المدرسة في مواجهة التعقيد
فليب بيرينو Philippe Perrenoud
كلية علم النفس و علوم التربية
جامعة جينيف – سويسرا
1993
الموجز :
1 )- هجوم المنتناقضات
2 )- ما يجعل التعقيد اليوم في ازدياد
3 )- بعض الاستراتيجيات بدون معنى
4)-المواجهة الحقيقية للتعقيد
5 )- رؤساء المؤسسات في مواجهة التعقيد
المراجع
----------------------------------------------------------------
مهما تكن طبيعة البشر والنظم الاجتماعية فهي تتسم بالبساطة ، ومهما تكن أعمال و مهام محترفي التربية و رؤساء الادارات فهي ليست بالأمر الهين ، لا أحد يغامره شك في هذا الموضوع .
ماذا ينتج حينما نتحدث عن التعقيد ؟ بالطبع ، إن الكلمة غذت جزءا من الموضة و ترفع من قيمة هؤلاء الذين يدافعون عنها . لكن ماذا نقصد من وراء ذلك بالضبط ؟
فبل أن نعطي للكلمة تعريفا أكثر دقة و شمولية ، سأتناول مسألة التعقيد من جانبها الوجداني، و ذلك عن طريق استعارة . فالعالم المعقد هو عالم يشبه تمثيلية إيمائية pantomime غامضة و يلفها الكتمان و السر بعض الشيء . نعيش أحيانا بعض اللحظات حيث نظن أننا نفهم معانيها ، و لحظات أخرى حيث نشعر فيها بالغبطة والسرور، نكون أسياد موقف وأصحاب معنى ، إذن أذكياء جدا .
و خاصة إذا انتابنا إحساس بأن المتفرجين الاخرين لا يفقهون شيئا و أننا لقادرون على إدخال الدهشة عليهم بالشرح او التفاخر عليهم بكل لطف قائلين لهم أن هذا الموضوع ليس في متناول أي أحد كان ... و هناك لحظات أخرى حيث لا نكون متيقنين من الفهم على وجه الاطلاق ، نبحث عن من يفسر لنا معنى الأحداث في خفية و بعيدا من الأعين. لكن من اجل هذه الغاية ، لا بد من التحلي بالجرأة في طرح المخاوف و المخاطرة حتى لا نوصف بالحمق . و الحال الأجدر لنا هو الموت !
و هناك بعض اللحظات ، في الأخير ، حيث لا نفهم أي شيء تماما ، بحيث لا نقوم بأية محاولة قط . نريد أن نعتقد أننا لسنا الوحيدين في هذه الوضعية ، فنلتفت يمينا و شمالا لنبحث عن علامة استفهام عند الجيران ، شراكة في التعقيد . لكن مع الآسف ، لا شيء من هذا القبيل ! الكل يتظاهر بالمتابعة و الاستماع ، فهذا ليس وقت اللعب والمهزلة .
كمثل الحفل الإيمائي ، فإن تمثيلية العالم تقلقنا في بعض الأحيان ، تمدنا بشعور أننا متجاوزين . الشيء الذي يضعنا في عزلة طويلة جدا مادمنا لا نجرؤ القول بصوت عال : « أنا لا أفهم شيئا ! و أنت ؟ » يتحدث المتفرج ، في المسرح ، مع نفسه أحيانا و يقول : « و إذا ما تم تسليط الضوء علي ، لو طلب مني رأيي ، ترى كيف سيكون مصيري؟ » غير أن ، ماعدا في المسارح المتقدمة التي تريد نقل الحفل إلى القاعة ، فإننا لا نخسر شيئا . إن مسرح الحياة هو أقل نعومة ، فهو لا يخدمك أبدا . في الحياة ، لا بد من التصرف ، هو إما الفهم او التظاهر بالفهم إذن . و بالأخص إذا كنت مسؤولا ، أي ذاك المبحوث عنه عندما تنكمش الآلة .
كونك مسؤولا بمؤسسة ، يعني ، بفضل تقسيم العمل ، هو أن تصير محكوما بالتعقيد . الأفضل هو التحقق من ذلك عندما تصبح رئيس مؤسسة بنفسك. او استبدال المهنة في حالة اكتشاف الأمر قبل فوات الآوان . و بالرغم من سيطرتنا على التعقيد كما ينبغي ، كفاعل رئيسي للدورالاحترافي ، فإنه ليس من السهولة بمكان مجابهة التعقيد كل يوم . الأفضل هو تدجينه إذن، و قبل ذلك التحدث عنه ! و الاعتراف بوجود التعقيد هنا في العالم ، لكن ايضا في علاقتنا مع العالم ، من جهة تأسيسا وفق متناقضاتنا ، وازدواجيتنا ، وعدم استقرارنا و حدودنا الشخصية ، و من جهة أخرى حسب الاختلافات و الصراعات بين الفاعلين فيما يتعلق بالوضع و بالقرارات المتخذة .
إن التحدث عن التعقيد هو إذن التحدث عن الذات و عن الاخرين في مواجهة الواقع . هو المساءلة حول تصورنا و حالة تحكمنا في العالم ، و خاصة العالم الاجتماعي . هو إذن اتخاذ إجراءات و قياسات لأدوات الفهم و الاستيعاب ، الاستباق و الفعل .
