تخريج . هناك عدة طرق لتجسيـد السلطة ، لتثمينها . منطلقيـن ، طبعا ، من شخصية المدرس . البعض من المدرسين هم قياديون . هبتهم اللدنية charisme تتصرف من قبلهم بدون أن يحركوا الأصبع . يعمل الاخرون عبر التنامي الذي يسهل المواد المدرسة و التعلمات . لكن ، بالنسبة لأغلبية المدرسيـن ، فإن سلطتهم تبنى من خلال عنف واصطدام المواجهة ، و اللامبالاة ، و التحدي ، و نزق التلاميذ و طيشهم . ممارسة المواجهة ليس في حد ذاته فعلا ينم عن جحود أو نكران السلطة . إنما يرمز بالحري إلى رغبة التلميذ في أخذ مكانته ، تعبير عن امتنانه و حبه ، مطالبة بحقه في الاعتراف و تحقيق إستقلاليته . إن هذه المواجهات تعتبر نسخة طبق الأصل لما يحدث أثناء علاقة الآباء- الأطفال . غير ان المدرس لا يستطيع التصرف مثل الآباء . إن ما يجعل السلطة ممكنة ، في القسم ، ليس هو من جنس ما يخلق السلطة في البيت . هناك تفاوتات بين البيت و القسم ، و خاصة فيما يعود للرباط العاطفي و عشوائية القرار ، إذ أن التلاميذ لا يدركون دائما مغزى ذلك بصورة واضحة .
أثناء مهامه في القسم ، هل يستوجب حقا على المدرس تفعيل استراتجيات القبول و الاعتراف بسلطته ؟ هل من الضروري أن يلتجأ ، كما قرراه بان و فيليبو Pain et Vulbeau ، إلى التفاوض la négociation مع التلاميذ ؟ أصبح دور سلطة المدرس بالغ الأهمية إلى حد أنه بات يعتبر أحد المقدمات لمهننة حرفة التدريس . الإدارات المدرسية ، غير مهتمة بالضيق و شدة حال المدرسين ، تفضل تجنيد الشخص الذي يحسن ضبط الصف حتى ولو كانت كفاياته المهنية الأخرى تعاني من القصور و تحمل فجوات . بالمقابل ، نجد سلطة المدرس تتجاوز وظائف الضبط و الاستحكام بيد أنه قد تم تكوينه على وجه اليقين لكي يقوم بتبليغ المعارف و يقوم بالتنشئــة socialiser .
من المفروض أن نتقبل أن الشاب ، قبل أن يصير مبدعا و مجددا ، فهو قبل كل شيء صاحب إرث . حصل على هذا الإرث من خلال ملاقاة هؤلاء الذين ، في وضعية السلطة ، لديهم حق التكليف بتبليغه إياه . المدرس ، في هذا الصدد ، هو من الذي يحفظ ويصون الموروث . من الاهمية بمكان الإشارة أولا إلى أن تفتت أنماط سلطة المدرس يضر بأساسيات المأمورية التربوية ذاتها التي هي تلقين القيم المشتركة للمجتمع المعاصر . إن الفحص الدقيق لهذه الأزمة ، داخل العالم المدرسي ، تبين أن التلميذ متروك لوحده يمكن أن يتعرض للضرر ، للضياع ، لا يستطيع التعلم بمفرده ، و ينحو في اتجاه العنف . نرى بعض التلاميذ يقاومون السلطة ، معتقدين بفعلهم هذا أنهم يحققون استقلاليتهم ، بينما في حقيقة الأمر لا يعبرون سوى عن انكسارهم و ضعفهم . من اللائق أن يحتج التلميذ على مصداقية القاعـدة معارضا إياها ، لكن الاحتجاج العشوائي له معقبات مدمرة . نفس الشيء ينطبق على السلطة التي تسقط في براثن القمع و الزجر و المراقبة المفرطة . يتوجب على السلطة بتذكير الحدود و الضوابط للمعارضين . إن في غياب السلطة ، فالقاعدة ، كنتيجة لذلك ، لا تساوي أية قيمة ، لأن لا شيء يضمن كونها ستكون محترمة . إن إجابة المدرس لا تكمن في كبت رغبة التلميذ و لكن في تمكين له الطريق الأنسب لتلبية الاستمتاع .
التربية هي عمل دائم و مستمر من جانب الآباء إزاء الأطفال و الدولة إزاء المواطنين . على مستوى المدرسة ، فإن مهمة التربية تأخذ شكلا متميزا و خاصة أن المقصود منها نسبة إلى التلميذ هو الحصول على ثقافة ثانيـة ، ثقافة مغايرة ، ثقافة تختلف عن ثقافتـه الأصلية ، التي ليست بالضرورة منتمية إلى وسطه العائلي إزاء تعلماته الأولية . ولهذا السبب نجد التلاميذ يقاومون المعارف التي ، حسب عبارات أرسطو Aristote ، تكشف عن مدى جهالتهم .
الثقافة الأولى ، التي هي إرث عائلي في العمق ، هي فضاء للحس العام كمعطى مسبقا . إذن هي الأعمال التلقائية ، والطقوس ، و العادات ، والقواعد المتراضى عنها ، بدون قيد أو مساءلة . إنها فضاء الماقبل انطولوجي لوظيفة الوجدان ، هي استجابة للحاجيات الأساس ، لإمكانية بأن نتربى بالذات . أما الثقافة الثانية فهي تختص بفضاء المعرفة المتعقلة ، المتسائلة ، الموضوعة قيد التشكيك ، قيد المراجعة ، في قالب إشكالي ، ثقافي . لدى المدرسة كامل التفويض لتعليم التلاميذ أبجديات الثقافة الثانية ، بانية هكذا فارقا يتلاءم و يتناسب مع التفكير . المدرس مرخص له بأن ينهج هذا الفارق ، هذا التفاوت ، و الحفاظ عليه بغية الدفع بالتلميذ لممارسة حريته الواهنة السريعة الانكسار . فلا يجب أن نعتبر أن الحرية هي معطى طبيعي لدى الكائن البشري . لا وجود لأي شيء عند الفرد الذي يجعله أكثر حرية مثل انخراطه الإرادي في معايير ثقافته . إزاء هذا الوضع ، إن سائق السيارة ليس حرا في النطاق حيث نفسه و السائقون الاخرون يخضعون لقانون السير . و الحقيقة أن استباق سلوك سائق السيارة أمام علامة الضوء الأحمر لا تقدر على تكهن سلوكيات أغلبية السائقين الاخرين ، لأنهم لا يحترمون ، بخاصة ، لعبة السير ، فلا يستطيعون القيادة بكل بساطة . في القسم ، نفس الأمر بالنسبة للحرية . توجد هناك قواعد يجب احترامها حتى نكون احرارا و تعلمات التي تنسج سبل الحرية . إن القسم فضاء للمران والتدرب على حرية التلاميذ . و لهذا من الضروري أن تصير موجهة و مؤطرة من جانب المدرس في لباس السلطة التي تظهر قيمتها و دقتها . و لهذا السبب فالحرية أيضا مشروطة بالإمتثال و الخضوع المتوافقين للقواعد من حيث أن السلطة لديها حق التذكير بذلك كلما اقتضى الأمر .
في القسم ، يفتح التلميذ عينيه على المعارف الجديدة بحيث أن مدرسا يستثير رغبة التعرف التي تحمل معها قلق الفارق ، و النقص ، و الجهل . إن رغبة التحكم في قاعدة نحوية أو معرفة محتوى درس في التاريخ مثلا ليس أمرا فطريا . تعلم قاعدة نحوية ، على وجه الخصوص ، يدفع بالتلميذ لكي يأخذ بعين الحسبان أن اللغة لا تعد أمرا طبيعيـا . رهان العلاقة البيداغوجية يكمن أساسا في تعليم التلميذ أبجديات موضوعات المعرفة التي تغوص في عمقه و بداخله تاركة فارقا ، الذي سوف يصبح ، مع مرور الزمان ، أكثر فأكثر وضوحا . إن الاشتغال مع احترام قواعد النحو يفرض تمرينا للحرية لا ينتهي أبدا مادام التحكم في اللغة أمرا عسيـرا . موضوعات المعرفة ، و يجب قول ذلك بدقة ، مصفوفة و مرتبة بجانب الرضى و اللارتياح و المتعة على المدى البعيد . هذا يعني أن الجهد المبذول للتعلم ، مع ممانعاته ، آلامه و حرمانه ، يستلزم برهة من الزمن الطويل و الصيرورة التي تؤسس القواعد التعلمية المستقبلية . القواعد التي تساهم ، فعلا ، في الحرية ، وفي الفكر ، وفي التعقل ، وفي ممارسة الشك المنهجي .
