منزلة بين المنزلتيـن . مبشور محمد
قال لي صاحبي و هو يحاورني ذات مرة : هل تحب الادماج ؟ هل تعتقد أن الادماج سيؤدي إلى فك العزلة عن التعليم و التعلم و التلاميذ ؟ ما قيمة هذا " الادماج " لو ظل يحتل الصفوف الأخيرة و يمقته الجميع ، غير مستوضح كفاية من طرف السلطات التربوية المعنية .. إهمال و وقصر النظر وعدم التتبع محليا و فوريا إلا في بعض اللحظات الحاسمة و قبل فوات الآوان .. مثلما يحدث في بعض المناسبات الاحتفالية !؟ ثم ازداد غضبا و قال : إن هذه « بيداغوجية الادماج » لا تليق بالتلاميذ الصغار غير القادرين على حل المسائل المعقدة المقترحة عليهم . هل تظن أن هذا " دفتر الوضعيات " يتماشى و عقول الأطفال الصغار الذين يفتقدون للأسس العامة و الأولية للتعليم ؟ ألسنا بالأحرى مطالبين بتقديم دروس تقليدية مثلما كان في العهد السابق حيث كنا نجتهد سويا في استظهار جداول الضرب و التصريف و جمع المفردات من كل جانب ؟ وكنا مع ذلك « ندمج » بين الفينة و الأخرى بدون أن نشعر بذلك ..؟! قلت نعم .. ولكن : لا أعرف ماذا تقصد بـ « الادماج » و عن بعض اللحظات الحاسمة ، و عن الوضعيات المعقدة ، و هؤلاء التلاميذ الصغار ؟. قلت : ألم تكن “المؤسسة “ التعليمية يوما في خدمة مشروعها منذ أزيد من عشر سنوات و تبنت الكتاب الأبيض » لتصريف التعلمات « التقليدية » هو ما يطلق عليه الآن بـ « بيداغوجية الادماج » ؟ ألم نخضع نحن معشر السيدات و السادة الأساتذة لتعلم الادماج في ستة أيام ، وآخر في فك الحواسب المعتقلة التي تنتظر الافراج عنها ، ثم الدفتـر المنسي للتتبع الفردي ، و الفترات البينية على بياض ، و الدعم المخصص للتلاميذ الذين يعانون من الصعوبات في القراءة و الكتابة و الحساب ، و كيف نحسب المعدلات و التصفيات .. عفوا التصنيفات ، الخ .. من الواضح بلا شك أن قضية الادماج غدت قضية وطنية تهم الجميع بالرغم ما يقال عنها من خير أو شر او فساد في العقول . بل أرى في هذه الظروف الخاصة ، انه من الضروري التحلي بالصبر و العناد إذا أردنا استكمال و تحقيق المراد و الدفاع عن المكتسبات . أحيانا من الممكن أن يصب تكوين المناسبات في قوالب الجمود و النسيان و من ثم يصعب الأخذ بأسباب و مسببات التغيير . أو قد نجهل مقاصد و مرامي التربية الحديثة بدون سوء نية و نظل تبعا لذلك سجناء تنفيذ المساطر و أراء بعض المتنفذين بلا تبصرة و جرأة في اتخاذ بعض القرارات .. فلم التشبت بعباءة التقليد ، خوفا من زحزحة الاستقرار المزعوم أو ضمانا للراحة البيولوجية ( البيداغوجية ) ؟ . بطبيعة الحال ، نعم .. أنا أحب « الادماج !» و ما كنت ساعيا إليه أبدا ذات يوم في فترة من فترات حياتي ، لكنني أخذته من حيث لا أحتسب لحظة اطلاعي على مفهوم « الخيمياء العجيبة و الجاذب الذي لا يقاوم . من خلال بيداغوجية اللف و الدوران ، او كما قال فليب ميريو عندما نقوم بـ « تغيير مسارات التكوين ». وحتى و إن كنت غاضبا على هذا الادماج في بعض الأحيان بسبب تواجدي منذ زمان في "مدرسة " بعيدة عن الحلم الذي كنت أتمناه أي : « المؤسسة ! » ذلك الصرح الكبير و المصطلح العام و الشامل الذي يحمل في ثناياه ما يحمل من معاني سامية كالاستقلالية و التشاركية و التعاضدية و التعاقدية و المشاريع و المواطنة و مبدأ الاختيار وهلم جرا ..! فماذا بوسع المرء أن يفعل ؟؟
