هـكـذا تكلــم .. السـارود
كان جميع المدرسات و المدرسين على صواب حينما انتقدوا بقوة « بيداغوجية الادماج » و هو النقد الذي امتزج أولا بالحدس الصادق و بالوعي الثاقب و تراكم الخبرة . ولقد صدق من قال : لا إدماج لمن لا موارد له . حدث هذا في الاسبوع الموالي فقط بعد الايام التدريبية للادماج .. أما ما تلا بعد ذلك ، فكان بالأحرى من باب التجريب على حد قولهم و هو ، عندنا في القسم ، أقرب إلى « المرامقة » إن صح التعبير . لكن الادماج يظل مع ذلك أحد الدعامات الرئيسية في عملية التعليم و التعلم و قد يصبح مع مرور الوقت بلا شك ترياقا ضد الغش في الامتحانات .
كمثل باقي المدرسين ، رأيت في هذا الادماج الذي حل مؤخرا بين أيدينا حلا قديما لمشكلات التعلم . إنني لا زلت أتذكر جيدا تلك الاوقات الجميلة والحلقات المنزلية التي كنا نتدارس فيها كتاب " أهيئ الامتحان " و إحساسنا رغم صغر سننا في ذاك الوقت بصعوبات التعلم قد زاد من قوتنا و عزمنا على الاستمرار و البقاء . بالطبع ، بعض الأطفال لا يقدرون على الادماج و عملياته الذهنية المعقدة ، فضلا عن غيابه من القاعة أصلا . فكان مصير التلاميذ في أوقات الامتحان – و لحد الساعة – متوقف فقط على الانسحاب أو الحفظ عن ظهر قلب . و لهذا السبب ، فإنه من غير المدهش أن نجد كثرة الهواتف « النقالة » تجوب أقسام الامتحانات آملا في إلتقاط أجوبة هنا و هناك عن بعد.
كيف ينبغي أن نتعامل مع « الدروس » ، أو بلغة العصر : الموارد ؟ هذا هو السؤال و هذا هو الرأسمال الموضوع أمامنا و الذي نمتلكه حقا ، و هو الرهان الوحيد الذي يجب التفكير فيه بكل جدية و أمانة لأنه الأصل لكل تعلم حقيقي و لكل إدماج مرتقب . المقصود هنا ليس هو إعطاء دروس بقدر ما يجب التحوط و الانتباه إلى برمترات أساسية و مهمة جدا تعمل على ضمان السير العادي للدرس و ترقى به إلى المقام المطلوب . إذن ، هو التفكير في استراتيجية جديدة تخدم الدرس و تقيه من العيوب و الاكراهات و ما أكثرها ..! و في هذا الباب ، لا بد من بذل بعض المجهوذات تكون صعبة في البداية حسب الرغبة و درجة الاتقان ؛ لكن من المؤكد أن هذه الصعوبات التقنية لن تدوم طويلا . نعم ، تقنيات « الحاسوب » او ما يصطلح عليه بلغة العصر : إدماج التكنولوجية الحديثة في التدريس TICE .
لم أكن أفكر ذات يوم في استدخال أية تكنولوجية كيفما كانت في دروسي الاعتيادية ، منذ أن عرفتها ، كانت « السبورة السوداء » هي رفيقة دربي ، و وسادتي أظرز عليها همومي وهموم الأطفال . لكن هذا السبورة الصماء أغلقت في وجهي كل حوار ، كادت تغرقني في « سودائية » قاتلة .. ، فلم أعد أفهم لماذا لا يفهم الأطفال دروسي التي أجري من ورائها و معها في آن ..؟! حتى جاء أخيرا الحاسوب « المخلص » فأنقد جزء كبيرا لا يستهان به من الحيراى و الضالين و المشتبه فيهم . و عادت البهجة مرة أخرى إلى القسم في آخر اللحظات ، و أصبح الكل في شوق لما سيقدمه الحاسوب الجديد من « فرجة ..»