1) هجوم المتناقضات
ما هو التعقيد la complexité ؟ إدغار موران مع محللين اخرين للأنظمة العضوية الحية ، يميزونه عن المضاعفات ( العراقيل) la complication :
يطرح التعقيد أولا كاستحالة في التبسيط ؛ يبرز هنا من حيث ان الوحدة المعقدة تفرز انبثاقاتها ، وحيث التباينات و الوضوح و الاشراقات تضمحل و تتلاشى ، وحيث الفوضى تعكر صفاء الظواهر ، وحيث تفاجئ الذات – الملاحظة ذاتها الخاصة في موضوع ملاحظتها ، و حيث تجعل التعارضات التمذهبية مفعول المنطق وسريانه و كذا الاستدلال في حالة شرود و هذيان ...
فالتعقيد ليس هو المضاعفات . ما هو مضاعف ( او معرقل ) يمكن ان يختزل في مبدإ بسيط مثل ربطة خيوط ملتوية أو عقدة بحار . بالطبع ، العالم يتصف بالعراقيل ، لكن لو ما كان سوى معرقلا ، أي مختلفا ، متعالقا بين مكوناته ، الخ. ، سنقتصر حينذاك بإجراء الاختزالات المعروفة جيدا (...) المشكل الحقيقي إذن ليس هو تحويل مضاعفات وعراقيل السيرورات و استبدالها إلى قواعد أساسية بسيطة . التعقيد هو ما يوجد في الأساس ( موران ، 1977 ، ص : 377 و 378 )
و يضيف :
كمثل هذا الارتباط في المفاهيم المنفصلة يجعلنا نقترب من النواة الاصلية للتعقيد الذي هو ، ليس فقط مرتبط بين المنعزل / المبعد ، لكن في الترابطية لما كان يعتبر في عداد العدو . يمثل التعقيد ، في هذا المعنى ، هجوم الأعداء في قلب الظواهر المنظمة ، هجوم المتناقضات او المتضادات في قلب النظرية . إن مشكل التفكيرالمعقد أصبح ابتداءا من الآن هو التفكير الجماعي ، خال من اللاتساوق ، فكرتان مع ذلك متضادتان ( موران Morin 1977 ، ص : 379 ).
ها هنا يلوح ما هو أكثر تجريدية . و بالفعل ، إن التفكير بصدد التعقيد هو في البداية عمل فلاسفة العلوم او الباحثين – الفزيائيين ، الفلكيين ، البيولوجيين ، السيكولوجيين او السوسيولوجيين – الذي يحاولون فهم لماذا يقاوم الواقع نمادجهم ، لماذا لا يكفي تبسيط الواقع ، و اختزاله في تركيب قانوني داخلي أو جزيئات بسيطة من أجل استيعابه . هل هذه المقاربة الإيبستمولوجية للتعقيد لديها أدنى علاقة مع الاحساس بالتعقيد الذي يتعقب الفاعلين داخل تنظيماتهم أو مجتمعاتهم العصرية ؟ نعم ، بالرغم من أن هؤلاء الفاعلين ليس لديهم الوقت الكافي او الوسائل لتوضيح ما يفهمونه بكل وضوح .
حول ثلاث نقط على الأقل أقوال إدغار موران Edgar Morin بإمكانها تسليط الضوء على الفعل الاجتماعي العادي ، و لا سيما في العالم المدرسي :
- التعقيد هو ما يوجد في الأساس ، و هو عنصر مؤسس لماهية الأشياء ، و للتفكير ، وللفعل ، و للتنظيم ؛ الشيء الذي يعني أننا لا نستطيع إبعاده او تجاهله ؛
- - التعقيد يتكون من الانفجار او هجوم الأعداء في قلب الظواهر المنظمة ؛
- -- للتغلب و التحكم في التعقيد ، يجب ان نقبل و نتوصل إلى نوع من التفكير الجماعي حول هذه المتناقضات ؛
في ميدان التربية ، ما هي التناقضات ؟ هاك بعض منها : بين الشخص و المجتمع ، الوحدة و التنوع ، التبعية و الاستقلال ، الثابت و المتغير ، الانفتاح و الانغلاق ، الانسجام و الصراع ، المساواة و التميز . كل تناقض يعمل في مستويات مختلفة من التنظيم المدرسي ، أي في حجرة القسم ، لأن هنا بقاعة الدرس ما يمكن نسج أهم ما يوجد في العلاقة البيداغوجية ، في المؤسسة ، في النظام التربوي بأكمله . لا يسعني هنا إلا بالتذكير بالخطوط العريضة .
1.1)- بين الشخص و المجتمع
في مجتمع حيث قيم الفرد فيه تحتل الصدارة ، فإن التربية تعتبر كاستهلاك أو استثمار للشخص خدمة لتفوقه و لنجاحه الخاص ، و لسعادته ، و لتوازنه . في نفس الوقت ، فالأسر والمؤسسات والمجتمع غير مستعدة لترك مراقبة « التنشئة » للاجيال القادمة . فالرهانات هي كبيرة و صعبة : لا بد من المحافظة على التقاليد ، و القيم ، ونظام الأشياء ، لكن أيضا ، و بشكل أكثر واقعية ، يجب ان نضمن السير العادي للمؤسسات ، و نقوم بتجديد اليد العاملة المؤهلة ، و نسهر على حقوق و امتيازات الكبار و السلطة الحاكمة .