إن المنتظرات الحالية إزاء المتعلم l’apprenant هي كثيرة و متعددة بحيث أن مسؤولية تعلماته تقع على عاتقه . إصلاح المنظومة التربوية الكيبيكية ، في نسختها الحالية ، تشترط أن التلميذ هو الفاعل ( المتصرف ) لتعلماته الخاصة . من الضروري طبعا تشجيع الاستقلالية الثقافية للأطفال ، هذا واجب و مطلب بيداغوجي . لكن مع ذلك ، لا يجب نسيان أبدا أن رغبـة تعلم التلميذ تقف في صف متراص مع رغبات هؤلاء الذين يسبقونه . في القسـم ، فالعلاقة البيداخوجية بين مدرس في موقف سلطة ثقافية و تلميذ يحظى بالتشجيع لمزاولة حريته يؤسس الشرط الرئيس لهذه الرغبـة في التعلم . إن حتى الحرية تدرس ، مثلها في ذلك مثل الوقاية الصحية ، و القراءة و اسم الزهور .
من الواضح أن المدرسة هي فضاء لتمرير المعارف الخاصة . لا ندرس فيها كل شيء ، و أي شيء . المدرس ، من خلال تكوينه الجامعي ، يمتلك معارف تأسيسية التي من المفروض عليه تبليغها . فهذه المعارف هي ما يستوجب على التلميذ اولا ان يتعلم عبرها و من خلالها الرغبة . كنتيجة ذلك ، فإن رغبة تعلم التلميـذ لا يمكن أن تنفصل عن الموضوعات المعروضة عليه . في الواقع ، تعلم المعارف الجديدة يظهر و يتجلى كاختبار أو تجربة صعبة التجاوز بسبب أننا نعزلها عن رهانات الحرية . يجب أن نتفهم ، بالفعل ، أن استقلالية التلميذ تتوقف على مقدرته في ممارسة حريته .
نقول على أن شخصا ما يمتلك سلطة لأنه يسهر على توطيد الأمن و حماية هؤلاء المتواجدين في ذمته . يمتلك هذا الشخص مسؤوليات و سلطة قرار مشرعة مسبقا من لدن المؤسسة . فهو يجسـد السلطة السياسة و ذلك بوضع العلامات و الإشارات المختصة على الواجهة . إن أغلبية الاحترافيين يستثمرون في السلطة السياسية المعترف بها من طرف المواطنين ، على الرغم من أنها توضع موضع المساءلة في بعض الاحيان . تحت شكل تحايلي أو ساذج ، فإن سلطة المحامي ، الطبيب ، الشرطي و المرصص قليلا ما يحتج عليها مع ذلك .
في القسـم ، يتحمل المدرس أيضا سلطة سياسية . فهو مسؤول أمام القانـون و لقبه يمنحه قوة التدخل في القسم ، مع إلتزام الحدود ، سلطة معقولة ، ومسؤوليات مدرسية . بهذا المعنى ، يتواجد المدرس في وضعية لاتماثلية بالنسبة لتلاميذته كما يتواجد مدير المدرسة في علاقة لاتماثلية بالنسبة للمدرسين . برنار كانيون Bernard Gagnon ، في مقال كاشف ، يبين أن زوال أو اندثار أشكال السلطة ، في بعدها المتجاوز جدا ، تأخذ معنى رفض قبول موقف لاتماثلي إزاء الاخر :« لا أحد يمكنه بتاتا أن يتموضع أمام مجموعة مثل " ذاك الذي يعرف " في الميادين التي تتصل بالقيم ، وبالهوية و بالدلالة . إن الأصول الأخلاقية ، البعيدة عن الإرادات الفردية و التي يمكن من خلالها أن يستند عليها اللجوء للسلطة ، لقد جفت . المشروعية تلتفت إلى الوراء نحو الذات و السلطة تنسحب و تتراجع ، تاركة أمامها بكل حرية التعبير الهوياتي و تعددية القيــم ».
بمثابة كونه ممثلا للمؤسسة المدرسية ، فإن المدرس مكلف ، بالاضافة إلى فعل التقويم و معاقبة التلاميذ ، بتلقين القيـم ، و المساهمة في بناء الهويات و اقتراح عناقيد الفهم المجمعة في العالم الاجتماعي والديني والسياسي و الأدبي .
لا يمكن للمدرس مقاسمة سلطته مع التلاميذ . بل أكثر من هذا ، وجود السلطة في القسـم و حضوريتها تذكر بالتلميذ ، من جهة ، أن هذا التلميذ ليس هو مركز العالم ، و ، من جهة أخرى ، أن وجود التلميذ و تعلماته لا تتعلق به على انفرد أبدا .
هذا المفهوم للسلطة ، الذي يتبدى لنا اليوم و نود الاطاحة به ، هو مهم جدا بحيث أن عددا من الأطفال يتجاهلون الدلالة السياسية للسلطة . يقول ماكس وييبر Max Weber إن السياسة هي طعم المستقبل . في القسم ، يوجد الطفل في مجابهة دائمة مع السلطة ، أي بمعنى علاقة من النوع السياسي و البيداغوجي ، علاقة من شأنها التهيؤ و الاستعداد لمستقبل التلميذ . إن ممارسة السلطة على تلميذ و أيضا العمل على فتح آفاق مستقبله . ليس المقصود هو تأسيس العنف السياسي المؤدي إلى السيطرة ، لكن نوضح للتلميذ حدود سلطته الخاصة به . فالديمقراطية ، فضلا عن ذلك ، ليست هي التكافؤ في السلطة ، إنما هي : « تحديد لظروف الولوج العادل من اجل الصراع حول السلطة » .
الأمل في المستقبل ، إضافة إلى ذلك ، يقتضي العمل على الذات الذي يسري على الزمن البعيد .إن « تعطيل المستقبل » يؤدي إلى نتائج ضارة و منحرفة ، يوجد من بينها أكثر خطورة ضياع المعنى لما نحن بصدده ، وما نحن قائمون بإنجازه . معنى الحياة هو الذاكـرة و الأمل ، المتجذر في إرث الماضي و المتجه صوب الآفاق الفسيحة للمستقبل . ليس هو التوضيح التام للتلميذ لما يمكن القيام به في الوقت الآني ، ليس هو التقديم الأمثل للرغبات الحاضرة ؛ يجب عليه أن يتعلم أيضا التباري سياسيا و أخلاقيا مع هؤلاء الذين أتوا من قبله ، و الذين فتحوا له مشاريع الحياة .
يبدو من الأهمية بمكان وضع العلاقة البيداغوجية في اتصال مع السلطة الثقافية لكي نحدد معالم معنى عبارة « التلميذ فاعل لتعلماته » Agent de ses apprentissages . كيف نحدد كلمة « فاعل »؟ نقول على أن الشرطي فاعل لأننا منحناه سلطة التصرف على الغير . نقول على أن التلميذ فاعل لتعلماته بسبب حصوله عما قريب على رغبة un désir ، و حتى على سلطة ، التصرف على ذاته من أجل التعلم . يجب أن نميز ، مرة أخرى أيضا ، أن الرغبة تنهض على إثر علاقة مع شخص آخر الذي يدلنا على موضوعات الرغبة أو المرغوبة فيها . الرغبة هي علاقة . بهذا الشرط ، فإن رغبة التصرف على الذات نفسها من أجل التعلم لا توجد إلا في القسـم ، يوجد هناك مدرس ذا سلطة ثقافية يقدم لها السند . هذه الرغبة سوف تكون مدعمة و مثبتة من طرف الآباء في البيت الذين ينشطون هذه الرغبة بالذات .