في الحقيقة ، دامت هذه الفرجة / التجربة الفريدة فقط ثلاثة شهور بلا انقطاع على الرغم من الصعوبات و الاصطدامات مع الادارة التي بدت مرحبة و مهللة كعادتها في بداية كل مشروع ، و لكنها رفضته و تصدت له في الأخير بكل قوة و شؤم كبيرين . المهم ، هو أن الحاسوب اقتحم الفصل و قدم خدمة جليلة لهؤلاء الأطفال الأبرياء الذين لا يعرفون القراءة و الكتابة و الحساب وهم مقبلون على اجتياز الشهادة الابتدائية . لقد اكتشفوا الحروف الأبجدية الأجنبية من جديد و في أحلى « صورة » ، و تدربوا على القراءة الالكترونية ، و أغنوا معجمهم اللغوي عن طريق الصورة المباشرة و المعبرة « بدون تعليق » وفي الأخير ، عثروا على المعنى الضائع من وراء كل تعلم . كما أنجزوا أيضا مقرراتهم الدارسية بدون حدف او تعديل و لقد تعمدنا تعميق بعض المكتسبات السابقة و بعض المفاهيم المستعصية دون أدنى مشكلة ، لأن المادة المبرمجة كانت مطياعة تستجيب فورا للظرفية بدون تضييع الوقت . نعم ، إن استهلاك الوقت كان منصبا لا على ملء السبورة كالعادة ، و إنما في تتبع عن قرب عملية التحصيل لدى التلاميذ المستهدفين ، مراقبتهم و مساعدتهم هنا و الآن . إننا نشكر الحاسوب في صمت على ما قدم لنا من خدمة ، و ما كنا نعتقد يوما في غفلة منا أننا سوف نوظفه في غير مكانه اللائق به ، بل العكس هو الذي حصل تحت شهادة الأعيان. و « الحقيقة » كما يقال توجد عند الأطفال او الحمقى ..!
حينما كنت أخرج « التلفزة » من قاعة الاعلاميات المظلمة حيث كانت ترقد هناك حواسب .. كان الجميع ينظر إلي بعيون مفتوحة ، يتهامسون في صمت ، يتساءلون عن النبأ العظيم .. ما هذه التلفزة العجيبة ؟ و أعجب من ذلك هو الحاسوب على كتفي ، كان صغيرا جدا بحيث لم يلتفت إليه أحدا .. و هنا هو مكمن المفارقة العجيبة التي أفضت إلى ما أفضت إليه من تحولات بيداغوجية و ديداكتيكية عجيبة حدثت لأول مرة في قاعة الدرس ، و ليس في قاعة الاجتماعات المفتعلة كما يريدها بعض السادة . في مدة قصيرة ، و رغم انعدام الصبيب ، تغلبت على أصعب مشكلة تتجلى في غياب او فقدان الوسائل و المعدات التوضيحية للدرس اللغوي : صور ، و بطائق ، و مراجع ، و جذاذت ، و تمارين تكميلية ، و رسوم متحركة ، و أفلام ، ومقابلات ، و مشاهد حية ، و برامج مكتبية مختلفة ، الخ . إضافة إلى ذلك ، ففي الوقت الذي كنت أجهد نفسي بالبحث الذؤوب عن هذه « الموارد الرقمية » اللعينة في البيت لكي استخرج منها ما يمكن استخراجه ترقبا للدرس المقبل ، اعتقد الآخرون في غفلة منهم أن التلفزة سوف لن تقدم إلا الفرجة بمعنى « السهرة » على الطريقة المغربية . و هم محقون في ذلك ، حسب اعتقادهم ، طبعا !
ثم جاء المنع الاداري في استعمال الحاسوب الشخصي في القسم ( ..) ، ماعدا لأغراض « الموارد الرقمية » التي تصدر من الوزارة هذه المرة دون سابق إنذار . عن أي موارد رقمية يتحدثون ؟! ما المقصود بالموارد الرقمية ؟ وفوق هذا كله ، هل تم فعلا التحقق المباشر من هذه الموارد الرقمية من قبل الساهرين على عملية التدريس ؟ هل تتناسب و المعطيات الآنية لفعل التدريس هذا ؟ هل يعني هذا التخلي عن مقرراتنا و أهدافنا التوجيهية المعلنة لفائدة هذه الموارد الرقمية الخيالية .. زيادة على ذلك ، لا تتوفر المدرسة على كل الموارد المخصصة لباقي المستويات الاخرى ؟ و التي غالبا ما يتم رفعها إلى الجهات المعنية أثناء المناسبات الاحتفالية تماشيا مع التيمات التي تؤرخ للأحداث الوطنية و الدولية . إن هذا الخلط هو نوع من الاستبداد و سياسة غلق منافذ الخلق والابداع و تثمين المجهوذات للرفع من معنويات المدرس الفاعل الحقيقي و منهدس التعلمات .