الادماج الذي أحلم به ، كما أسلفت ، أردته ان يكون عربيا و ليس بلغة أجنبية . و أردته معقدا بطبيعته و ليس سهلا او ساذجا و مسطحا . عفوا.. ! شاءت الأقدار أن تجعل مني أستاذا لأول مرة مكلفا بأحد الأقسام للغة العربية بعدما جربته – أي الأدماج – في الأقسام الناطقة باللغة الفرنسية . لا أجد أي مزحة أبدا إذا قلت أن هناك بين المستويين فرقا عظيما قد يجعل أي مدرس ( ة ) – مثلي ، في الساعات الأولى – أن يهرب من قاعة الدرس ! إنه لفرق صاروخي مدمر يتجلى بالاخص في عدم مقدرة التلاميذ على تناول « اللغة الاجنبية » بكامل السهولة والوضوح و التحكم على الأقل في ميكانيزماتها البسيطة . أما القراءة و الكتابة فحدث و لا حرج .. منذ ذلك الحين ، و أنا أتمنى ليل نهار أن لا أعود أبدا لهذه « للوضعيات » المعقدة المشؤومة ما عدا ربما في « الرياضيات » لأنها كانت المادة الوحيدة التي تلقن بلغة غير لغة الحفظ و الاستظهار : لغة تلقن تارة بالعربية وتارة أخرى بالدارجة او ما شابه ذلك .. ما أعظم هذا العمل التواصلي الحقيقي الذي ينجز المهمات الصعبة في الرياضيات عبر " الوضعيات " ، ويبحث عن الحل المؤكد بالتحليل و التعليل و مقارعة الحجة بالحجة . من جانب آخر – أكثر مدعاة للقلق و الشفقة هذه المرة ، أجد نفسي أحيانا مطالبا بالرد على أسئلة تلاميذ يعملون في أقسام أخرى طبعا خارج الفصل حاملين معهم قلق الوضعيات المشبوهة ، لا تكاد أعينهم تفارق التعليمات الواردة في دفتر الادماج عسى ربما يجدون حلا هنا او هناك .. ليقدموها في حصة الادماج الشفوي غدا . و السبب هو أن هؤلاء الصغار لم يستطيعوا فقط « فك رموز» هذه التعليمات.. الغامضة ! ما بالك التفكير في الانخراط في الوضعية و التكهن بالرهانات وتجاوز«العائق البيداغوجي» و تعقل المماراسات و تقديم المنتوج الأصيل !؟ إنه لمشكل حقيقي يتخبط فيه التلاميذ و ذلك حتى قبل ولوج " الادماج " . لا يمكن بحال من الأحوال تقديم تفسير مختزل و أحادي الجانب لهذه السيولة النقدية : موارد ضعيفة تلقن بمنهاج يختلف كلية عما هو مطلوب من الادماج أو بالكفايات وكفى . و لا يمكننا أيضا التغلب على هذه المشاكل الديداكتيكية و البيداغوجية و هي طبيعية في ظل مناخ يسيطر عليه التفرقة و التشتت على مستوى الأفراد و الجماعات ، و من اختلاف في الرؤى و وجهات النظر المتعلقة بأسط القواعد و الاجراءات . و لنا عبرة في انتظار « البرامج الجديدة » 2014/2013 و إلى ذلك الحين .. قد نكون قد استكملنا ربما العدة و أنهينا الحديث في انتظار جولة أخرى جديدة من الاصلاح قوامه على الدوام تفعيل مقاربة الكفايات اعتمادا على بيداغوجية الادماج . أما الآن فإننا و لا نزال على أرض المعركة نناور و تتربص بنا الدوائر .. الدوريات و المستجدات من مضامين و صيغ للكفايات منقحة و غير منقحة و العديد من « .. و التدقيقات و الاضافات و الازاحات ..» كما جاء في وثيقة « البرامج و التوجهات التربوية الخاصة بالتعليم الابتدائي » يونيو 2011 . ( موقع وزارة التربية الوطنية ) .