أول دور يقوم به المدرس ، بمثابة سلطة ثقافية ، هو الاشارة للطفل لما يجب رغبته فيه داخل هذا الإطار لتعلماته المدرسية . خارج القسـم ، مع أصدقائه و أسرته ، هناك موضوعات أخرى للرغبة يمكن تعيينها له . على سبيل المثال ، يقابل الأصدقاء رغباتهم في التعلم حول ما يدور بموضوع « البوكيمون » Pokémon . قد لاحظ جميع المدرسين و الآباء أن الأطفال يحفظون عن ظهر قلب المئآت من أسماء البوكيمون . إن رغبة تعلم حفظ أسماء البوكيمون ترجع إلى العلاقات المتعددة التي يدبرونها الأطفال فيما بينهم . رغبة التعلم في حقيقة الأمر هي ظاهرة علائقيـة relationnel .
لكي نصبح فاعلين لذواتنا في اختيار موضوعاتنا التعلمية ، لا بد من أن نصل مسبقا إلى درجة عالية من الاستقلال الثقافي . الأمر الذي يتطلب قبل كل شيء قدرا هائلا من الدقة في الحكم . طفـل الابتدائي ، وكذلك مراهق الاعدادي ، لا يتوفر لا على النضج و لا على المعارف من أجل الحكم بنفسه لما يريده و يقدر عليه . كونه كائن ذو علاقة ، فالطفل تراه مساند من طرف رغبات أبويه ، مدرسيه و جميع الراشدين الذي يتفاعلون معه . إن هذه المساندة التي تتخذ شكل التشجيع ، والتحفيز ، و الدعم المالي و المادي ، هي نقطة رئيسية .
لنوضح السلطة الأخلاقية من خلال استعراض حالة . اسمه جان Jean ، عمره خمسة عشر سنة ، ترك المدرسة في صفه الثالث اعدادي . اختفى عن الأنظار بعيدا و بصفة مؤقتة . أبواه منزعجان جدا ، لكن لا يعرفان كيف يتم ارجاع جان Jean إلى البيت ، إلى القانون . يوجد جان Jean في مربع يوفيل Youville ، في قلب مدينة كيبيك Québéc ، رفقة أصدقائه البنكيين الجدد . يتعاطى المخدرات . غالبا ما ينام في احدى المحلات « Squat » . يقول بأنه سعيد و ينعم بالسعادة و الفرح في الشارع بدل المثول أمام أبويه اللذان يلزمانه الخضوع والامتثال لبعض القواعد . يقول بأنه يشعر بالحرية أكثر في حياته البوهيمية .
انخرط جان Jean في مفهوم الحرية بشكل خاطئ و أعمى . يظن أن الحرية تكمن في العيش كما يحلو له ، بعيدا عن هؤلاء الذين يعتبرون مسؤولين عنه ، بعيدا عن هؤلاء الذين يفرضون عليه سلطة . لا يطيق أبدا الحدود . يظن أنه حر بينما يتصرف من جراء الأهواء ، رغبات و اندفاعات عمياء . لا يعرفون كيفية التصرف ، ترك الآبوان الأمر على ما هو عليه ... عندما كان شابا ، كان جان Jean يحترم قوانين البيت . من أجل ذلك أجاز أبواه السماح لنفسيهما بأن يكونا متسامحين معه . هكذا ، لا يرغبان إيقاف حرية جان Jean ؛ يعتقدان أن جان سوف يكون أكثر إبداعية ، أكثر خيالا ، لنقل ذلك ، أكثر تألقا ونجومية في حالة ما إذا ترك له المزيد من « الحريات » الممكنة .
لقد استغل جان Jean ليونة أبويه تماما . طفل ما استدخل الحدود الموجودة بين الطفولة و مرحلة الرشد ، طفل ما عرف قسوة و شدة سلطة الأب ، طفل يساوم كل أصناف القرارات ، طفل ما اصطدم بالواقع المر الآتي من سلطة خارجة عنه . فهو متواجد وحيدا مع همومه ، تناقضاته و آلامه .
شخص يوجد في موقف سلطة أخلاقية هو ذلك الشخص الذي يمثل القانون لمجموعة ما من الأفراد . دوره الأخلاقي في حياة الطفل هو أكثر أهمية بحيث أنه هو الذي يذكر بالقانون و بمعنى القانون . البالغون ، و الآباء ، و المدرسون قد تخلوا في الغالب عن هذا الجانب و أصبحوا خاضعين لسيطرة الأطفال الذين يقاومون سلطتهم . تركوا الأمر وانسحبوا ، يجيزون الانتهاك و الخرق . لا يتدخلون في الأمر بصورة حازمة و ملائمة . حتى أن البعض يعتقد أن الخروقات هي من جنس الإبداعية . فنقول : « إنه لسوف يتعلم من خلال تجاربه الخاصـة » يشير كريستوف لاش Christophe Lasch إلى هذين الاعتقادين للفكر التربوي في الثقافة الامريكية : «... أولا الطلبة ، بدون أي جهد ، هم « مبدعون » ، و ضرورة التعبير عن هذه الابداعية تتصدر و تفوق ضرورة تملك ، مثلا ، التحكم في النفس و المقدرة على البقاء صامتا » . هذه المكاشفة بقدر ما هي محيرة فهي تنم عن تصريح للتجسيد المادي لعصر ذهبي للطفولة .
شاب ما جابه سلطة متماسكة حقيقية ، يعني معالم و إكراهات واضحة ، لا يملك أية دعوة في طرح جانبا اندفاعاته ، نرجيسيته ، عالمه الذاتي الصغير المنكسر فهو رغم ذلك ، عالم طافح بكل القوى الكاملة . الطفل ، يطالب بالحدود بغباوة في الغالب ، يرغب و يتمنى بأن نقول له دائما في أي إطار بإمكانه النمو و التطور . عندما يحصل له انسجام مع رجل راشد ، فلأجل معرفة إلى أي حد بإمكانه أن يذهب . يشعر بسلطة البالغين ليتحسس فيما إذا كان عنفه سيحظى بمعقولية إزاء موقفهم الأخلاقي ، لكن أيضا ليتحسس قوة و صلابة القوانين . لو كان لديه انطباع بالفوز ، ليس فقط البالغ هو من يخسر ، لكن الطفل أيضا هو الخاسر . من الضروري و المؤكد أن يعيش الطفل تجرية الحرمان و الرفض .إن غياب المعالم les balises ينتج عنه التيـه ، و العشوائية ، وعدم الاستقرار الوجودي ، والاضطراب و القلق النفسي . يحتاج الطفل إلى مرجعيات des références تكون ثابتة لكي يتموقع . بدون معالم واضحة ، سيصبح عرضة للانكسار و عنيفا ، لأنه سوف يجيب عن مطلب السلطة بواسطة غريزته و نرجيسيته الانتقامية .
تعرف كيبيك Québéc أزمة في السلطة بشكل غير مسبوق . إن الأوامر الأخلاقية القديمة ، التي تشرعن سلطة الأب ، سلطة الأم و المدرس ، انقلبت أوضاعها جذريا . زاد وزير التربية بكيبيك Québéc في تعميق هذه الأزمة و ذلك بإغراق سلطة المدرس عبر نزعة بيداغوجية متمركزة على « حاجيات » الطفل les besoins . و مع ذلك ، فالسلطة هي وظيفة أساسية من حيث البناء الهوياتي للطفل . فهي تستجيب لحاجة حيوية توجد في المواجهة أمام التحديات و الحدود ، أمام الممنوعات و اتجاه المعالم الواضحة و البارزة . أن تربي طفلا ، هذا معناه التأثير عليه ، و ممارسة القوة pouvoir عليه قوة تسمح له بأن يكون أكثر حرية ، حتى يصير إنسانا ، بالفعل ، من اجل أن يصبح فاعلا و مهتما بحياته الخاصة . يجب على السلطة معرفة قول للطفل كلمة لا ، معرفة مقاومته ، مجابهته من أجل أن يستدخل نفسيا حدود محيطه الذي يحيا بداخله . لكن في واقع الأمر ، لا يجب السقوط في فخ الاستبدادية أو في حلم النظام العتيق التقليداني . السلطة لا تعني الاستبدادية . المستبد هو من يسرف في سلطته ما دام يعتقد أنه هو الذي يخلق القانون بينما نعتبر نحن ، او أي أحد منا ، أنه يمثل الوريث للقانون . إن حلـم العودة إلى الفردوس المفقود لهو توقيع عن الرفض للحداثة .