ثم هذه « القاعة » ، و تسميتها بـ « الاعلاميات » جزافا هو خلط آخر أو حق أريد به باطل يجب التشهير به . متى كانت القاعة فضاء لتعلم الاعلاميات ؟ لا أحد يجيب . فإذا كان القائمون يفهمون من خلال ذلك مجرد الجلوس على كرسي و مشاهدة مقطع فيديو فحسب ، فإنهم قد أخطأوا الهدف الذي من أجله أقيمت هذه القاعة و الدورات التكوينية لـ جيني 1 و 2 واضحة في هذا الباب. فعلا ، عدة قضايا و مشكلات من هذا النوع قد تمت مناقشتها في الدورة الأخيرة لـ جيني 2 و خرجت بتوصيات واضحة في هذا المجال لكنها توصيات غير ملزمة و تظل مادة الاعلاميات كمادة تعلمية مستقلة الذات بالنسبة للتلاميذ مادة اختيارية . لكن المشكل المطروح في واقع الامر هو من نوع آخر .. لا صلة له لا بالاعلاميات كمادة و لا بمشروعيتها. و لا حتى مناقشة الكفاءات او المهارات في هذا الميدان ..
لقد تبين في الأخير مدى التخبط و الصعوبات الكبيرة التي تعترض رجال التعليم ليس في الاستيعاب المحض لأبجديات الحاسوب و تقنياته و الابحار في شبكته الامر الذي يتطلب معرفة بعض القواعد العامة و البسيطة على أية حال ، لكن ، عندما نريد « إدماج » هذه التقيات المتطورة و الحديثة في القسم خدمة للدرس اللغوي و القراءة و الكتابة و الرياضيات و التمارين و الدعم و التقويم و ما شابه ذلك ؛ انذاك ينكشف الغطاء و تتوضح الصورة بجلاء و تتوالى أمام الأعين جميع المقاربات السيكوبيداغوجية لتبدأ فورا عملية الانتقاء و الشذب و التدخلات المحكمة . فمن يظن أن « ساعة واحدة في " قاعة الاعلاميات " كافية لهذا الغرض و لهذا الكم الهائل من الاجراءات .. » ، فمن الواجب أن يعرف أن مثل هذا الزعم لا يصمد طويلا و لا يستند إلى حقيقة علمية ومنهج قويم و أن الواقع دائما يكذب مثل هذه المزاعم والادعاءات المجانية . و كما يعلم الجميع ، أود هنا التذكير بإحدى الاستراتجيات الخلاقة و النادرة جدا في ميدان التعليم و التعلم تتعلق بكيفية التعامل مع قاعة الاعلاميات تحديدا ؛ استراتيجية أثارت عدة تحديات و تساؤلات في جيني 2 . مازالت هذه الاشكالية مطروحة لحد الساعة لأنها ما وجدت و لن تجد حلا نظرا لصعوبة الموقف وغياب عنصرين مهمين : الرؤية و قلة الموارد . في كلمة واحدة ، تنص الاستراتيجية على تفعيل « السيناريو البيداغوجي » و مفاده هو أن قاعة الاعلاميات لا علاقة لها مع مادة الاعلاميات و لا مع تعلم الاعلاميات ، لكن تضمن أولا و قبل كل شيء السير العادي للدرس المدرج في البرامج الدراسية ، بتعبير آخر ، لا يمكن ولوج القاعة إلا إذا كان السيناريو/ البيداغوجي حاضرا و معدا من طرف المعني بالأمر يخدم مفصلا محوريا من الدرس ، أي في ارتباط مع التعلم مباشرة . هذه النقطة الاخيرة مهمة لأن « ساعة واحدة » لكل أستاذ في الأسبوع الواحد بغية دارسة الاعلاميات في قاعة الاعلاميات ، هذا هراااء .. في هراءءء .. كلام فارغ .