بدون سابق إنذار ، لقد قيل : " التعلم في الصغر كـ ...". و هذه حكمة كانت مكتوبة على جدران القسم الذي كنت أتعلم فيه عندما كنت طفلا صغيرا . لما كبرت اليوم ، بودي أن أقول بصوت عال : ليس كالنقش على الحجر لكن التعلم في « المحن » هو الطريق الملكي المشرف على الدراسات طويلة الأمد و هو الضامن للتعلمات . او إذا شئت قل على هذا المنوال غير المحسوب بدأت الأمور و يجب أن تواصل هكذا مسيرتها التنموية أولا بمزيد من التوتر والقلق و الاضطراب و ضياع المعالم في أرجاء المعمورة . و المقصود بالمحن هنا أوالمحك هو إخضاع جميع التلاميذ للتعلم « المعقد» بوساطة وضعيات الحياة غيرالمألوفة و المتفردة بعد كل فترة من التشخيص و التداوي وجس النبض في آخر الحصة . لا بأس ، فليكن ذلك ، ونحن على عهدنا سائرون لا تنقصنا العزيمة و لا التضحية . لكن السؤال الذي لزمني طوال هذه المحنة بل المهنة : هو لماذا نخاف من التعقيد ؟ لقد قال لي أحد الزملاء : المهم هو تماما كيف يجب على التلميذ أن يعبر الحدود ، أي كيف ينتقل من القواعد و الدروس الملقنة و المستوعبة في أحسن الظروف إلى ما يسمى بـ « الدمج » ذلك المبحوث عنه ؟ . و لعل كلمة « التجنيد »، هنا ، هي كلمة ملفتة للنظر إذ تفي بالغرض المطلوب لأن الجندي في المعركة كما هو معروف ، لا يفكر البتة إلا في انقاد نفسه قبل الآخرين و بفعله هذا فهو ينقد الجميع ، و في مكان آخر نقول : إلا من أتى ( المدرسة ) بقلب سليم .. و الحال ، أنه لا يمكن أن « نضع أنفسنا » في مكان الطفل لكي يحدث هذا الادماج من تلقاء نفسه على حد قول الباحثين . لذا ، كان ربما الاجذر بنا هو البحث الجاد دائما عن سبل أخرى أكثر قناعة ومعقولية تفتح لنا الطريق آخذين بعين الاعتبار عدة عوامل أخرى لم نجربها من ذي قبل و هي موجودة بكثرة و .. ان هناك بلا شك من يظنها أنها مسرحية هزلية يكن لها العداء : العمل بالفرق التربوية ، تبادل الخبرات ، إقامة منتديات ، إبرام تعاقدات صغيرة مع التلاميذ الضعاف و آباءهم ، تخفيف البرامج المعمول بها ، ترشيد و تنسيق الموارد مع الكفايات ، توثيق الممارسات و تعقلها ، تبادل في المستويات و الأدوار المهنية ، بيداغوجية المشروع و مشروع المؤسسة ، الحياة المدرسية ، الخ .
و من الملاحظات التي تعترض سبيلنا – التي تعد من المصادر التراكمية – لخوض غمار حرب الادماج و التغلب عليه هو أننا عندما كنا ، قبل عهد الادماج – نريد إخضاع التلاميذ للامتحانات النهائية للشهادة الابتدائية ، أول شيء كان تفكر فيه الادراة و المدرسات و المدرسين اجميعن هو البحث عن المواضيع السهلة التي تكون « في المستوى ! » . عبارة متداولة . مواضيع سهلة المنال و حلوة المذاق لا تجلب الخيبة على أصحابها بالمناسبة و تكون بنسب مئوية معقولة تفوق أحيانا المائة . في احدى اللقاءات التربوية بين قوسين مع السيد المفتش للغة الفرنسية ، و كان ذلك في بداية الادماج المخصص لملء بطاقات التقويم بعلامات « زائد » و « ناقص » ؛ صدرت مني كلمة « تعقيد » هكذا مبديا رأيي بكل عفوية في الموضوع لأن الأبجديات الأولى للادماج تقتضي ذلك على كل حال . لكن بمجرد ان سمع السيد المفتش الكلمة : «معقدة « : الملعونة " ، عبر فورا عن رفضه التام للكلمة بحجة أنها تجلب الصداع و القلاقل للتلاميذ . رفقا بهم . و قال بالحرف : لا يجب إزعاج التلاميذ . و الحق أقول إنني ما زلت منزعجا لحد الساعة من هذا الكلام . كما أنني لا زلت أتذكر ذلك اليوم الأخير وكان يوم السبت من أيام التكوين الشهيرة في الادماج حينما فجأة طل علينا نائب الأقليم في التربية مشهرا في وجهنا ، من حيث ندري أو لا ندري ، سؤالا استنكاريا – كنت ما انتبهت إليه أبدا - ، : لماذا هذا التكوين ؟ . لا أحد منا قد أجاب و لا أحد وضع يديه على الجرح ماعدا الأساتذة الفاضلة (..) كانت جالسة معنا تنظر مليا في حسابات التقويم - و أمامها « وضعيات معقدة » يشم منها رائحة الكبريت - مكتوبة على السبورة و قالت بعزم أكيد : استاذ ، هذا : إنصاف .. هذا إنصاف ..! و به تم الختم و انصرفنا في ذهول .