أجمل هدية يمكن تقديمها لطفل هي هدية « نتمنى حريتك» . و الحالة هذه ، إنه تمني مناقض لأنه يستوجب الحدود و الفروق . الرغبة في الحرية تقتضي حب القانون الذي يجعل من الحرية أمرا ممكنا . يتعلم الطفل ممارسة حريته ، حقه في الكلام على سبيل المثال ، في النطاق حيث يقبـل الحدود التي تنصب معالم حق مناولة الكلام . ما دام يرفض ، في قسمه ، الحدود التي تستثب معالم الكلام ، فإنه لا يمارس حريته ، يضع غرائزه و نرجيسيته في واجهة المشهد . إن صيرورة الحرية تستلزم عملا صعبا و دقيقا للغاية على الذات . إنه فقط بفضل الحدود و الفروق هو الذي يجعل الحياة الاجتماعية ممكنة من جهة ، و من جهة اخرى أن الطفل يمكنه أن يتحرر ، يبني هويته ، يعرف ذاته ، يروض غرائزه و يفكر في مسار حياته . الحدود حبلى بالاكراهات و الضغوطات ، لكن في ذات الوقت ، بدون حدود و فروق ، الحرية تتحول إلى غرائز Pulsions .
إن محو أشكال السلطة لمن شأنه إضعاف تلقين الموروث القديم . منذ الثورة الهادئة ، قطعت كيبيك مرحلة مفصلية في تاريخها Québéc الذي أدى إلى نبذ الكاثوليكية ، طور الكيبيكيون أحساسا وجدانيا متناقضا ، هو أشبه بالاحتقار ، إزاء السلطة . من المؤكد حقيقة أن ممثلي السلطة ، قبل الستينيات ، كانوا أحيانا ملعونين . إنهم يتذكرون القس المتمذهب والسياسيين المفسدين و إيديولوجية الأب الرجولي القاهر و المدرسين المستبدين . إن هذا العصر قد ولى بدون رجعة ، لكن الخوف من الاستبدادية لا يزال حاضرا يخيم بظلاله .
التربية الحديثة ، بمراهنتها على بيداغوجاوية متمركزة على المتعلم ، قد ساهمت في إضعاف الروابط و الصلات اللاتماثلية . لكن الاكراهات في التربية هي متعددة و كثيرة . لا يتعلم التلميذ أيا كان ، و في أي وقت يشاء ، و كيفما اتفق . أيضا فالاكراهات كثيرة و متعددة بالنسبة للمدرس و التلميذ معا . أن نجعل من التلميذ يعتقد أنه امتلك بما فيه الكفاية الموارد الشخصية لكي نختبر ما يصلح له ، هو معناه فقط أننا نتغاضى الطرف عن عالمه الغرائزي الطفلي و وجوب الانتقال عن طريق الارتباط بالاخر لولوج المعارف التي تفعل معفولها و تزيح عن المركزية ، و التفاوت .
إنه لدور المدرس المتعلق بتبليغ القيم ، والمعتقدات ، و المعارف ، وإجمالا ، الإرث الثقافي غير المستحكم بعد من طرف الطفل . في هذا الباب ، ليس المدرس هو فقط من « يصاحب » و يسهر على تفتح الطفل أو « المسهـل » لإنماء عقلية الطفل . ما دام كونه مكلفا من قبل المؤسسة المدرسة ، فالمدرس قبل كل شيء هو من يضطلع بمهة التثقيف و التكوين instruire الطفل ، أي بمعنى تعليمه ما لا يعرفه بعد . إنه بطبيعة الحال يشبهه ، لكن لا يساويه على المستوى الأخلاقي ، والثقافي و السياسي . لا يصبح الطفل راشدا إلا عندما يبين له الاخر ، الذي سبقه في الرشد ، والمختلف عنه في موضوعات المعرفة ، يسانده في تعلماته ، يجابهه و يقاومه لغرض توسيع الهوة أو الفارق المناسب لحريته . الطفل الذي لا يجد في طريقه أي أحد ماعدا نفسه ، بمعنى الآخر الذي يحده ، فإنه ينتقل بصعوبة إلى مرحلة الرجولة . الانتقال عبر الغيرية l’altérité يؤسس شرط التعلمات و تحقيق الرشد . من الواجب التوقف عن اختزال العلاقة التربوية و دمجها في العلاقة البيداغوجية ، و معاودة استثمارها من جديد ثقافيا و أخلاقيا و سياسيا بشكل عميق وحسبما تقتضيه الضرورة .
Guy De Villiers – Québec
« Crise de l’autorité » / ترجمة
خلاصـة
يتناول هذا المقال أزمة السلطة l’autorité Crise deفي المجتمع المعاصر الذي أدى إلى تغيرات جذرية و عميقة في عالم التربية .يؤكد الكاتب على أن أزمة السلطة تمـر بوجه خاص بظروف صعبة في مدرسة تصب في « نزعة بيداغوجية متمركزة على حاجيات الطفل ». و الحالة هذه أن الطفل كائن يخضع لتغيير مستمر لا ينقطع ، من أجل قياس إمكانات التدرب على حريته ، من الواجب عليه أن يعرف هذه الحرية و لكي يقوم باختيارات في عالم المعرفة ، من الضروري أن يعرف أسسها . يعظم الكاتب رد الاعتبار للسلطة بداخل القسم ، سلطة تتمايز عن التعسف السلطوي المستبد و تتمظهر ، بالخصوص ، من خلال القدرات الثقافية و القيمة الأخلاقيـة للمدرس . إن هذه السلطة ، من اللازم أن تدعم من قبل المؤسسة المدرسية التي تسهر على إعادة استثمار العلاقة التربوية ذات الحجم الثقافي ، الأخلاقي و السياسي التي تقتضيها .
مقدمـة
السلطـة ، في القسم ، تخلق مشكلة . بشكل بدهي ، لا يجسـد المدرس أبدا سلطة « طبيعية » لأنها معاشة من طرف التلاميذ كأمر طبيعي ينطلق من ذاته . هذا النوع من السلطة ، الذي يُفرض أساسا عن طريق التخويف و الإكراه ، لا يمكنه له بطبيعة الحال أبدا الاستمرار و التجدد . بإمكاننا أيضا أن نتساءل ، رفقة دوبي Dubet ، فيما إذا كانت هذه السلطة التي تبدو طبيعيـة ، لأنها مستندة على شرعية آتية من المؤسسة ، ليست سوى سرابا . إن السلطة التقليدانية لا تمر بدون ارتباطات مع القمع الأبوي ، العقاب القاسي و الخوف . إنها مماراسات قديمة ، لأننا نعرف انه بقدر ما يستخدم المدرس كفاياته المهنية أكثر ، بقدر ما تتناقص البواعث الداعية للخوف و القهر و العقاب . فالمدرس الذي يعرف كيف يجلب لنفسه الانصات و التقدير ، و يحترمه الجميع في هيبته و قدراته و زعامته ، يستعمل نادرا جدا الإكراه . إن السلطة ، في واقع الأمر ، تتمايز عن الإكراه البسيط في النطاق حيث أنها مقبولة و تحظى باتفاق الجميع . لهذا السبب نقول أن السلطة هي إرادة قانونية و شرعيـة . هذه الإرادة تهم الأبعاد السياسية ، الثقافية و الأخلاقية للمدرس كما أيضا تشمل مهنته التدريسيه على حـد سواء . و مع ذلك ، يوجد هناك إلتباس و غموض فيما يتعلق بسلطة المدرس في عالم المدرسة . نضع سلطته في حالة التوتر جنبا إلى جنب مع مساواة التلاميذ ، مخطئين في الاعتقاد ان المدرسة هي مكان للديمقراطية . و في الواقع ، المدرسة و الأسرة كيلهما ليستا بالتأكيد فضاءات ديموقراطية نظرا لأن الأطفال ، إلى حدود السن الثامن عشر سنة (18) ، يعيشون تحت مسؤولية البالغيـن . يمكن أن نتحدث عن أماكن لممارسة الديمقراطية ، لكن هذا شيء صعب جدا . ما دام الطفل لم يصل إلى سن الرشـد la majorité ، فإنه يتعلم الحرية ، و فنون الحياة و الديمقراطية تحت وصاية البالغ . لا يستطيع التملص او الانفلات من سلطة الآباء في المنزل ، و لا من سلطة المدرس في الفصل . ندرك جيدا المهمة المستحيلة للمدرس الاحتياطي le suppléant الذي يقاوم بكل ما أوتي من قوة و هو أمام عنف التلاميذ الذين لا يعترفون له بأية سلطة . يجد نفسه تماما مجردا ، مبهورا بعد قضاء ساعة من الدرس حيث ، زيادة على ذلك ، قد ينجح في إنقاد حياته و بعض المتاع المدرسي . لا يريد التلاميذ منحه إياه فرصة تجسد سلطته المهنية التي من أجلها تم تكوينه و تدريبه . إن أزمة السلطـة ، في عالم المدرسة ، لا تثير فقط المشاكل بالنسبة للمدرسين ، لكن أيضا للتلاميذ . لهذا من الضروري التفكيـر في مختلف أبعاد السلطة – المهنية ، الثقافية و الاخلاقية – ، مساءلة هذه المشاكل و القضايا ، و فتح سبل المناقشة .