إذن فما العيب لمن أراد حقا من أن يجعل من « قسمه » قاعة ، بل فضاء للاعلاميات مستلهما روح الاستراتيجية المعلنة صراحة و مستغلا في ذلك جميع المعدات و الأجهزة – إن هي وجدت ( .. ) – التي سوف تعمل على تسهيل العمليات التقنية و كذا الحاجيات و الحلول المناسبة و الأنية لقضايا التعلم التي تخص المتعلمات و المتعلمين ؟! و وبهذا يصبح الأستاذ او الأستاذة منهدس تعلمات بكل هذه السهولة و البساطة على مستوى التصور و المنهج و الطريقة و يتحمل ، طبعا ، المسؤولية الفردية و الجماعية بين قوسين و كل ما يترتب عن ذلك من تهميش او إقصاء أو جهل أو سخرية . في النهاية ، أليس هذا هو المطلوب ؟ ألم نكن نتحدث طويلا عن روح المبادرة و المشاركة و نكران الذات و تغليب المصلحة العامة على الخصومات و الحسابات الضيقة ؟ وعن ماذا ..؟ هذا حلم حلم . و ما أروع البراعم لما تتفتح .. و الأحلام لما تتمرد معلنة عن صبح جديد .. أحلام الأطفال و هم لأول مرة يعانقون السارود لكي يروي لهم حكايات البطل المقهور .
باختصار ، لا أريد الحديث أكثر عن هذا الموضوع الخطير و الحساس و من تم الدفاع بقوة على موقف استدخال تكنولوجية الاعلام و الاتصال في التدريس نيابة عن الآخرين . للقضية دور حاسم لا نقاش فيه و بالأخص في هذه الظروف الراهنة التي يعرفها قطاع التعليم من تدبدب في المواقف و تغيير في السياسات الاصلاحية من حين إلى آخر بسبب بعض الأخطاء المرتكبة هنا و هناك و تبادل التهم أيضا . نعم نحن مع الدرس التقليدي المتعارف عليه ، لكن مع التلقين الحديث . و هذا هو موقفنا منذ البدايات . لا بد من الأخذ بالأسباب و المسببات و تطوير أسلوب التلقين أساسا و دعمه بالتكنولوجية المناسبة و المتاحة .. جانب مهم من عملية التلقين لا تترك للمتعلم و للمتعلمة فرصة لكي يستوعب الدرس ومساحة لترييض المفاهيم بسبب كثافة « الخطاب» ( تفسير كلمة غامضة و استبدالها بقاموس أكثر غموض !؟). و كذلك كيف يمكننا نسيان كل ذلك الوقت الذي نقضيه مع الطفل و نحن نحثه على الانتباه و الانصات و التركيز و التأذب و المشاركة و بذل المجهوذات و تفقد الأحوال و طرد السأم و الرتابة و تقويم السلوكات و معاقبة المخالفين ؛ ثم نبدأ فورا في كتابة الملخصات بعد اقتسام السبورة .. عمليات كثيرة و مكلفة جدا من حيث الجهذ و التكلفة غير مضمونة النتائج يقينا. إن الوعي وحده بهذه النقائص هو مجرد تحصيل حاصل لا يكفي لتصحيح الوضع . لا بد من تغييره و لن يتأتى هذا إلا إذا انسحب الاستاذ او الأستاذة من قاعة الدرس و ترك مكانته الأستاذية « للآلة » تدبر أمره بصورة عقلانية وبكفاءة عالية : تنظم مادته التعلمية تنظيما محكما ، وتخزن معلوماته الثمينة و يسترجعها متى شاء و في أي وقت أراد بلا مشقة ، كما أن هذه الآلة تزوده ببرامج مكتبية رائعة و أخرى ذكية تضفي على « الدرس » طابعا متميزا و شيقا حقا يحفظ للمادة بريقها و قوتها الايحائية .. و التواصلية . و هذا جانب تحفيزي مهم . و لا ننسى أيضا تلك الوفرة الملفتة للنظر في وسائل الايضاح الغائبة تماما اثناء التلقين ، الأمر الذي قد يلحق تشوها في بناء المفاهيم و التصورات أثناء إرساء « المعنى » في ظل غياب هذه الوسائل السمعية – البصرية. المهم هو جعل المتعلم ينخرط في الدرس و نبحث له في المواقع الألكترونية العالمية عما تفضل به بعض رجال التربية مشكورين . و هذا أيضا حلم جميل .. طوباوية .. إيديولوجية العصر بامتياز حيث يسعى كل واحد إلى الاستفادة من ثمرته التكنولوجية المحققة و بناء مستقبل الغد بدون تردد. نتمنى أن تكون ثقافة « الصورة » حاضرة في القسم بجانب السبورة و ثقافة السارود في خدمة التربية . و العبرة بخواتم الامور بعيدا عن كل ديماغوجية .