إن هذا الضغط يسكن دائما حياة التربية و لا يمكنها التحرر منه « بصفة نهاية » . يعتبر هذا أحد مكونات التعقيد في الأساس . يتمظهر هذا الضغط في الحوار المجتمعاتي حول غايات و مقاصد النظام التربوي . فنجده حاضرا بداخل المؤسسات ، ليس فقط بين الشباب و عالم الكبار ، لكن بين عالم الكبار أنفسهم ، الذين لا يتقاسمون نفس الايديولوجية و لا يتواجدون في نفس الساحة . أخيرا ، في قاعة الدرس ، مع كل يوم تولد مساومة هشة بين احترام الأشخاص – في احتياجاتهم ، إيقاعاتهم ، طرق تفكيرهم - و مستلزمات البرنامج ، و العمل ، و التقويم ، و الزمن ، و التعايش .
2.1)- بين الوحدة و التنوع
إن أساس التربية و التعليم هو قيادة المتعلم نحو مقاسمة ثقافة ما ، هو القبول بموروث ، هو الانصهار في قالب إذن ، هو ان نقبل بنوع من التنميط لمعارفه ، لطرقه في التفكير ، و الاحساس ، و التواصل . لقد تطورت المدرسة كألة عظيمة في توحيد المعيار في التاريخ ، و أحيانا لكي نجعل من الديمقراطية حاجة ممكنة ، نسهل تعايشا مبنيا على التوافق الحر و التعاقد الاجتماعي بدل العنف ، في بعض الأحيان لكي نستبدل الهمجيات البربرية القديمة بتركيبات توتاليتارية تراقب اولا النفوس . إن هذا الانشغال و هذا الهم في التوحيد أضعف شيئا فشيئا التنوع في انماط الحياة و العقل ، على حساب لغة مدرسية ، و فكر أورثودوكسي ، و عقلانية مثالية ، و حس و سلوك اخلاقي منظمين ، و ثقافة الجماهير .
من الواجب على النظام التربوي و المؤسسات و المدرسين البحث عن السبل المؤدية إلى الوحدة و التنوع ، سواء فيما يتعلق بالمسارات و تكوين التلاميذ أو الممارسات البيداغوجية ، القيم و التمثلات المهنية .
3.1) – بين التبعية و الاستقلالية
إن العلاقة البيداغوجية هي علاقة لا تماثلية في الأساس ، لأن المعلم يتحكم في المعرفة التي لا يزال المتعلم لم يتقنها بعد و التي لا يقدر في واقع الأمر الحكم على أحقيتها و منفعيتها . ينبني التعليم l’instruction في الغالب الأعم على الكلام المأثور : « إن هذا من أجل مصلحتك . ستشكرني عما قريب » . هل يوجد هناك ما هو أكثر تبعية و خضوعا من اتباع شخص ما بدون معرفة أين يقودك ؟ و الحال ان العلاقة البيداغوجية تمتلك في ذات الوقت ميلا في العمل نحو فقدان و ذوبان ذاتها : يحقق المعلم مبدئيا هدفه الاسمى حينما لا يحتاجه التلميذ . من التبعية إلى التعلم الذاتي ، فإن الطريق مفروش بالمتناقضات و الشكوك . المتناقضات مثل : من الصعب بالنسبة للمعلم ، و لو على مستوى الرمز ، الانتحار على الطريقة اليايانية hara – kiri ، والتملص من السلطة بكل اطمئنان ؛ كما يصعب على التلميذ مواجهة الحرية و المسؤولية ، و عدم التخفي و التستر وراء نظام الطفولة و الأمية . أمثلة للشكوك : لا نعرف أبدا بالضبط ما هي أحسن اللحظات و أفضلها للتقدم خطوة أخرى نحو التعلم الذاتي او الاستقلالية ، يمكننا أن نخطئ باستمرار بالزيادة تارة و بالنقصان تارة أخرى : أهو التهكم الطفولي أم منح المزيد من الثقة العمياء ؟ هل نلجأ إلى معاملة القاصرين أم معاملة الكبار ؟ هل نمارس الضغط و الاكراه أو نقبل حرية الاختيار ؟
إنك لتجدن نفس المتناقضات بين المهنيين . كونك مدرسا هو في الآن نفسه فاعل لتنظيم و حرفي ( أو مناضل ) في صمت . لا يوجد أي مدرس « وجد فائدة لنفسه » ، لكن بعضهم انخرط في علاقة بيداغوجية بكل قواه ، هواية ، مشروع ، أخلاقيات هي من صميم ذاته . هؤلاء المنخرطون لا يتوقفون إذن عن الكتابة و التأليف في دفاتر تحملاتهم و مشاريعهم التربوية الخاصة بهم . حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لديهم علاقة اكثر تبعية و ليونة اتجاه المقاصد التربوية الرسمية فهم يحتاجون لبعض من الحرية و الاستقلالية اثناء مهامهم ، دونما الاستطاعة و لا القدرة على الابتعاد كلية عن المناهج المقررة أو المطلوبة . في مستوى اخر ، نجد الفرق البيداغوجية و المؤسسات تبحر هي أيضا بكل وضوح بين الاستقلالية و التبعية إزاء الانظمة الأكثر اتساعا .
4.1)- بين الثابت و المتحول
كونك مربيا أو مدرسا هو معناه السماح للمتعلم بالتغيير بدون افتقاد لهويته ، هو المصالحة و التوفيق بين الثبات و التحول . يجب على النظام المدرسي ، أيضا ، أن يتجدد بدون خسارة ، ان يتشرب بمعارف جديدة ، بمناهج جديدة ، بتكنولوجيات جديدة و ذلك في ظل الموروث ، و لا يفهم من هذا أبدا أن كل ما أحدثناه فيما مضى لا فائدة ترجى منه . على صعيد المجتمع ، تتأرجح التربية و التعليم بين إعادة الانتاج و التغيير ، بين تلقين الموروث و التهيؤ للمجتمع الحديث ، بين الاستمرارية مع الماضي و استباق المستقبل . إن طبيعة المدرسة ذاتها توجد في ملتقى القديم و الجديد ، إن على مستوى الاشخاص أوعلى مستوى النظام ، فالمدرسة إذن هي موجودة في صلب الحوار المنبثق دائما بين المحافظين و الجدد .