أزمة السلطـة و إشكاليتهـا
إن الأزمة الحالية للسلطة ، في المجتمع المعاصر ، تحمل اضطرابات عميقة بداخل عالم التربية . المدرس الذي يوجد في وضعية سلطة يدلي بمعايير مشتركة ، بمعالم ، بحدود هوياتية و اجتماعية ملائمة لنمو التلميذ . المزج و التشويش في معالم الدلالة و القيم الذي يطبع مجتمعاتنا المعاصرة لا ينطلق هكذا من دون ارتباط و صلات مع هذه الأزمة . إن المنطق الحديث لتطوير استقلال الذات قد سهل مع ذلك المزايدات للإرادات الفردية . مبهورين بالتقدم ، بالهروب نحو الأمام ، الأمر الذي جعلنا نظن ان الضغوطات هي التي تستلب التلميذ . غير أن ، المزايدة على الفردانية و الاستقلال الشخصي يمنعانه من القدرة على التطلع نحو مستقبل واضح و جلي مملوء بالطموح و الأمل . لعل تسكع عدد من الشباب في المجتمع الحالي – تسكع في الاحياء و تسكع سيكولوجي3- ، يكشف عن ظاهرة مرضية لهذه العصرية la modernité التي تقضي على أوجه السلطة ، تلتقي بعلاقات البنوة و النسب و تمجد المتعة الحاضرة .
اضطراب عدد من المدرسين وقت المجابهة و العصيان أمر يعاش في أغلب الاحيان كعجز في تحقيق السلطة. يظن البعض أنهم لا يتوفرون على المظهر العام le profil أو الشخصية لمزاولة قيادة الفصل . و بالرغم من ذلك ، فإن مسألة الشرعية لسلطتهم هي أيضا مسألة تهم المؤسسة . من اللازم على المدرسة السماح لصورة المعلم ممارسة السلطة . لأن سلطة المدرس ما عادت تفهم من طرف التلاميذ على أساس أنها تلقائية ، من قبيل الأمور الطبيعية ، من الواجب على المدرس تطوير قدرته في تجسيد سلطته . لكن ، لا يمكنه أن يلعب دور السلطة بشكل صحيح إذا كانت المؤسسة و الآباء لا يسمحان له بذلك . فالمدرس ، بصورة ما ، يعتبر الرجل القائم بأعمال الدولة و الآباء . فهو يستمد مكانته من هؤلاء الذين أسندوا إليه الفصل . في فصله ، إنه سيد الموقف . لقد تم السماح له لكي يقود التلاميذ نحو النجاح المدرسي ، و ذلك بالرغم من مقاومتهـم .
كيف السبيل للمدرس حتى يجعل سلطته تحظى باعتراف من طرف التلاميذ ؟ إن السلطة سيروة من التفاعلات ، علاقة ، تخريج . هناك عدة طرق لتجسيـد السلطة ، لتثمينها . منطلقيـن ، طبعا ، من شخصية المدرس . البعض من المدرسين هم قياديون . هبتهم اللدنية charisme تتصرف من قبلهم بدون أن يحركوا الأصبع . يعمل الاخرون عبر التنامي الذي يسهل المواد المدرسة و التعلمات . لكن ، بالنسبة لأغلبية المدرسيـن ، فإن سلطتهم تبنى من خلال عنف واصطدام المواجهة ، و اللامبالاة ، و التحدي ، و نزق التلاميذ و طيشهم . ممارسة المواجهة ليس في حد ذاته فعلا ينم عن جحود أو نكران السلطة . إنما يرمز بالحري إلى رغبة التلميذ في أخذ مكانته ، تعبير عن امتنانه و حبه ، مطالبة بحقه في الاعتراف و تحقيق إستقلاليته . إن هذه المواجهات تعتبر نسخة طبق الأصل لما يحدث أثناء علاقة الآباء- الأطفال . غير ان المدرس لا يستطيع التصرف مثل الآباء . إن ما يجعل السلطة ممكنة ، في القسم ، ليس هو من جنس ما يخلق السلطة في البيت . هناك تفاوتات بين البيت و القسم ، و خاصة فيما يعود للرباط العاطفي و عشوائية القرار ، إذ أن التلاميذ لا يدركون دائما مغزى ذلك بصورة واضحة .
أثناء مهامه في القسم ، هل يستوجب حقا على المدرس تفعيل استراتجيات القبول و الاعتراف بسلطته ؟ هل من الضروري أن يلتجأ ، كما قرراه بان و فيليبو Pain et Vulbeau ، إلى التفاوض la négociation مع التلاميذ ؟ أصبح دور سلطة المدرس بالغ الأهمية إلى حد أنه بات يعتبر أحد المقدمات لمهننة حرفة التدريس . الإدارات المدرسية ، غير مهتمة بالضيق و شدة حال المدرسين ، تفضل تجنيد الشخص الذي يحسن ضبط الصف حتى ولو كانت كفاياته المهنية الأخرى تعاني من القصور و تحمل فجوات . بالمقابل ، نجد سلطة المدرس تتجاوز وظائف الضبط و الاستحكام بيد أنه قد تم تكوينه على وجه اليقين لكي يقوم بتبليغ المعارف و يقوم بالتنشئــة socialiser .
من المفروض أن نتقبل أن الشاب ، قبل أن يصير مبدعا و مجددا ، فهو قبل كل شيء صاحب إرث . حصل على هذا الإرث من خلال ملاقاة هؤلاء الذين ، في وضعية السلطة ، لديهم حق التكليف بتبليغه إياه . المدرس ، في هذا الصدد ، هو من الذي يحفظ ويصون الموروث . من الاهمية بمكان الإشارة أولا إلى أن تفتت أنماط سلطة المدرس يضر بأساسيات المأمورية التربوية ذاتها التي هي تلقين القيم المشتركة للمجتمع المعاصر . إن الفحص الدقيق لهذه الأزمة ، داخل العالم المدرسي ، تبين أن التلميذ متروك لوحده يمكن أن يتعرض للضرر ، للضياع ، لا يستطيع التعلم بمفرده ، و ينحو في اتجاه العنف . نرى بعض التلاميذ يقاومون السلطة ، معتقدين بفعلهم هذا أنهم يحققون استقلاليتهم ، بينما في حقيقة الأمر لا يعبرون سوى عن انكسارهم و ضعفهم . من اللائق أن يحتج التلميذ على مصداقية القاعـدة معارضا إياها ، لكن الاحتجاج العشوائي له معقبات مدمرة . نفس الشيء ينطبق على السلطة التي تسقط في براثن القمع و الزجر و المراقبة المفرطة . يتوجب على السلطة بتذكير الحدود و الضوابط للمعارضين . إن في غياب السلطة ، فالقاعدة ، كنتيجة لذلك ، لا تساوي أية قيمة ، لأن لا شيء يضمن كونها ستكون محترمة . إن إجابة المدرس لا تكمن في كبت رغبة التلميذ و لكن في تمكين له الطريق الأنسب لتلبية الاستمتاع .
التربية هي عمل دائم و مستمر من جانب الآباء إزاء الأطفال و الدولة إزاء المواطنين . على مستوى المدرسة ، فإن مهمة التربية تأخذ شكلا متميزا و خاصة أن المقصود منها نسبة إلى التلميذ هو الحصول على ثقافة ثانيـة ، ثقافة مغايرة ، ثقافة تختلف عن ثقافتـه الأصلية ، التي ليست بالضرورة منتمية إلى وسطه العائلي إزاء تعلماته الأولية . ولهذا السبب نجد التلاميذ يقاومون المعارف التي ، حسب عبارات أرسطو Aristote ، تكشف عن مدى جهالتهم .