مبشــور مـحمـد
يونـو 2013
كان جميع المدرسات و المدرسين على صواب حينما انتقدوا بقوة « بيداغوجية الادماج » و هو النقد الذي امتزج أولا بالحدس الصادق و بالوعي الثاقب و تراكم الخبرة . ولقد صدق من قال : لا إدماج لمن لا موارد له . حدث هذا في الاسبوع الموالي فقط بعد الايام التدريبية للادماج .. أما ما تلا بعد ذلك ، فكان بالأحرى من باب التجريب على حد قولهم و هو ، عندنا في القسم ، أقرب إلى « المرامقة » إن صح التعبير . لكن الادماج يظل مع ذلك أحد الدعامات الرئيسية في عملية التعليم و التعلم و قد يصبح مع مرور الوقت بلا شك ترياقا ضد الغش في الامتحانات .
كمثل باقي المدرسين ، رأيت في هذا الادماج الذي حل مؤخرا بين أيدينا حلا قديما لمشكلات التعلم . إنني لا زلت أتذكر جيدا تلك الاوقات الجميلة والحلقات المنزلية التي كنا نتدارس فيها كتاب " أهيئ الامتحان " و إحساسنا رغم صغر سننا في ذاك الوقت بصعوبات التعلم قد زاد من قوتنا و عزمنا على الاستمرار و البقاء . بالطبع ، بعض الأطفال لا يقدرون على الادماج و عملياته الذهنية المعقدة ، فضلا عن غيابه من القاعة أصلا . فكان مصير التلاميذ في أوقات الامتحان – و لحد الساعة – متوقف فقط على الانسحاب أو الحفظ عن ظهر قلب . و لهذا السبب ، فإنه من غير المدهش أن نجد كثرة الهواتف « النقالة » تجوب أقسام الامتحانات آملا في إلتقاط أجوبة هنا و هناك عن بعد.
كيف ينبغي أن نتعامل مع « الدروس » ، أو بلغة العصر : الموارد ؟ هذا هو السؤال و هذا هو الرأسمال الموضوع أمامنا و الذي نمتلكه حقا ، و هو الرهان الوحيد الذي يجب التفكير فيه بكل جدية و أمانة لأنه الأصل لكل تعلم حقيقي و لكل إدماج مرتقب . المقصود هنا ليس هو إعطاء دروس بقدر ما يجب التحوط و الانتباه إلى برمترات أساسية و مهمة جدا تعمل على ضمان السير العادي للدرس و ترقى به إلى المقام المطلوب . إذن ، هو التفكير في استراتيجية جديدة تخدم الدرس و تقيه من العيوب و الاكراهات و ما أكثرها ..! و في هذا الباب ، لا بد من بذل بعض المجهوذات تكون صعبة في البداية حسب الرغبة و درجة الاتقان ؛ لكن من المؤكد أن هذه الصعوبات التقنية لن تدوم طويلا . نعم ، تقنيات « الحاسوب » او ما يصطلح عليه بلغة العصر : إدماج التكنولوجية الحديثة في التدريس TICE .
لم أكن أفكر ذات يوم في استدخال أية تكنولوجية كيفما كانت في دروسي الاعتيادية ، منذ أن عرفتها ، كانت « السبورة السوداء » هي رفيقة دربي ، و وسادتي أظرز عليها همومي وهموم الأطفال . لكن هذا السبورة الصماء أغلقت في وجهي كل حوار ، كادت تغرقني في « سودائية » قاتلة .. ، فلم أعد أفهم لماذا لا يفهم الأطفال دروسي التي أجري من ورائها و معها في آن ..؟! حتى جاء أخيرا الحاسوب « المخلص » فأنقد جزء كبيرا لا يستهان به من الحيراى و الضالين و المشتبه فيهم . و عادت البهجة مرة أخرى إلى القسم في آخر اللحظات ، و أصبح الكل في شوق لما سيقدمه الحاسوب الجديد من « فرجة ..»