فلننظر مليا ، من الجانب الآخر الاكثر إثارة ، كيف تمت أجرأة « الانصاف » عند واصل بن عطاء احد كبار العقلانيين في الاسلام بشأن وضعية معقدة ( قضية دينية ) طرحت عليه ، مرتكب الكبيرة في نظر الدين و الاسلام ؛ علما أن واصل بن عطاء لم يكن حينذاك معتزليا . هل مرتكب الكبيرة هو مخلد في النار أم في الجنة ؟ كان جوابه في الحين : لا هو في الجنة و لا هو في النار . أي بين المنزلتين ! ما أصعب ان يكون الجواب في مثل هذه الظروف و المواقف الحرجة التي تهم حياة الانسان العقدية و الايمانية . وخاصة أن واصل بن عطاء . ما كان ممتلكا بعد الحجج العقلية والمنطقية ليستدل بها عن موقفه و ما كان فيلسوفا في وقته . فقام فورا واعتزل فرقته كما قال أبو الحسن الاشعري . ما يهمنا هنا في هذه النازلة – عرضت بإيجاز – ليس هو « الاعتزال » في حد ذاته و النظر في الموضوعات الايمانية أو الفلسفية ، و إنما القوة و الشجاعة في إبداء الرأي وسبر أغوار المجهول حتى لو أدى ذلك إلى نتائج لا يرضى عنها الجميع . او تكون ضد الجميع أو « رغم ذلك .. فهي تدور »( غاليلي ). و هذا فعلا ما حدث مع واصل بن عطاء و تابع الاشاعرة عمله مصححين الوضعية فيما بعد بهدمهم للمنزلة بين المنزلتين . أعتقد أنه لا يوجد اختلاف كبير في عالم التربية و ما نعانيه حاليا – نحن معشر الممارسين في حقل التعليم – و الوضعية المطروحة بالنظر إلى مرتكب الكبيرة و التشاكل الحاصل بينهما : منزلة بين المنزلتين ؟ و السؤال المطروح هو هل نؤمن بوضعية « ديداكتيكية » هنا في الاسابيع الست الأولى ، و نكفر بوضعية « إدماجية » هناك في الاسبوعين المتبقيين المخصصين للادماج ؟ الحق أقول نحن مع واصل بن عطاء و لا هم يحزنون : « وضعية بين الوضعيتين ! » هو حل توافقي يخدم البيداغوجية و لا يخدم الدين .
فلئن كان الزنديق هو المسلم الكافر و يصعب بالتالي تخليده في النار أم في الجنة ، فإن التلميذ الضعيف بدوره ، الفقير في موارده و الكفء بقدراته يجب أن ينظر إليه من الآن فصاعدا – و بالتزامن داخل « الوضعيتين ! » ديداكتيكيا و إدماجيا . و لا نظل هكذا في « انفصام بيداغوجي » حاد و نعاني الامرين من جراء أسلوبين متناقضين : واحد للتعليم بواسطة الأهداف لا انفكاك منه ( PPO ) وآخر للتعلم بواسطة الكفايات مع العلم أنه لا وجود في الساحة « لديداكتيك الكفايات » تريحنا من هم الوضعيات . بل حتى الادماج نفسه لا يخرج عن كونه فقط مجرد « إطار» ميتودولوجي أو بوتوكول لأجرأة الكفايات أو تصريف الفعل التعلمي وفق بعض الشروط الدقيقة المفروضة علينا بحكم العادة . لكن ، هنا ، إن المرشد الأكبر لفعلنا و لممارستنا و لأنشطتنا هو بالضبط ، إضافة إلى تلك المقاصد و الغايات التربوية الكبرى المتضمنة في الميثاق الوطني للتربية و التكوين 1999 ، هو الحيوزات التي سوف « نخلقها » بأيدينا بفعل تجربتنا و خبرتنا الميدانية الغنية و تعقل ممارستنا الصفية للتصرف في الهوامش الممنوحة لنا بكل شجاعة اعتزالية عطاء بغية ردم الهوة بين « المنزلتين » كما فعل الأشاعرة مع أقل الضررين و ذلك ، باتباع الجدل الصاعد الذي يلغي كل المتناقضات و السلبيات في ضم الأجزاء الباقية الأخرى تكون بمثابة القاعدة الأساس و المنطلق نحو إصلاح جديد ... إلى ما لا نهاية .