الثقافة الأولى ، التي هي إرث عائلي في العمق ، هي فضاء للحس العام كمعطى مسبقا . إذن هي الأعمال التلقائية ، والطقوس ، و العادات ، والقواعد المتراضى عنها ، بدون قيد أو مساءلة . إنها فضاء الماقبل انطولوجي لوظيفة الوجدان ، هي استجابة للحاجيات الأساس ، لإمكانية بأن نتربى بالذات . أما الثقافة الثانية فهي تختص بفضاء المعرفة المتعقلة ، المتسائلة ، الموضوعة قيد التشكيك ، قيد المراجعة ، في قالب إشكالي ، ثقافي . لدى المدرسة كامل التفويض لتعليم التلاميذ أبجديات الثقافة الثانية ، بانية هكذا فارقا يتلاءم و يتناسب مع التفكير . المدرس مرخص له بأن ينهج هذا الفارق ، هذا التفاوت ، و الحفاظ عليه بغية الدفع بالتلميذ لممارسة حريته الواهنة السريعة الانكسار . فلا يجب أن نعتبر أن الحرية هي معطى طبيعي لدى الكائن البشري . لا وجود لأي شيء عند الفرد الذي يجعله أكثر حرية مثل انخراطه الإرادي في معايير ثقافته . إزاء هذا الوضع ، إن سائق السيارة ليس حرا في النطاق حيث نفسه و السائقون الاخرون يخضعون لقانون السير . و الحقيقة أن استباق سلوك سائق السيارة أمام علامة الضوء الأحمر لا تقدر على تكهن سلوكيات أغلبية السائقين الاخرين ، لأنهم لا يحترمون ، بخاصة ، لعبة السير ، فلا يستطيعون القيادة بكل بساطة . في القسم ، نفس الأمر بالنسبة للحرية . توجد هناك قواعد يجب احترامها حتى نكون احرارا و تعلمات التي تنسج سبل الحرية . إن القسم فضاء للمران والتدرب على حرية التلاميذ . و لهذا من الضروري أن تصير موجهة و مؤطرة من جانب المدرس في لباس السلطة التي تظهر قيمتها و دقتها . و لهذا السبب فالحرية أيضا مشروطة بالإمتثال و الخضوع المتوافقين للقواعد من حيث أن السلطة لديها حق التذكير بذلك كلما اقتضى الأمر .
في القسم ، يفتح التلميذ عينيه على المعارف الجديدة بحيث أن مدرسا يستثير رغبة التعرف التي تحمل معها قلق الفارق ، و النقص ، و الجهل . إن رغبة التحكم في قاعدة نحوية أو معرفة محتوى درس في التاريخ مثلا ليس أمرا فطريا . تعلم قاعدة نحوية ، على وجه الخصوص ، يدفع بالتلميذ لكي يأخذ بعين الحسبان أن اللغة لا تعد أمرا طبيعيـا . رهان العلاقة البيداغوجية يكمن أساسا في تعليم التلميذ أبجديات موضوعات المعرفة التي تغوص في عمقه و بداخله تاركة فارقا ، الذي سوف يصبح ، مع مرور الزمان ، أكثر فأكثر وضوحا . إن الاشتغال مع احترام قواعد النحو يفرض تمرينا للحرية لا ينتهي أبدا مادام التحكم في اللغة أمرا عسيـرا . موضوعات المعرفة ، و يجب قول ذلك بدقة ، مصفوفة و مرتبة بجانب الرضى و اللارتياح و المتعة على المدى البعيد . هذا يعني أن الجهد المبذول للتعلم ، مع ممانعاته ، آلامه و حرمانه ، يستلزم برهة من الزمن الطويل و الصيرورة التي تؤسس القواعد التعلمية المستقبلية . القواعد التي تساهم ، فعلا ، في الحرية ، وفي الفكر ، وفي التعقل ، وفي ممارسة الشك المنهجي .
إن المنتظرات الحالية إزاء المتعلم l’apprenant هي كثيرة و متعددة بحيث أن مسؤولية تعلماته تقع على عاتقه . إصلاح المنظومة التربوية الكيبيكية ، في نسختها الحالية ، تشترط أن التلميذ هو الفاعل ( المتصرف ) لتعلماته الخاصة . من الضروري طبعا تشجيع الاستقلالية الثقافية للأطفال ، هذا واجب و مطلب بيداغوجي . لكن مع ذلك ، لا يجب نسيان أبدا أن رغبـة تعلم التلميذ تقف في صف متراص مع رغبات هؤلاء الذين يسبقونه . في القسـم ، فالعلاقة البيداخوجية بين مدرس في موقف سلطة ثقافية و تلميذ يحظى بالتشجيع لمزاولة حريته يؤسس الشرط الرئيس لهذه الرغبـة في التعلم . إن حتى الحرية تدرس ، مثلها في ذلك مثل الوقاية الصحية ، و القراءة و اسم الزهور .
من الواضح أن المدرسة هي فضاء لتمرير المعارف الخاصة . لا ندرس فيها كل شيء ، و أي شيء . المدرس ، من خلال تكوينه الجامعي ، يمتلك معارف تأسيسية التي من المفروض عليه تبليغها . فهذه المعارف هي ما يستوجب على التلميذ اولا ان يتعلم عبرها و من خلالها الرغبة . كنتيجة ذلك ، فإن رغبة تعلم التلميـذ لا يمكن أن تنفصل عن الموضوعات المعروضة عليه . في الواقع ، تعلم المعارف الجديدة يظهر و يتجلى كاختبار أو تجربة صعبة التجاوز بسبب أننا نعزلها عن رهانات الحرية . يجب أن نتفهم ، بالفعل ، أن استقلالية التلميذ تتوقف على مقدرته في ممارسة حريته .
مقابلة سلطة المدرس السياسيـة
نقول على أن شخصا ما يمتلك سلطة لأنه يسهر على توطيد الأمن و حماية هؤلاء المتواجدين في ذمته . يمتلك هذا الشخص مسؤوليات و سلطة قرار مشرعة مسبقا من لدن المؤسسة . فهو يجسـد السلطة السياسة و ذلك بوضع العلامات و الإشارات المختصة على الواجهة . إن أغلبية الاحترافيين يستثمرون في السلطة السياسية المعترف بها من طرف المواطنين ، على الرغم من أنها توضع موضع المساءلة في بعض الاحيان . تحت شكل تحايلي أو ساذج ، فإن سلطة المحامي ، الطبيب ، الشرطي و المرصص قليلا ما يحتج عليها مع ذلك .
في القسـم ، يتحمل المدرس أيضا سلطة سياسية . فهو مسؤول أمام القانـون و لقبه يمنحه قوة التدخل في القسم ، مع إلتزام الحدود ، سلطة معقولة ، ومسؤوليات مدرسية . بهذا المعنى ، يتواجد المدرس في وضعية لاتماثلية بالنسبة لتلاميذته كما يتواجد مدير المدرسة في علاقة لاتماثلية بالنسبة للمدرسين . برنار كانيون Bernard Gagnon ، في مقال كاشف ، يبين أن زوال أو اندثار أشكال السلطة ، في بعدها المتجاوز جدا ، تأخذ معنى رفض قبول موقف لاتماثلي إزاء الاخر :« لا أحد يمكنه بتاتا أن يتموضع أمام مجموعة مثل " ذاك الذي يعرف " في الميادين التي تتصل بالقيم ، وبالهوية و بالدلالة . إن الأصول الأخلاقية ، البعيدة عن الإرادات الفردية و التي يمكن من خلالها أن يستند عليها اللجوء للسلطة ، لقد جفت . المشروعية تلتفت إلى الوراء نحو الذات و السلطة تنسحب و تتراجع ، تاركة أمامها بكل حرية التعبير الهوياتي و تعددية القيــم ».
بمثابة كونه ممثلا للمؤسسة المدرسية ، فإن المدرس مكلف ، بالاضافة إلى فعل التقويم و معاقبة التلاميذ ، بتلقين القيـم ، و المساهمة في بناء الهويات و اقتراح عناقيد الفهم المجمعة في العالم الاجتماعي والديني والسياسي و الأدبي .