في الحقيقة ، دامت هذه الفرجة / التجربة الفريدة فقط ثلاثة شهور بلا انقطاع على الرغم من الصعوبات و الاصطدامات مع الادارة التي بدت مرحبة و مهللة كعادتها في بداية كل مشروع ، و لكنها رفضته و تصدت له في الأخير بكل قوة و شؤم كبيرين . المهم ، هو أن الحاسوب اقتحم الفصل و قدم خدمة جليلة لهؤلاء الأطفال الأبرياء الذين لا يعرفون القراءة و الكتابة و الحساب وهم مقبلون على اجتياز الشهادة الابتدائية . لقد اكتشفوا الحروف الأبجدية الأجنبية من جديد و في أحلى « صورة » ، و تدربوا على القراءة الالكترونية ، و أغنوا معجمهم اللغوي عن طريق الصورة المباشرة و المعبرة « بدون تعليق » وفي الأخير ، عثروا على المعنى الضائع من وراء كل تعلم . كما أنجزوا أيضا مقرراتهم الدارسية بدون حدف او تعديل و لقد تعمدنا تعميق بعض المكتسبات السابقة و بعض المفاهيم المستعصية دون أدنى مشكلة ، لأن المادة المبرمجة كانت مطياعة تستجيب فورا للظرفية بدون تضييع الوقت . نعم ، إن استهلاك الوقت كان منصبا لا على ملء السبورة كالعادة ، و إنما في تتبع عن قرب عملية التحصيل لدى التلاميذ المستهدفين ، مراقبتهم و مساعدتهم هنا و الآن . إننا نشكر الحاسوب في صمت على ما قدم لنا من خدمة ، و ما كنا نعتقد يوما في غفلة منا أننا سوف نوظفه في غير مكانه اللائق به ، بل العكس هو الذي حصل تحت شهادة الأعيان. و « الحقيقة » كما يقال توجد عند الأطفال او الحمقى ..!
حينما كنت أخرج « التلفزة » من قاعة الاعلاميات المظلمة حيث كانت ترقد هناك حواسب .. كان الجميع ينظر إلي بعيون مفتوحة ، يتهامسون في صمت ، يتساءلون عن النبأ العظيم .. ما هذه التلفزة العجيبة ؟ و أعجب من ذلك هو الحاسوب على كتفي ، كان صغيرا جدا بحيث لم يلتفت إليه أحدا .. و هنا هو مكمن المفارقة العجيبة التي أفضت إلى ما أفضت إليه من تحولات بيداغوجية و ديداكتيكية عجيبة حدثت لأول مرة في قاعة الدرس ، و ليس في قاعة الاجتماعات المفتعلة كما يريدها بعض السادة . في مدة قصيرة ، و رغم انعدام الصبيب ، تغلبت على أصعب مشكلة تتجلى في غياب او فقدان الوسائل و المعدات التوضيحية للدرس اللغوي : صور ، و بطائق ، و مراجع ، و جذاذت ، و تمارين تكميلية ، و رسوم متحركة ، و أفلام ، ومقابلات ، و مشاهد حية ، و برامج مكتبية مختلفة ، الخ . إضافة إلى ذلك ، ففي الوقت الذي كنت أجهد نفسي بالبحث الذؤوب عن هذه « الموارد الرقمية » اللعينة في البيت لكي استخرج منها ما يمكن استخراجه ترقبا للدرس المقبل ، اعتقد الآخرون في غفلة منهم أن التلفزة سوف لن تقدم إلا الفرجة بمعنى « السهرة » على الطريقة المغربية . و هم محقون في ذلك ، حسب اعتقادهم ، طبعا !
ثم جاء المنع الاداري في استعمال الحاسوب الشخصي في القسم ( ..) ، ماعدا لأغراض « الموارد الرقمية » التي تصدر من الوزارة هذه المرة دون سابق إنذار . عن أي موارد رقمية يتحدثون ؟! ما المقصود بالموارد الرقمية ؟ وفوق هذا كله ، هل تم فعلا التحقق المباشر من هذه الموارد الرقمية من قبل الساهرين على عملية التدريس ؟ هل تتناسب و المعطيات الآنية لفعل التدريس هذا ؟ هل يعني هذا التخلي عن مقرراتنا و أهدافنا التوجيهية المعلنة لفائدة هذه الموارد الرقمية الخيالية .. زيادة على ذلك ، لا تتوفر المدرسة على كل الموارد المخصصة لباقي المستويات الاخرى ؟ و التي غالبا ما يتم رفعها إلى الجهات المعنية أثناء المناسبات الاحتفالية تماشيا مع التيمات التي تؤرخ للأحداث الوطنية و الدولية . إن هذا الخلط هو نوع من الاستبداد و سياسة غلق منافذ الخلق والابداع و تثمين المجهوذات للرفع من معنويات المدرس الفاعل الحقيقي و منهدس التعلمات .