بتاريخ 7 شتنبر 2011
مبشور محمد
قال لي صاحبي و هو يحاورني ذات مرة : هل تحب الادماج ؟ هل تعتقد أن الادماج سيؤدي إلى فك العزلة عن التعليم و التعلم و التلاميذ ؟ ما قيمة هذا " الادماج " لو ظل يحتل الصفوف الأخيرة و يمقته الجميع ، غير مستوضح كفاية من طرف السلطات التربوية المعنية .. إهمال و وقصر النظر وعدم التتبع محليا و فوريا إلا في بعض اللحظات الحاسمة و قبل فوات الآوان .. مثلما يحدث في بعض المناسبات الاحتفالية !؟ ثم ازداد غضبا و قال : إن هذه « بيداغوجية الادماج » لا تليق بالتلاميذ الصغار غير القادرين على حل المسائل المعقدة المقترحة عليهم . هل تظن أن هذا " دفتر الوضعيات " يتماشى و عقول الأطفال الصغار الذين يفتقدون للأسس العامة و الأولية للتعليم ؟ ألسنا بالأحرى مطالبين بتقديم دروس تقليدية مثلما كان في العهد السابق حيث كنا نجتهد سويا في استظهار جداول الضرب و التصريف و جمع المفردات من كل جانب ؟ وكنا مع ذلك « ندمج » بين الفينة و الأخرى بدون أن نشعر بذلك ..؟! قلت نعم .. ولكن : لا أعرف ماذا تقصد بـ « الادماج » و عن بعض اللحظات الحاسمة ، و عن الوضعيات المعقدة ، و هؤلاء التلاميذ الصغار ؟. قلت : ألم تكن “المؤسسة “ التعليمية يوما في خدمة مشروعها منذ أزيد من عشر سنوات و تبنت الكتاب الأبيض » لتصريف التعلمات « التقليدية » هو ما يطلق عليه الآن بـ « بيداغوجية الادماج » ؟ ألم نخضع نحن معشر السيدات و السادة الأساتذة لتعلم الادماج في ستة أيام ، وآخر في فك الحواسب المعتقلة التي تنتظر الافراج عنها ، ثم الدفتـر المنسي للتتبع الفردي ، و الفترات البينية على بياض ، و الدعم المخصص للتلاميذ الذين يعانون من الصعوبات في القراءة و الكتابة و الحساب ، و كيف نحسب المعدلات و التصفيات .. عفوا التصنيفات ، الخ .. من الواضح بلا شك أن قضية الادماج غدت قضية وطنية تهم الجميع بالرغم ما يقال عنها من خير أو شر او فساد في العقول . بل أرى في هذه الظروف الخاصة ، انه من الضروري التحلي بالصبر و العناد إذا أردنا استكمال و تحقيق المراد و الدفاع عن المكتسبات . أحيانا من الممكن أن يصب تكوين المناسبات في قوالب الجمود و النسيان و من ثم يصعب الأخذ بأسباب و مسببات التغيير . أو قد نجهل مقاصد و مرامي التربية الحديثة بدون سوء نية و نظل تبعا لذلك سجناء تنفيذ المساطر و أراء بعض المتنفذين بلا تبصرة و جرأة في اتخاذ بعض القرارات .. فلم التشبت بعباءة التقليد ، خوفا من زحزحة الاستقرار المزعوم أو ضمانا للراحة البيولوجية ( البيداغوجية ) ؟ . بطبيعة الحال ، نعم .. أنا أحب « الادماج !» و ما كنت ساعيا إليه أبدا ذات يوم في فترة من فترات حياتي ، لكنني أخذته من حيث لا أحتسب لحظة اطلاعي على مفهوم « الخيمياء العجيبة و الجاذب الذي لا يقاوم . من خلال بيداغوجية اللف و الدوران ، او كما قال فليب ميريو عندما نقوم بـ « تغيير مسارات التكوين ». وحتى و إن كنت غاضبا على هذا الادماج في بعض الأحيان بسبب تواجدي منذ زمان في "مدرسة " بعيدة عن الحلم الذي كنت أتمناه أي : « المؤسسة ! » ذلك الصرح الكبير و المصطلح العام و الشامل الذي يحمل في ثناياه ما يحمل من معاني سامية كالاستقلالية و التشاركية و التعاضدية و التعاقدية و المشاريع و المواطنة و مبدأ الاختيار وهلم جرا ..! فماذا بوسع المرء أن يفعل ؟؟