لا يمكن للمدرس مقاسمة سلطته مع التلاميذ . بل أكثر من هذا ، وجود السلطة في القسـم و حضوريتها تذكر بالتلميذ ، من جهة ، أن هذا التلميذ ليس هو مركز العالم ، و ، من جهة أخرى ، أن وجود التلميذ و تعلماته لا تتعلق به على انفرد أبدا .
هذا المفهوم للسلطة ، الذي يتبدى لنا اليوم و نود الاطاحة به ، هو مهم جدا بحيث أن عددا من الأطفال يتجاهلون الدلالة السياسية للسلطة . يقول ماكس وييبر Max Weber إن السياسة هي طعم المستقبل . في القسم ، يوجد الطفل في مجابهة دائمة مع السلطة ، أي بمعنى علاقة من النوع السياسي و البيداغوجي ، علاقة من شأنها التهيؤ و الاستعداد لمستقبل التلميذ . إن ممارسة السلطة على تلميذ و أيضا العمل على فتح آفاق مستقبله . ليس المقصود هو تأسيس العنف السياسي المؤدي إلى السيطرة ، لكن نوضح للتلميذ حدود سلطته الخاصة به . فالديمقراطية ، فضلا عن ذلك ، ليست هي التكافؤ في السلطة ، إنما هي : « تحديد لظروف الولوج العادل من اجل الصراع حول السلطة » .
الأمل في المستقبل ، إضافة إلى ذلك ، يقتضي العمل على الذات الذي يسري على الزمن البعيد .إن « تعطيل المستقبل » يؤدي إلى نتائج ضارة و منحرفة ، يوجد من بينها أكثر خطورة ضياع المعنى لما نحن بصدده ، وما نحن قائمون بإنجازه . معنى الحياة هو الذاكـرة و الأمل ، المتجذر في إرث الماضي و المتجه صوب الآفاق الفسيحة للمستقبل . ليس هو التوضيح التام للتلميذ لما يمكن القيام به في الوقت الآني ، ليس هو التقديم الأمثل للرغبات الحاضرة ؛ يجب عليه أن يتعلم أيضا التباري سياسيا و أخلاقيا مع هؤلاء الذين أتوا من قبله ، و الذين فتحوا له مشاريع الحياة .
هل بإمكان التلميـذ حقا أن يكون فاعلا لتعلماته الخاصة ؟
يبدو من الأهمية بمكان وضع العلاقة البيداغوجية في اتصال مع السلطة الثقافية لكي نحدد معالم معنى عبارة « التلميذ فاعل لتعلماته » Agent de ses apprentissages . كيف نحدد كلمة « فاعل »؟ نقول على أن الشرطي فاعل لأننا منحناه سلطة التصرف على الغير . نقول على أن التلميذ فاعل لتعلماته بسبب حصوله عما قريب على رغبة un désir ، و حتى على سلطة ، التصرف على ذاته من أجل التعلم . يجب أن نميز ، مرة أخرى أيضا ، أن الرغبة تنهض على إثر علاقة مع شخص آخر الذي يدلنا على موضوعات الرغبة أو المرغوبة فيها . الرغبة هي علاقة . بهذا الشرط ، فإن رغبة التصرف على الذات نفسها من أجل التعلم لا توجد إلا في القسـم ، يوجد هناك مدرس ذا سلطة ثقافية يقدم لها السند . هذه الرغبة سوف تكون مدعمة و مثبتة من طرف الآباء في البيت الذين ينشطون هذه الرغبة بالذات .
أول دور يقوم به المدرس ، بمثابة سلطة ثقافية ، هو الاشارة للطفل لما يجب رغبته فيه داخل هذا الإطار لتعلماته المدرسية . خارج القسـم ، مع أصدقائه و أسرته ، هناك موضوعات أخرى للرغبة يمكن تعيينها له . على سبيل المثال ، يقابل الأصدقاء رغباتهم في التعلم حول ما يدور بموضوع « البوكيمون » Pokémon . قد لاحظ جميع المدرسين و الآباء أن الأطفال يحفظون عن ظهر قلب المئآت من أسماء البوكيمون . إن رغبة تعلم حفظ أسماء البوكيمون ترجع إلى العلاقات المتعددة التي يدبرونها الأطفال فيما بينهم . رغبة التعلم في حقيقة الأمر هي ظاهرة علائقيـة relationnel .
لكي نصبح فاعلين لذواتنا في اختيار موضوعاتنا التعلمية ، لا بد من أن نصل مسبقا إلى درجة عالية من الاستقلال الثقافي . الأمر الذي يتطلب قبل كل شيء قدرا هائلا من الدقة في الحكم . طفـل الابتدائي ، وكذلك مراهق الاعدادي ، لا يتوفر لا على النضج و لا على المعارف من أجل الحكم بنفسه لما يريده و يقدر عليه . كونه كائن ذو علاقة ، فالطفل تراه مساند من طرف رغبات أبويه ، مدرسيه و جميع الراشدين الذي يتفاعلون معه . إن هذه المساندة التي تتخذ شكل التشجيع ، والتحفيز ، و الدعم المالي و المادي ، هي نقطة رئيسية .
السلطـة الأخلاقية و الحريــة
لنوضح السلطة الأخلاقية من خلال استعراض حالة . اسمه جان Jean ، عمره خمسة عشر سنة ، ترك المدرسة في صفه الثالث اعدادي . اختفى عن الأنظار بعيدا و بصفة مؤقتة . أبواه منزعجان جدا ، لكن لا يعرفان كيف يتم ارجاع جان Jean إلى البيت ، إلى القانون . يوجد جان Jean في مربع يوفيل Youville ، في قلب مدينة كيبيك Québéc ، رفقة أصدقائه البنكيين الجدد . يتعاطى المخدرات . غالبا ما ينام في احدى المحلات « Squat » . يقول بأنه سعيد و ينعم بالسعادة و الفرح في الشارع بدل المثول أمام أبويه اللذان يلزمانه الخضوع والامتثال لبعض القواعد . يقول بأنه يشعر بالحرية أكثر في حياته البوهيمية .
انخرط جان Jean في مفهوم الحرية بشكل خاطئ و أعمى . يظن أن الحرية تكمن في العيش كما يحلو له ، بعيدا عن هؤلاء الذين يعتبرون مسؤولين عنه ، بعيدا عن هؤلاء الذين يفرضون عليه سلطة . لا يطيق أبدا الحدود . يظن أنه حر بينما يتصرف من جراء الأهواء ، رغبات و اندفاعات عمياء . لا يعرفون كيفية التصرف ، ترك الآبوان الأمر على ما هو عليه ... عندما كان شابا ، كان جان Jean يحترم قوانين البيت . من أجل ذلك أجاز أبواه السماح لنفسيهما بأن يكونا متسامحين معه . هكذا ، لا يرغبان إيقاف حرية جان Jean ؛ يعتقدان أن جان سوف يكون أكثر إبداعية ، أكثر خيالا ، لنقل ذلك ، أكثر تألقا ونجومية في حالة ما إذا ترك له المزيد من « الحريات » الممكنة .
لقد استغل جان Jean ليونة أبويه تماما . طفل ما استدخل الحدود الموجودة بين الطفولة و مرحلة الرشد ، طفل ما عرف قسوة و شدة سلطة الأب ، طفل يساوم كل أصناف القرارات ، طفل ما اصطدم بالواقع المر الآتي من سلطة خارجة عنه . فهو متواجد وحيدا مع همومه ، تناقضاته و آلامه .
شخص يوجد في موقف سلطة أخلاقية هو ذلك الشخص الذي يمثل القانون لمجموعة ما من الأفراد . دوره الأخلاقي في حياة الطفل هو أكثر أهمية بحيث أنه هو الذي يذكر بالقانون و بمعنى القانون . البالغون ، و الآباء ، و المدرسون قد تخلوا في الغالب عن هذا الجانب و أصبحوا خاضعين لسيطرة الأطفال الذين يقاومون سلطتهم . تركوا الأمر وانسحبوا ، يجيزون الانتهاك و الخرق . لا يتدخلون في الأمر بصورة حازمة و ملائمة . حتى أن البعض يعتقد أن الخروقات هي من جنس الإبداعية . فنقول : « إنه لسوف يتعلم من خلال تجاربه الخاصـة » يشير كريستوف لاش Christophe Lasch إلى هذين الاعتقادين للفكر التربوي في الثقافة الامريكية : «... أولا الطلبة ، بدون أي جهد ، هم « مبدعون » ، و ضرورة التعبير عن هذه الابداعية تتصدر و تفوق ضرورة تملك ، مثلا ، التحكم في النفس و المقدرة على البقاء صامتا » . هذه المكاشفة بقدر ما هي محيرة فهي تنم عن تصريح للتجسيد المادي لعصر ذهبي للطفولة .