ثم هذه « القاعة » ، و تسميتها بـ « الاعلاميات » جزافا هو خلط آخر أو حق أريد به باطل يجب التشهير به . متى كانت القاعة فضاء لتعلم الاعلاميات ؟ لا أحد يجيب . فإذا كان القائمون يفهمون من خلال ذلك مجرد الجلوس على كرسي و مشاهدة مقطع فيديو فحسب ، فإنهم قد أخطأوا الهدف الذي من أجله أقيمت هذه القاعة و الدورات التكوينية لـ جيني 1 و 2 واضحة في هذا الباب. فعلا ، عدة قضايا و مشكلات من هذا النوع قد تمت مناقشتها في الدورة الأخيرة لـ جيني 2 و خرجت بتوصيات واضحة في هذا المجال لكنها توصيات غير ملزمة و تظل مادة الاعلاميات كمادة تعلمية مستقلة الذات بالنسبة للتلاميذ مادة اختيارية . لكن المشكل المطروح في واقع الامر هو من نوع آخر .. لا صلة له لا بالاعلاميات كمادة و لا بمشروعيتها. و لا حتى مناقشة الكفاءات او المهارات في هذا الميدان ..
لقد تبين في الأخير مدى التخبط و الصعوبات الكبيرة التي تعترض رجال التعليم ليس في الاستيعاب المحض لأبجديات الحاسوب و تقنياته و الابحار في شبكته الامر الذي يتطلب معرفة بعض القواعد العامة و البسيطة على أية حال ، لكن ، عندما نريد « إدماج » هذه التقيات المتطورة و الحديثة في القسم خدمة للدرس اللغوي و القراءة و الكتابة و الرياضيات و التمارين و الدعم و التقويم و ما شابه ذلك ؛ انذاك ينكشف الغطاء و تتوضح الصورة بجلاء و تتوالى أمام الأعين جميع المقاربات السيكوبيداغوجية لتبدأ فورا عملية الانتقاء و الشذب و التدخلات المحكمة . فمن يظن أن « ساعة واحدة في " قاعة الاعلاميات " كافية لهذا الغرض و لهذا الكم الهائل من الاجراءات .. » ، فمن الواجب أن يعرف أن مثل هذا الزعم لا يصمد طويلا و لا يستند إلى حقيقة علمية ومنهج قويم و أن الواقع دائما يكذب مثل هذه المزاعم والادعاءات المجانية . و كما يعلم الجميع ، أود هنا التذكير بإحدى الاستراتجيات الخلاقة و النادرة جدا في ميدان التعليم و التعلم تتعلق بكيفية التعامل مع قاعة الاعلاميات تحديدا ؛ استراتيجية أثارت عدة تحديات و تساؤلات في جيني 2 . مازالت هذه الاشكالية مطروحة لحد الساعة لأنها ما وجدت و لن تجد حلا نظرا لصعوبة الموقف وغياب عنصرين مهمين : الرؤية و قلة الموارد . في كلمة واحدة ، تنص الاستراتيجية على تفعيل « السيناريو البيداغوجي » و مفاده هو أن قاعة الاعلاميات لا علاقة لها مع مادة الاعلاميات و لا مع تعلم الاعلاميات ، لكن تضمن أولا و قبل كل شيء السير العادي للدرس المدرج في البرامج الدراسية ، بتعبير آخر ، لا يمكن ولوج القاعة إلا إذا كان السيناريو/ البيداغوجي حاضرا و معدا من طرف المعني بالأمر يخدم مفصلا محوريا من الدرس ، أي في ارتباط مع التعلم مباشرة . هذه النقطة الاخيرة مهمة لأن « ساعة واحدة » لكل أستاذ في الأسبوع الواحد بغية دارسة الاعلاميات في قاعة الاعلاميات ، هذا هراااء .. في هراءءء .. كلام فارغ .