الادماج الذي أحلم به ، كما أسلفت ، أردته ان يكون عربيا و ليس بلغة أجنبية . و أردته معقدا بطبيعته و ليس سهلا او ساذجا و مسطحا . عفوا.. ! شاءت الأقدار أن تجعل مني أستاذا لأول مرة مكلفا بأحد الأقسام للغة العربية بعدما جربته – أي الأدماج – في الأقسام الناطقة باللغة الفرنسية . لا أجد أي مزحة أبدا إذا قلت أن هناك بين المستويين فرقا عظيما قد يجعل أي مدرس ( ة ) – مثلي ، في الساعات الأولى – أن يهرب من قاعة الدرس ! إنه لفرق صاروخي مدمر يتجلى بالاخص في عدم مقدرة التلاميذ على تناول « اللغة الاجنبية » بكامل السهولة والوضوح و التحكم على الأقل في ميكانيزماتها البسيطة . أما القراءة و الكتابة فحدث و لا حرج .. منذ ذلك الحين ، و أنا أتمنى ليل نهار أن لا أعود أبدا لهذه « للوضعيات » المعقدة المشؤومة ما عدا ربما في « الرياضيات » لأنها كانت المادة الوحيدة التي تلقن بلغة غير لغة الحفظ و الاستظهار : لغة تلقن تارة بالعربية وتارة أخرى بالدارجة او ما شابه ذلك .. ما أعظم هذا العمل التواصلي الحقيقي الذي ينجز المهمات الصعبة في الرياضيات عبر " الوضعيات " ، ويبحث عن الحل المؤكد بالتحليل و التعليل و مقارعة الحجة بالحجة . من جانب آخر – أكثر مدعاة للقلق و الشفقة هذه المرة ، أجد نفسي أحيانا مطالبا بالرد على أسئلة تلاميذ يعملون في أقسام أخرى طبعا خارج الفصل حاملين معهم قلق الوضعيات المشبوهة ، لا تكاد أعينهم تفارق التعليمات الواردة في دفتر الادماج عسى ربما يجدون حلا هنا او هناك .. ليقدموها في حصة الادماج الشفوي غدا . و السبب هو أن هؤلاء الصغار لم يستطيعوا فقط « فك رموز» هذه التعليمات.. الغامضة ! ما بالك التفكير في الانخراط في الوضعية و التكهن بالرهانات وتجاوز«العائق البيداغوجي» و تعقل المماراسات و تقديم المنتوج الأصيل !؟ إنه لمشكل حقيقي يتخبط فيه التلاميذ و ذلك حتى قبل ولوج " الادماج " . لا يمكن بحال من الأحوال تقديم تفسير مختزل و أحادي الجانب لهذه السيولة النقدية : موارد ضعيفة تلقن بمنهاج يختلف كلية عما هو مطلوب من الادماج أو بالكفايات وكفى . و لا يمكننا أيضا التغلب على هذه المشاكل الديداكتيكية و البيداغوجية و هي طبيعية في ظل مناخ يسيطر عليه التفرقة و التشتت على مستوى الأفراد و الجماعات ، و من اختلاف في الرؤى و وجهات النظر المتعلقة بأسط القواعد و الاجراءات . و لنا عبرة في انتظار « البرامج الجديدة » 2014/2013 و إلى ذلك الحين .. قد نكون قد استكملنا ربما العدة و أنهينا الحديث في انتظار جولة أخرى جديدة من الاصلاح قوامه على الدوام تفعيل مقاربة الكفايات اعتمادا على بيداغوجية الادماج . أما الآن فإننا و لا نزال على أرض المعركة نناور و تتربص بنا الدوائر .. الدوريات و المستجدات من مضامين و صيغ للكفايات منقحة و غير منقحة و العديد من « .. و التدقيقات و الاضافات و الازاحات ..» كما جاء في وثيقة « البرامج و التوجهات التربوية الخاصة بالتعليم الابتدائي » يونيو 2011 . ( موقع وزارة التربية الوطنية ) .