5.1) – بين الانفتاح و الانغلاق
إن البنية المفتوحة موجودة إلى الآبد على حافة الهاوية : فائقة الانفتاح ، ستفقد هويتها ، انسجامها و تذوب في محيطها . فائقة الانغلاق ، ستصاب بالخناق ولا تتجدد وتتلاشى تبعا لذلك كمنظومة . و هذا ما بينه بياجي Piaget كتوازن يفترض البناء الدائم بين استيعاب للواقع حسب مخططاتي العملياتية و التفكيرية و التلاؤم لمخططاتي إزاء العالم ، بفضل التجربة .
التربية و التعليم ، والميديا أيضا ، هي أدوات للانفتاح و الانغلاق لمجتمع ما على حد سواء . إن المجتمعات ذي الثقافة غير الملقحة بأي تهجين تتحجر ، و المجتمعات المنفتحة في وجه جميع الرياح تصبح مجمعات ثقافية ، توابع للمجتمعات المهيمنة . الامر الذي يستدعي القيام باختيارات ملموسة جدا ، مثلا في طريقة تدريس التاريخ ، و الجغرافية ، و اللغات ، و الآداب ، و الفلسفة ، و حتى العلوم أيضا . ما بين الحمائية المفرطة و الانفتاح الزائد ، أين يوجود الخط الناصف ؟
و ينطبق الامر بالمثل على مؤسسة او فريق بيداغوجي . في غياب انغلاق إلى حد ما ، لا توجود هوية قوية ، و لا احساس بالانتماء ، و لا أمان . لكن في الوجه المقابل ...
و هذا يصح مفعوله كثيرا على الأشخاص ، المتعلمين او المدرسين .
6.1)- بين الانسجام و الصراع
تحمل التربية معها حلم التوافق والانسجام . ألا تجيز المعرفة والعقل والمحاججة التعايش السلمي و احتمال الفوارق و التضامن الذكي و مقاسمة القيم الانسانية ؟ وعلى الرغم من ذلك ، بدون صراعات ، ليس هناك وجود لتعلمات رئيسية ، ولا وجود لتغييرات مجتمعية . إن التناوب يتجسد دائما من طرف جزء آخر من ذاتي او من طرف شخص آخر الذي يقاوم إن لم يكن شخصيتي ، فهو يقاوم على الأقل أفكاري .
محكوم على المدرسة ان تحيا مع تضارب و تطاحن في القيم ، و المناهج ، و النظريات ، و المواقف المعرفية ، و السلطة . إنها تعمل على تجاوز هذه الاشياء مع العلم أن أشياء اخرى ستنبثق و ترى النور...
7.1)- بين المساواة و الاختلاف
هذا التناقض مما لا شك فيه هو الأكثر حداثة . إن الاهتمام والتركيز على تكافؤ الفرص و المساواة لم يكن حاضرا منذ بداية النظم المدرسية . في عصر الثورة الفرنسية ، ما كان هنالك أناس يطرحون موضوعا بصدد أن يتلقى كل أحد منهم تعليما متساويا نسبة لظروفه الاجتماعية الدقيقة . إن موضوع دمقرطة التعليم و تكافؤ الفرص لم يرا النور إلا بعدما حل القرن الواحد و العشرين فقط ، و في منتصفه الثاني بالأحرى . ننتظر من المدرسة اليوم أن تقدم نفس الثقافة الأساسية للجميع . كيف يمكن لنا التوفيق بين مقتضيات المساواة و تكافؤ الفرص مع التنوع الحاصل في المصالح ، و الكفاءات ، و مختلف أشكال الوعي ؟ هل نستطيع إحداث توجيهات متساوية ؟ هل من الممكن تنويع أشكال الامتياز و التميز ( بيرينو Perrenoud ، 1991 / b ) والاختيارات والشعب ، بدون استدخال الهراركيات المتضمنة ؟
كل ما يتمظهر على مستوى البرامج و البنيات المدرسية فهو متواجد في قاعة الدرس : هل يجب إعطاء نفس الدروس و الواجبات للجميع ؟ هل نقوم بتقييم الجميع بنفس المعايير ؟ هل نفرض على الأطفال نفس الايقاعات للعمل ، نفس انماط التواصل ، نفس القيم ، نفس العلاقات المحددة إزاء المعرفة ام نفرض ذلك على المراهقين بشتى اختلافاتهم ؟ و في حالة احترام هذه التفاوتات ، ألا نخاطر بسجن كل واحد داخل ظرفيته و نسعى في استفحال الميز أمام الثقافة ؟
***
في كل هذه المداخلات و السجلات ، نلاحظ ، حسب عبارة موران Morin ، « هجوم الاعداء في قلب الظواهر المنظمة » . يفهم من العدو بمعناه الواسع أي المضاد المتواجد بين قوى مختلفة ، سواء في عمق الأشخاص أو المنظمات ، سواء على مستوى القيم او بناءات متعددة للعالم ، مصالح او مشاريع . إنما الأعداء هم الأساس ، فهم يبعثون من جديد بلا توقف و مثل سيزيف Sisyphe ، أصبحنا محكومين على مطاردتهم كل صباح و مساء .