شاب ما جابه سلطة متماسكة حقيقية ، يعني معالم و إكراهات واضحة ، لا يملك أية دعوة في طرح جانبا اندفاعاته ، نرجيسيته ، عالمه الذاتي الصغير المنكسر فهو رغم ذلك ، عالم طافح بكل القوى الكاملة . الطفل ، يطالب بالحدود بغباوة في الغالب ، يرغب و يتمنى بأن نقول له دائما في أي إطار بإمكانه النمو و التطور . عندما يحصل له انسجام مع رجل راشد ، فلأجل معرفة إلى أي حد بإمكانه أن يذهب . يشعر بسلطة البالغين ليتحسس فيما إذا كان عنفه سيحظى بمعقولية إزاء موقفهم الأخلاقي ، لكن أيضا ليتحسس قوة و صلابة القوانين . لو كان لديه انطباع بالفوز ، ليس فقط البالغ هو من يخسر ، لكن الطفل أيضا هو الخاسر . من الضروري و المؤكد أن يعيش الطفل تجرية الحرمان و الرفض .إن غياب المعالم les balises ينتج عنه التيـه ، و العشوائية ، وعدم الاستقرار الوجودي ، والاضطراب و القلق النفسي . يحتاج الطفل إلى مرجعيات des références تكون ثابتة لكي يتموقع . بدون معالم واضحة ، سيصبح عرضة للانكسار و عنيفا ، لأنه سوف يجيب عن مطلب السلطة بواسطة غريزته و نرجيسيته الانتقامية .
تعرف كيبيك Québéc أزمة في السلطة بشكل غير مسبوق . إن الأوامر الأخلاقية القديمة ، التي تشرعن سلطة الأب ، سلطة الأم و المدرس ، انقلبت أوضاعها جذريا . زاد وزير التربية بكيبيك Québéc في تعميق هذه الأزمة و ذلك بإغراق سلطة المدرس عبر نزعة بيداغوجية متمركزة على « حاجيات » الطفل les besoins . و مع ذلك ، فالسلطة هي وظيفة أساسية من حيث البناء الهوياتي للطفل . فهي تستجيب لحاجة حيوية توجد في المواجهة أمام التحديات و الحدود ، أمام الممنوعات و اتجاه المعالم الواضحة و البارزة . أن تربي طفلا ، هذا معناه التأثير عليه ، و ممارسة القوة pouvoir عليه قوة تسمح له بأن يكون أكثر حرية ، حتى يصير إنسانا ، بالفعل ، من اجل أن يصبح فاعلا و مهتما بحياته الخاصة . يجب على السلطة معرفة قول للطفل كلمة لا ، معرفة مقاومته ، مجابهته من أجل أن يستدخل نفسيا حدود محيطه الذي يحيا بداخله . لكن في واقع الأمر ، لا يجب السقوط في فخ الاستبدادية أو في حلم النظام العتيق التقليداني . السلطة لا تعني الاستبدادية . المستبد هو من يسرف في سلطته ما دام يعتقد أنه هو الذي يخلق القانون بينما نعتبر نحن ، او أي أحد منا ، أنه يمثل الوريث للقانون . إن حلـم العودة إلى الفردوس المفقود لهو توقيع عن الرفض للحداثة .
أجمل هدية يمكن تقديمها لطفل هي هدية « نتمنى حريتك» . و الحالة هذه ، إنه تمني مناقض لأنه يستوجب الحدود و الفروق . الرغبة في الحرية تقتضي حب القانون الذي يجعل من الحرية أمرا ممكنا . يتعلم الطفل ممارسة حريته ، حقه في الكلام على سبيل المثال ، في النطاق حيث يقبـل الحدود التي تنصب معالم حق مناولة الكلام . ما دام يرفض ، في قسمه ، الحدود التي تستثب معالم الكلام ، فإنه لا يمارس حريته ، يضع غرائزه و نرجيسيته في واجهة المشهد . إن صيرورة الحرية تستلزم عملا صعبا و دقيقا للغاية على الذات . إنه فقط بفضل الحدود و الفروق هو الذي يجعل الحياة الاجتماعية ممكنة من جهة ، و من جهة اخرى أن الطفل يمكنه أن يتحرر ، يبني هويته ، يعرف ذاته ، يروض غرائزه و يفكر في مسار حياته . الحدود حبلى بالاكراهات و الضغوطات ، لكن في ذات الوقت ، بدون حدود و فروق ، الحرية تتحول إلى غرائز Pulsions .
بمثابة تلخيص
إن محو أشكال السلطة لمن شأنه إضعاف تلقين الموروث القديم . منذ الثورة الهادئة ، قطعت كيبيك مرحلة مفصلية في تاريخها Québéc الذي أدى إلى نبذ الكاثوليكية ، طور الكيبيكيون أحساسا وجدانيا متناقضا ، هو أشبه بالاحتقار ، إزاء السلطة . من المؤكد حقيقة أن ممثلي السلطة ، قبل الستينيات ، كانوا أحيانا ملعونين . إنهم يتذكرون القس المتمذهب والسياسيين المفسدين و إيديولوجية الأب الرجولي القاهر و المدرسين المستبدين . إن هذا العصر قد ولى بدون رجعة ، لكن الخوف من الاستبدادية لا يزال حاضرا يخيم بظلاله .
التربية الحديثة ، بمراهنتها على بيداغوجاوية متمركزة على المتعلم ، قد ساهمت في إضعاف الروابط و الصلات اللاتماثلية . لكن الاكراهات في التربية هي متعددة و كثيرة . لا يتعلم التلميذ أيا كان ، و في أي وقت يشاء ، و كيفما اتفق . أيضا فالاكراهات كثيرة و متعددة بالنسبة للمدرس و التلميذ معا . أن نجعل من التلميذ يعتقد أنه امتلك بما فيه الكفاية الموارد الشخصية لكي نختبر ما يصلح له ، هو معناه فقط أننا نتغاضى الطرف عن عالمه الغرائزي الطفلي و وجوب الانتقال عن طريق الارتباط بالاخر لولوج المعارف التي تفعل معفولها و تزيح عن المركزية ، و التفاوت .
إنه لدور المدرس المتعلق بتبليغ القيم ، والمعتقدات ، و المعارف ، وإجمالا ، الإرث الثقافي غير المستحكم بعد من طرف الطفل . في هذا الباب ، ليس المدرس هو فقط من « يصاحب » و يسهر على تفتح الطفل أو « المسهـل » لإنماء عقلية الطفل . ما دام كونه مكلفا من قبل المؤسسة المدرسة ، فالمدرس قبل كل شيء هو من يضطلع بمهة التثقيف و التكوين instruire الطفل ، أي بمعنى تعليمه ما لا يعرفه بعد . إنه بطبيعة الحال يشبهه ، لكن لا يساويه على المستوى الأخلاقي ، والثقافي و السياسي . لا يصبح الطفل راشدا إلا عندما يبين له الاخر ، الذي سبقه في الرشد ، والمختلف عنه في موضوعات المعرفة ، يسانده في تعلماته ، يجابهه و يقاومه لغرض توسيع الهوة أو الفارق المناسب لحريته . الطفل الذي لا يجد في طريقه أي أحد ماعدا نفسه ، بمعنى الآخر الذي يحده ، فإنه ينتقل بصعوبة إلى مرحلة الرجولة . الانتقال عبر الغيرية l’altérité يؤسس شرط التعلمات و تحقيق الرشد . من الواجب التوقف عن اختزال العلاقة التربوية و دمجها في العلاقة البيداغوجية ، و معاودة استثمارها من جديد ثقافيا و أخلاقيا و سياسيا بشكل عميق وحسبما تقتضيه الضرورة .
عدل سابقا من قبل مبشور في 22/5/2011, 19:20 عدل 1 مرات (السبب : توضيب)