إذن فما العيب لمن أراد حقا من أن يجعل من « قسمه » قاعة ، بل فضاء للاعلاميات مستلهما روح الاستراتيجية المعلنة صراحة و مستغلا في ذلك جميع المعدات و الأجهزة – إن هي وجدت ( .. ) – التي سوف تعمل على تسهيل العمليات التقنية و كذا الحاجيات و الحلول المناسبة و الأنية لقضايا التعلم التي تخص المتعلمات و المتعلمين ؟! و وبهذا يصبح الأستاذ او الأستاذة منهدس تعلمات بكل هذه السهولة و البساطة على مستوى التصور و المنهج و الطريقة و يتحمل ، طبعا ، المسؤولية الفردية و الجماعية بين قوسين و كل ما يترتب عن ذلك من تهميش او إقصاء أو جهل أو سخرية . في النهاية ، أليس هذا هو المطلوب ؟ ألم نكن نتحدث طويلا عن روح المبادرة و المشاركة و نكران الذات و تغليب المصلحة العامة على الخصومات و الحسابات الضيقة ؟ وعن ماذا ..؟ هذا حلم حلم . و ما أروع البراعم لما تتفتح .. و الأحلام لما تتمرد معلنة عن صبح جديد .. أحلام الأطفال و هم لأول مرة يعانقون السارود لكي يروي لهم حكايات البطل المقهور .
باختصار ، لا أريد الحديث أكثر عن هذا الموضوع الخطير و الحساس و من تم الدفاع بقوة على موقف استدخال تكنولوجية الاعلام و الاتصال في التدريس نيابة عن الآخرين . للقضية دور حاسم لا نقاش فيه و بالأخص في هذه الظروف الراهنة التي يعرفها قطاع التعليم من تدبدب في المواقف و تغيير في السياسات الاصلاحية من حين إلى آخر بسبب بعض الأخطاء المرتكبة هنا و هناك و تبادل التهم أيضا . نعم نحن مع الدرس التقليدي المتعارف عليه ، لكن مع التلقين الحديث . و هذا هو موقفنا منذ البدايات . لا بد من الأخذ بالأسباب و المسببات و تطوير أسلوب التلقين أساسا و دعمه بالتكنولوجية المناسبة و المتاحة .. جانب مهم من عملية التلقين لا تترك للمتعلم و للمتعلمة فرصة لكي يستوعب الدرس ومساحة لترييض المفاهيم بسبب كثافة « الخطاب» ( تفسير كلمة غامضة و استبدالها بقاموس أكثر غموض !؟). و كذلك كيف يمكننا نسيان كل ذلك الوقت الذي نقضيه مع الطفل و نحن نحثه على الانتباه و الانصات و التركيز و التأذب و المشاركة و بذل المجهوذات و تفقد الأحوال و طرد السأم و الرتابة و تقويم السلوكات و معاقبة المخالفين ؛ ثم نبدأ فورا في كتابة الملخصات بعد اقتسام السبورة .. عمليات كثيرة و مكلفة جدا من حيث الجهذ و التكلفة غير مضمونة النتائج يقينا. إن الوعي وحده بهذه النقائص هو مجرد تحصيل حاصل لا يكفي لتصحيح الوضع . لا بد من تغييره و لن يتأتى هذا إلا إذا انسحب الاستاذ او الأستاذة من قاعة الدرس و ترك مكانته الأستاذية « للآلة » تدبر أمره بصورة عقلانية وبكفاءة عالية : تنظم مادته التعلمية تنظيما محكما ، وتخزن معلوماته الثمينة و يسترجعها متى شاء و في أي وقت أراد بلا مشقة ، كما أن هذه الآلة تزوده ببرامج مكتبية رائعة و أخرى ذكية تضفي على « الدرس » طابعا متميزا و شيقا حقا يحفظ للمادة بريقها و قوتها الايحائية .. و التواصلية . و هذا جانب تحفيزي مهم . و لا ننسى أيضا تلك الوفرة الملفتة للنظر في وسائل الايضاح الغائبة تماما اثناء التلقين ، الأمر الذي قد يلحق تشوها في بناء المفاهيم و التصورات أثناء إرساء « المعنى » في ظل غياب هذه الوسائل السمعية – البصرية. المهم هو جعل المتعلم ينخرط في الدرس و نبحث له في المواقع الألكترونية العالمية عما تفضل به بعض رجال التربية مشكورين . و هذا أيضا حلم جميل .. طوباوية .. إيديولوجية العصر بامتياز حيث يسعى كل واحد إلى الاستفادة من ثمرته التكنولوجية المحققة و بناء مستقبل الغد بدون تردد. نتمنى أن تكون ثقافة « الصورة » حاضرة في القسم بجانب السبورة و ثقافة السارود في خدمة التربية . و العبرة بخواتم الامور بعيدا عن كل ديماغوجية .
مبشــور مـحمـد
يونـو 2013
عدل سابقا من قبل مبشور في 27/6/2013, 01:29 عدل 1 مرات (السبب : تصويب)