فليب بيرينو Philippe Perrenoud
كلية علم النفس و علوم التربية
جامعة جينيف – سويسرا
1993
الموجز :
1 )- هجوم المنتناقضات
2 )- ما يجعل التعقيد اليوم في ازدياد
3 )- بعض الاستراتيجيات بدون معنى
4)-المواجهة الحقيقية للتعقيد
5 )- رؤساء المؤسسات في مواجهة التعقيد
المراجع
----------------------------------------------------------------
مهما تكن طبيعة البشر والنظم الاجتماعية فهي تتسم بالبساطة ، ومهما تكن أعمال و مهام محترفي التربية و رؤساء الادارات فهي ليست بالأمر الهين ، لا أحد يغامره شك في هذا الموضوع .
ماذا ينتج حينما نتحدث عن التعقيد ؟ بالطبع ، إن الكلمة غذت جزءا من الموضة و ترفع من قيمة هؤلاء الذين يدافعون عنها . لكن ماذا نقصد من وراء ذلك بالضبط ؟
فبل أن نعطي للكلمة تعريفا أكثر دقة و شمولية ، سأتناول مسألة التعقيد من جانبها الوجداني، و ذلك عن طريق استعارة . فالعالم المعقد هو عالم يشبه تمثيلية إيمائية pantomime غامضة و يلفها الكتمان و السر بعض الشيء . نعيش أحيانا بعض اللحظات حيث نظن أننا نفهم معانيها ، و لحظات أخرى حيث نشعر فيها بالغبطة والسرور، نكون أسياد موقف وأصحاب معنى ، إذن أذكياء جدا .
و خاصة إذا انتابنا إحساس بأن المتفرجين الاخرين لا يفقهون شيئا و أننا لقادرون على إدخال الدهشة عليهم بالشرح او التفاخر عليهم بكل لطف قائلين لهم أن هذا الموضوع ليس في متناول أي أحد كان ... و هناك لحظات أخرى حيث لا نكون متيقنين من الفهم على وجه الاطلاق ، نبحث عن من يفسر لنا معنى الأحداث في خفية و بعيدا من الأعين. لكن من اجل هذه الغاية ، لا بد من التحلي بالجرأة في طرح المخاوف و المخاطرة حتى لا نوصف بالحمق . و الحال الأجدر لنا هو الموت !
و هناك بعض اللحظات ، في الأخير ، حيث لا نفهم أي شيء تماما ، بحيث لا نقوم بأية محاولة قط . نريد أن نعتقد أننا لسنا الوحيدين في هذه الوضعية ، فنلتفت يمينا و شمالا لنبحث عن علامة استفهام عند الجيران ، شراكة في التعقيد . لكن مع الآسف ، لا شيء من هذا القبيل ! الكل يتظاهر بالمتابعة و الاستماع ، فهذا ليس وقت اللعب والمهزلة .
كمثل الحفل الإيمائي ، فإن تمثيلية العالم تقلقنا في بعض الأحيان ، تمدنا بشعور أننا متجاوزين . الشيء الذي يضعنا في عزلة طويلة جدا مادمنا لا نجرؤ القول بصوت عال : « أنا لا أفهم شيئا ! و أنت ؟ » يتحدث المتفرج ، في المسرح ، مع نفسه أحيانا و يقول : « و إذا ما تم تسليط الضوء علي ، لو طلب مني رأيي ، ترى كيف سيكون مصيري؟ » غير أن ، ماعدا في المسارح المتقدمة التي تريد نقل الحفل إلى القاعة ، فإننا لا نخسر شيئا . إن مسرح الحياة هو أقل نعومة ، فهو لا يخدمك أبدا . في الحياة ، لا بد من التصرف ، هو إما الفهم او التظاهر بالفهم إذن . و بالأخص إذا كنت مسؤولا ، أي ذاك المبحوث عنه عندما تنكمش الآلة .
كونك مسؤولا بمؤسسة ، يعني ، بفضل تقسيم العمل ، هو أن تصير محكوما بالتعقيد . الأفضل هو التحقق من ذلك عندما تصبح رئيس مؤسسة بنفسك. او استبدال المهنة في حالة اكتشاف الأمر قبل فوات الآوان . و بالرغم من سيطرتنا على التعقيد كما ينبغي ، كفاعل رئيسي للدورالاحترافي ، فإنه ليس من السهولة بمكان مجابهة التعقيد كل يوم . الأفضل هو تدجينه إذن، و قبل ذلك التحدث عنه ! و الاعتراف بوجود التعقيد هنا في العالم ، لكن ايضا في علاقتنا مع العالم ، من جهة تأسيسا وفق متناقضاتنا ، وازدواجيتنا ، وعدم استقرارنا و حدودنا الشخصية ، و من جهة أخرى حسب الاختلافات و الصراعات بين الفاعلين فيما يتعلق بالوضع و بالقرارات المتخذة .
إن التحدث عن التعقيد هو إذن التحدث عن الذات و عن الاخرين في مواجهة الواقع . هو المساءلة حول تصورنا و حالة تحكمنا في العالم ، و خاصة العالم الاجتماعي . هو إذن اتخاذ إجراءات و قياسات لأدوات الفهم و الاستيعاب ، الاستباق و الفعل .