بدون سابق إنذار ، لقد قيل : " التعلم في الصغر كـ ...". و هذه حكمة كانت مكتوبة على جدران القسم الذي كنت أتعلم فيه عندما كنت طفلا صغيرا . لما كبرت اليوم ، بودي أن أقول بصوت عال : ليس كالنقش على الحجر لكن التعلم في « المحن » هو الطريق الملكي المشرف على الدراسات طويلة الأمد و هو الضامن للتعلمات . او إذا شئت قل على هذا المنوال غير المحسوب بدأت الأمور و يجب أن تواصل هكذا مسيرتها التنموية أولا بمزيد من التوتر والقلق و الاضطراب و ضياع المعالم في أرجاء المعمورة . و المقصود بالمحن هنا أوالمحك هو إخضاع جميع التلاميذ للتعلم « المعقد» بوساطة وضعيات الحياة غيرالمألوفة و المتفردة بعد كل فترة من التشخيص و التداوي وجس النبض في آخر الحصة . لا بأس ، فليكن ذلك ، ونحن على عهدنا سائرون لا تنقصنا العزيمة و لا التضحية . لكن السؤال الذي لزمني طوال هذه المحنة بل المهنة : هو لماذا نخاف من التعقيد ؟ لقد قال لي أحد الزملاء : المهم هو تماما كيف يجب على التلميذ أن يعبر الحدود ، أي كيف ينتقل من القواعد و الدروس الملقنة و المستوعبة في أحسن الظروف إلى ما يسمى بـ « الدمج » ذلك المبحوث عنه ؟ . و لعل كلمة « التجنيد »، هنا ، هي كلمة ملفتة للنظر إذ تفي بالغرض المطلوب لأن الجندي في المعركة كما هو معروف ، لا يفكر البتة إلا في انقاد نفسه قبل الآخرين و بفعله هذا فهو ينقد الجميع ، و في مكان آخر نقول : إلا من أتى ( المدرسة ) بقلب سليم .. و الحال ، أنه لا يمكن أن « نضع أنفسنا » في مكان الطفل لكي يحدث هذا الادماج من تلقاء نفسه على حد قول الباحثين . لذا ، كان ربما الاجذر بنا هو البحث الجاد دائما عن سبل أخرى أكثر قناعة ومعقولية تفتح لنا الطريق آخذين بعين الاعتبار عدة عوامل أخرى لم نجربها من ذي قبل و هي موجودة بكثرة و .. ان هناك بلا شك من يظنها أنها مسرحية هزلية يكن لها العداء : العمل بالفرق التربوية ، تبادل الخبرات ، إقامة منتديات ، إبرام تعاقدات صغيرة مع التلاميذ الضعاف و آباءهم ، تخفيف البرامج المعمول بها ، ترشيد و تنسيق الموارد مع الكفايات ، توثيق الممارسات و تعقلها ، تبادل في المستويات و الأدوار المهنية ، بيداغوجية المشروع و مشروع المؤسسة ، الحياة المدرسية ، الخ .
و من الملاحظات التي تعترض سبيلنا – التي تعد من المصادر التراكمية – لخوض غمار حرب الادماج و التغلب عليه هو أننا عندما كنا ، قبل عهد الادماج – نريد إخضاع التلاميذ للامتحانات النهائية للشهادة الابتدائية ، أول شيء كان تفكر فيه الادراة و المدرسات و المدرسين اجميعن هو البحث عن المواضيع السهلة التي تكون « في المستوى ! » . عبارة متداولة . مواضيع سهلة المنال و حلوة المذاق لا تجلب الخيبة على أصحابها بالمناسبة و تكون بنسب مئوية معقولة تفوق أحيانا المائة . في احدى اللقاءات التربوية بين قوسين مع السيد المفتش للغة الفرنسية ، و كان ذلك في بداية الادماج المخصص لملء بطاقات التقويم بعلامات « زائد » و « ناقص » ؛ صدرت مني كلمة « تعقيد » هكذا مبديا رأيي بكل عفوية في الموضوع لأن الأبجديات الأولى للادماج تقتضي ذلك على كل حال . لكن بمجرد ان سمع السيد المفتش الكلمة : «معقدة « : الملعونة " ، عبر فورا عن رفضه التام للكلمة بحجة أنها تجلب الصداع و القلاقل للتلاميذ . رفقا بهم . و قال بالحرف : لا يجب إزعاج التلاميذ . و الحق أقول إنني ما زلت منزعجا لحد الساعة من هذا الكلام . كما أنني لا زلت أتذكر ذلك اليوم الأخير وكان يوم السبت من أيام التكوين الشهيرة في الادماج حينما فجأة طل علينا نائب الأقليم في التربية مشهرا في وجهنا ، من حيث ندري أو لا ندري ، سؤالا استنكاريا – كنت ما انتبهت إليه أبدا - ، : لماذا هذا التكوين ؟ . لا أحد منا قد أجاب و لا أحد وضع يديه على الجرح ماعدا الأساتذة الفاضلة (..) كانت جالسة معنا تنظر مليا في حسابات التقويم - و أمامها « وضعيات معقدة » يشم منها رائحة الكبريت - مكتوبة على السبورة و قالت بعزم أكيد : استاذ ، هذا : إنصاف .. هذا إنصاف ..! و به تم الختم و انصرفنا في ذهول .