1) هجوم المتناقضات
ما هو التعقيد la complexité ؟ إدغار موران مع محللين اخرين للأنظمة العضوية الحية ، يميزونه عن المضاعفات ( العراقيل) la complication :
يطرح التعقيد أولا كاستحالة في التبسيط ؛ يبرز هنا من حيث ان الوحدة المعقدة تفرز انبثاقاتها ، وحيث التباينات و الوضوح و الاشراقات تضمحل و تتلاشى ، وحيث الفوضى تعكر صفاء الظواهر ، وحيث تفاجئ الذات – الملاحظة ذاتها الخاصة في موضوع ملاحظتها ، و حيث تجعل التعارضات التمذهبية مفعول المنطق وسريانه و كذا الاستدلال في حالة شرود و هذيان ...
فالتعقيد ليس هو المضاعفات . ما هو مضاعف ( او معرقل ) يمكن ان يختزل في مبدإ بسيط مثل ربطة خيوط ملتوية أو عقدة بحار . بالطبع ، العالم يتصف بالعراقيل ، لكن لو ما كان سوى معرقلا ، أي مختلفا ، متعالقا بين مكوناته ، الخ. ، سنقتصر حينذاك بإجراء الاختزالات المعروفة جيدا (...) المشكل الحقيقي إذن ليس هو تحويل مضاعفات وعراقيل السيرورات و استبدالها إلى قواعد أساسية بسيطة . التعقيد هو ما يوجد في الأساس ( موران ، 1977 ، ص : 377 و 378 )
و يضيف :
كمثل هذا الارتباط في المفاهيم المنفصلة يجعلنا نقترب من النواة الاصلية للتعقيد الذي هو ، ليس فقط مرتبط بين المنعزل / المبعد ، لكن في الترابطية لما كان يعتبر في عداد العدو . يمثل التعقيد ، في هذا المعنى ، هجوم الأعداء في قلب الظواهر المنظمة ، هجوم المتناقضات او المتضادات في قلب النظرية . إن مشكل التفكيرالمعقد أصبح ابتداءا من الآن هو التفكير الجماعي ، خال من اللاتساوق ، فكرتان مع ذلك متضادتان ( موران Morin 1977 ، ص : 379 ).
ها هنا يلوح ما هو أكثر تجريدية . و بالفعل ، إن التفكير بصدد التعقيد هو في البداية عمل فلاسفة العلوم او الباحثين – الفزيائيين ، الفلكيين ، البيولوجيين ، السيكولوجيين او السوسيولوجيين – الذي يحاولون فهم لماذا يقاوم الواقع نمادجهم ، لماذا لا يكفي تبسيط الواقع ، و اختزاله في تركيب قانوني داخلي أو جزيئات بسيطة من أجل استيعابه . هل هذه المقاربة الإيبستمولوجية للتعقيد لديها أدنى علاقة مع الاحساس بالتعقيد الذي يتعقب الفاعلين داخل تنظيماتهم أو مجتمعاتهم العصرية ؟ نعم ، بالرغم من أن هؤلاء الفاعلين ليس لديهم الوقت الكافي او الوسائل لتوضيح ما يفهمونه بكل وضوح .
حول ثلاث نقط على الأقل أقوال إدغار موران Edgar Morin بإمكانها تسليط الضوء على الفعل الاجتماعي العادي ، و لا سيما في العالم المدرسي :
- التعقيد هو ما يوجد في الأساس ، و هو عنصر مؤسس لماهية الأشياء ، و للتفكير ، وللفعل ، و للتنظيم ؛ الشيء الذي يعني أننا لا نستطيع إبعاده او تجاهله ؛
- - التعقيد يتكون من الانفجار او هجوم الأعداء في قلب الظواهر المنظمة ؛
- -- للتغلب و التحكم في التعقيد ، يجب ان نقبل و نتوصل إلى نوع من التفكير الجماعي حول هذه المتناقضات ؛
في ميدان التربية ، ما هي التناقضات ؟ هاك بعض منها : بين الشخص و المجتمع ، الوحدة و التنوع ، التبعية و الاستقلال ، الثابت و المتغير ، الانفتاح و الانغلاق ، الانسجام و الصراع ، المساواة و التميز . كل تناقض يعمل في مستويات مختلفة من التنظيم المدرسي ، أي في حجرة القسم ، لأن هنا بقاعة الدرس ما يمكن نسج أهم ما يوجد في العلاقة البيداغوجية ، في المؤسسة ، في النظام التربوي بأكمله . لا يسعني هنا إلا بالتذكير بالخطوط العريضة .
1.1)- بين الشخص و المجتمع
في مجتمع حيث قيم الفرد فيه تحتل الصدارة ، فإن التربية تعتبر كاستهلاك أو استثمار للشخص خدمة لتفوقه و لنجاحه الخاص ، و لسعادته ، و لتوازنه . في نفس الوقت ، فالأسر والمؤسسات والمجتمع غير مستعدة لترك مراقبة « التنشئة » للاجيال القادمة . فالرهانات هي كبيرة و صعبة : لا بد من المحافظة على التقاليد ، و القيم ، ونظام الأشياء ، لكن أيضا ، و بشكل أكثر واقعية ، يجب ان نضمن السير العادي للمؤسسات ، و نقوم بتجديد اليد العاملة المؤهلة ، و نسهر على حقوق و امتيازات الكبار و السلطة الحاكمة .
إن هذا الضغط يسكن دائما حياة التربية و لا يمكنها التحرر منه « بصفة نهاية » . يعتبر هذا أحد مكونات التعقيد في الأساس . يتمظهر هذا الضغط في الحوار المجتمعاتي حول غايات و مقاصد النظام التربوي . فنجده حاضرا بداخل المؤسسات ، ليس فقط بين الشباب و عالم الكبار ، لكن بين عالم الكبار أنفسهم ، الذين لا يتقاسمون نفس الايديولوجية و لا يتواجدون في نفس الساحة . أخيرا ، في قاعة الدرس ، مع كل يوم تولد مساومة هشة بين احترام الأشخاص – في احتياجاتهم ، إيقاعاتهم ، طرق تفكيرهم - و مستلزمات البرنامج ، و العمل ، و التقويم ، و الزمن ، و التعايش .
2.1)- بين الوحدة و التنوع
إن أساس التربية و التعليم هو قيادة المتعلم نحو مقاسمة ثقافة ما ، هو القبول بموروث ، هو الانصهار في قالب إذن ، هو ان نقبل بنوع من التنميط لمعارفه ، لطرقه في التفكير ، و الاحساس ، و التواصل . لقد تطورت المدرسة كألة عظيمة في توحيد المعيار في التاريخ ، و أحيانا لكي نجعل من الديمقراطية حاجة ممكنة ، نسهل تعايشا مبنيا على التوافق الحر و التعاقد الاجتماعي بدل العنف ، في بعض الأحيان لكي نستبدل الهمجيات البربرية القديمة بتركيبات توتاليتارية تراقب اولا النفوس . إن هذا الانشغال و هذا الهم في التوحيد أضعف شيئا فشيئا التنوع في انماط الحياة و العقل ، على حساب لغة مدرسية ، و فكر أورثودوكسي ، و عقلانية مثالية ، و حس و سلوك اخلاقي منظمين ، و ثقافة الجماهير .
من الواجب على النظام التربوي و المؤسسات و المدرسين البحث عن السبل المؤدية إلى الوحدة و التنوع ، سواء فيما يتعلق بالمسارات و تكوين التلاميذ أو الممارسات البيداغوجية ، القيم و التمثلات المهنية .
3.1) – بين التبعية و الاستقلالية
إن العلاقة البيداغوجية هي علاقة لا تماثلية في الأساس ، لأن المعلم يتحكم في المعرفة التي لا يزال المتعلم لم يتقنها بعد و التي لا يقدر في واقع الأمر الحكم على أحقيتها و منفعيتها . ينبني التعليم l’instruction في الغالب الأعم على الكلام المأثور : « إن هذا من أجل مصلحتك . ستشكرني عما قريب » . هل يوجد هناك ما هو أكثر تبعية و خضوعا من اتباع شخص ما بدون معرفة أين يقودك ؟ و الحال ان العلاقة البيداغوجية تمتلك في ذات الوقت ميلا في العمل نحو فقدان و ذوبان ذاتها : يحقق المعلم مبدئيا هدفه الاسمى حينما لا يحتاجه التلميذ . من التبعية إلى التعلم الذاتي ، فإن الطريق مفروش بالمتناقضات و الشكوك . المتناقضات مثل : من الصعب بالنسبة للمعلم ، و لو على مستوى الرمز ، الانتحار على الطريقة اليايانية hara – kiri ، والتملص من السلطة بكل اطمئنان ؛ كما يصعب على التلميذ مواجهة الحرية و المسؤولية ، و عدم التخفي و التستر وراء نظام الطفولة و الأمية . أمثلة للشكوك : لا نعرف أبدا بالضبط ما هي أحسن اللحظات و أفضلها للتقدم خطوة أخرى نحو التعلم الذاتي او الاستقلالية ، يمكننا أن نخطئ باستمرار بالزيادة تارة و بالنقصان تارة أخرى : أهو التهكم الطفولي أم منح المزيد من الثقة العمياء ؟ هل نلجأ إلى معاملة القاصرين أم معاملة الكبار ؟ هل نمارس الضغط و الاكراه أو نقبل حرية الاختيار ؟
إنك لتجدن نفس المتناقضات بين المهنيين . كونك مدرسا هو في الآن نفسه فاعل لتنظيم و حرفي ( أو مناضل ) في صمت . لا يوجد أي مدرس « وجد فائدة لنفسه » ، لكن بعضهم انخرط في علاقة بيداغوجية بكل قواه ، هواية ، مشروع ، أخلاقيات هي من صميم ذاته . هؤلاء المنخرطون لا يتوقفون إذن عن الكتابة و التأليف في دفاتر تحملاتهم و مشاريعهم التربوية الخاصة بهم . حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لديهم علاقة اكثر تبعية و ليونة اتجاه المقاصد التربوية الرسمية فهم يحتاجون لبعض من الحرية و الاستقلالية اثناء مهامهم ، دونما الاستطاعة و لا القدرة على الابتعاد كلية عن المناهج المقررة أو المطلوبة . في مستوى اخر ، نجد الفرق البيداغوجية و المؤسسات تبحر هي أيضا بكل وضوح بين الاستقلالية و التبعية إزاء الانظمة الأكثر اتساعا .
4.1)- بين الثابت و المتحول
كونك مربيا أو مدرسا هو معناه السماح للمتعلم بالتغيير بدون افتقاد لهويته ، هو المصالحة و التوفيق بين الثبات و التحول . يجب على النظام المدرسي ، أيضا ، أن يتجدد بدون خسارة ، ان يتشرب بمعارف جديدة ، بمناهج جديدة ، بتكنولوجيات جديدة و ذلك في ظل الموروث ، و لا يفهم من هذا أبدا أن كل ما أحدثناه فيما مضى لا فائدة ترجى منه . على صعيد المجتمع ، تتأرجح التربية و التعليم بين إعادة الانتاج و التغيير ، بين تلقين الموروث و التهيؤ للمجتمع الحديث ، بين الاستمرارية مع الماضي و استباق المستقبل . إن طبيعة المدرسة ذاتها توجد في ملتقى القديم و الجديد ، إن على مستوى الاشخاص أوعلى مستوى النظام ، فالمدرسة إذن هي موجودة في صلب الحوار المنبثق دائما بين المحافظين و الجدد .