فلننظر مليا ، من الجانب الآخر الاكثر إثارة ، كيف تمت أجرأة « الانصاف » عند واصل بن عطاء احد كبار العقلانيين في الاسلام بشأن وضعية معقدة ( قضية دينية ) طرحت عليه ، مرتكب الكبيرة في نظر الدين و الاسلام ؛ علما أن واصل بن عطاء لم يكن حينذاك معتزليا . هل مرتكب الكبيرة هو مخلد في النار أم في الجنة ؟ كان جوابه في الحين : لا هو في الجنة و لا هو في النار . أي بين المنزلتين ! ما أصعب ان يكون الجواب في مثل هذه الظروف و المواقف الحرجة التي تهم حياة الانسان العقدية و الايمانية . وخاصة أن واصل بن عطاء . ما كان ممتلكا بعد الحجج العقلية والمنطقية ليستدل بها عن موقفه و ما كان فيلسوفا في وقته . فقام فورا واعتزل فرقته كما قال أبو الحسن الاشعري . ما يهمنا هنا في هذه النازلة – عرضت بإيجاز – ليس هو « الاعتزال » في حد ذاته و النظر في الموضوعات الايمانية أو الفلسفية ، و إنما القوة و الشجاعة في إبداء الرأي وسبر أغوار المجهول حتى لو أدى ذلك إلى نتائج لا يرضى عنها الجميع . او تكون ضد الجميع أو « رغم ذلك .. فهي تدور »( غاليلي ). و هذا فعلا ما حدث مع واصل بن عطاء و تابع الاشاعرة عمله مصححين الوضعية فيما بعد بهدمهم للمنزلة بين المنزلتين . أعتقد أنه لا يوجد اختلاف كبير في عالم التربية و ما نعانيه حاليا – نحن معشر الممارسين في حقل التعليم – و الوضعية المطروحة بالنظر إلى مرتكب الكبيرة و التشاكل الحاصل بينهما : منزلة بين المنزلتين ؟ و السؤال المطروح هو هل نؤمن بوضعية « ديداكتيكية » هنا في الاسابيع الست الأولى ، و نكفر بوضعية « إدماجية » هناك في الاسبوعين المتبقيين المخصصين للادماج ؟ الحق أقول نحن مع واصل بن عطاء و لا هم يحزنون : « وضعية بين الوضعيتين ! » هو حل توافقي يخدم البيداغوجية و لا يخدم الدين .
فلئن كان الزنديق هو المسلم الكافر و يصعب بالتالي تخليده في النار أم في الجنة ، فإن التلميذ الضعيف بدوره ، الفقير في موارده و الكفء بقدراته يجب أن ينظر إليه من الآن فصاعدا – و بالتزامن داخل « الوضعيتين ! » ديداكتيكيا و إدماجيا . و لا نظل هكذا في « انفصام بيداغوجي » حاد و نعاني الامرين من جراء أسلوبين متناقضين : واحد للتعليم بواسطة الأهداف لا انفكاك منه ( PPO ) وآخر للتعلم بواسطة الكفايات مع العلم أنه لا وجود في الساحة « لديداكتيك الكفايات » تريحنا من هم الوضعيات . بل حتى الادماج نفسه لا يخرج عن كونه فقط مجرد « إطار» ميتودولوجي أو بوتوكول لأجرأة الكفايات أو تصريف الفعل التعلمي وفق بعض الشروط الدقيقة المفروضة علينا بحكم العادة . لكن ، هنا ، إن المرشد الأكبر لفعلنا و لممارستنا و لأنشطتنا هو بالضبط ، إضافة إلى تلك المقاصد و الغايات التربوية الكبرى المتضمنة في الميثاق الوطني للتربية و التكوين 1999 ، هو الحيوزات التي سوف « نخلقها » بأيدينا بفعل تجربتنا و خبرتنا الميدانية الغنية و تعقل ممارستنا الصفية للتصرف في الهوامش الممنوحة لنا بكل شجاعة اعتزالية عطاء بغية ردم الهوة بين « المنزلتين » كما فعل الأشاعرة مع أقل الضررين و ذلك ، باتباع الجدل الصاعد الذي يلغي كل المتناقضات و السلبيات في ضم الأجزاء الباقية الأخرى تكون بمثابة القاعدة الأساس و المنطلق نحو إصلاح جديد ... إلى ما لا نهاية .
بتاريخ 7 شتنبر 2011
مبشور محمد