5.1) – بين الانفتاح و الانغلاق
إن البنية المفتوحة موجودة إلى الآبد على حافة الهاوية : فائقة الانفتاح ، ستفقد هويتها ، انسجامها و تذوب في محيطها . فائقة الانغلاق ، ستصاب بالخناق ولا تتجدد وتتلاشى تبعا لذلك كمنظومة . و هذا ما بينه بياجي Piaget كتوازن يفترض البناء الدائم بين استيعاب للواقع حسب مخططاتي العملياتية و التفكيرية و التلاؤم لمخططاتي إزاء العالم ، بفضل التجربة .
التربية و التعليم ، والميديا أيضا ، هي أدوات للانفتاح و الانغلاق لمجتمع ما على حد سواء . إن المجتمعات ذي الثقافة غير الملقحة بأي تهجين تتحجر ، و المجتمعات المنفتحة في وجه جميع الرياح تصبح مجمعات ثقافية ، توابع للمجتمعات المهيمنة . الامر الذي يستدعي القيام باختيارات ملموسة جدا ، مثلا في طريقة تدريس التاريخ ، و الجغرافية ، و اللغات ، و الآداب ، و الفلسفة ، و حتى العلوم أيضا . ما بين الحمائية المفرطة و الانفتاح الزائد ، أين يوجود الخط الناصف ؟
و ينطبق الامر بالمثل على مؤسسة او فريق بيداغوجي . في غياب انغلاق إلى حد ما ، لا توجود هوية قوية ، و لا احساس بالانتماء ، و لا أمان . لكن في الوجه المقابل ...
و هذا يصح مفعوله كثيرا على الأشخاص ، المتعلمين او المدرسين .
6.1)- بين الانسجام و الصراع
تحمل التربية معها حلم التوافق والانسجام . ألا تجيز المعرفة والعقل والمحاججة التعايش السلمي و احتمال الفوارق و التضامن الذكي و مقاسمة القيم الانسانية ؟ وعلى الرغم من ذلك ، بدون صراعات ، ليس هناك وجود لتعلمات رئيسية ، ولا وجود لتغييرات مجتمعية . إن التناوب يتجسد دائما من طرف جزء آخر من ذاتي او من طرف شخص آخر الذي يقاوم إن لم يكن شخصيتي ، فهو يقاوم على الأقل أفكاري .
محكوم على المدرسة ان تحيا مع تضارب و تطاحن في القيم ، و المناهج ، و النظريات ، و المواقف المعرفية ، و السلطة . إنها تعمل على تجاوز هذه الاشياء مع العلم أن أشياء اخرى ستنبثق و ترى النور...
7.1)- بين المساواة و الاختلاف
هذا التناقض مما لا شك فيه هو الأكثر حداثة . إن الاهتمام والتركيز على تكافؤ الفرص و المساواة لم يكن حاضرا منذ بداية النظم المدرسية . في عصر الثورة الفرنسية ، ما كان هنالك أناس يطرحون موضوعا بصدد أن يتلقى كل أحد منهم تعليما متساويا نسبة لظروفه الاجتماعية الدقيقة . إن موضوع دمقرطة التعليم و تكافؤ الفرص لم يرا النور إلا بعدما حل القرن الواحد و العشرين فقط ، و في منتصفه الثاني بالأحرى . ننتظر من المدرسة اليوم أن تقدم نفس الثقافة الأساسية للجميع . كيف يمكن لنا التوفيق بين مقتضيات المساواة و تكافؤ الفرص مع التنوع الحاصل في المصالح ، و الكفاءات ، و مختلف أشكال الوعي ؟ هل نستطيع إحداث توجيهات متساوية ؟ هل من الممكن تنويع أشكال الامتياز و التميز ( بيرينو Perrenoud ، 1991 / b ) والاختيارات والشعب ، بدون استدخال الهراركيات المتضمنة ؟
كل ما يتمظهر على مستوى البرامج و البنيات المدرسية فهو متواجد في قاعة الدرس : هل يجب إعطاء نفس الدروس و الواجبات للجميع ؟ هل نقوم بتقييم الجميع بنفس المعايير ؟ هل نفرض على الأطفال نفس الايقاعات للعمل ، نفس انماط التواصل ، نفس القيم ، نفس العلاقات المحددة إزاء المعرفة ام نفرض ذلك على المراهقين بشتى اختلافاتهم ؟ و في حالة احترام هذه التفاوتات ، ألا نخاطر بسجن كل واحد داخل ظرفيته و نسعى في استفحال الميز أمام الثقافة ؟
***
في كل هذه المداخلات و السجلات ، نلاحظ ، حسب عبارة موران Morin ، « هجوم الاعداء في قلب الظواهر المنظمة » . يفهم من العدو بمعناه الواسع أي المضاد المتواجد بين قوى مختلفة ، سواء في عمق الأشخاص أو المنظمات ، سواء على مستوى القيم او بناءات متعددة للعالم ، مصالح او مشاريع . إنما الأعداء هم الأساس ، فهم يبعثون من جديد بلا توقف و مثل سيزيف Sisyphe ، أصبحنا محكومين على مطاردتهم كل صباح و مساء .