ما معنى « الاهتمام »
عند الطفـل
John DEWEY
1897
كثيرا ما يقال أن المذهب الذي يبني التربية على الاهتمام l’intérêt يستبدل الهوى ، التجربة الخشنة و الفوضوية للطفل ليحل محلها التجربة المنظمة والناضجة للبالغ . ما قلناه يرد الأمور إلى نصابها . يمتلك الطفل بطبيعة الحال إهتمامات ترجع في جزء منها إلى درجة النمو الذي حققه ، جزء منها يرجع للعادات التي اكتسبها والبيئة التي يعيش فيها . هذه الاهتمامات فظة نسبيا ، وغير مستقرة ، وعابرة . و مع ذلك فهي تمثل كل ما هو مهم بالنسبة للطفل ؛ إنها القوى الوحيدة التي يمكن أن يرتكز عليها المربي ؛ هي بمثابة نقط الانطلاق ، ما يوجد لدى الطفل من نشاط و حيوية ، بداية . هل يجب على المربي أن يأخذها بعين الاعتبارعلى أساس نقط الوصول ، كشيء بات محسوما ، انتهى أمره ؟ ام استوجب عليه البحث في إشباعها والاحتفاظ بها كما هي ؟ مطلقا ، و من يستعملها بهذه الطريقة يكون الأسوأ عدو لنظرية الاهتمام . لأن مدلول الاهتمام يكمن كله في اين يتجه هذا الاهتمام ، في التجارب الجديدة التي يجعلها ممكنة ، و في القدرات الجديدة التي يخلقها . الاندفاعات وعادات الطفل ينبغي إذن ان تخضع للتأويل . البيداغوجي الحقيقي هو بالضبط ذلك الذي ، بفضل علمه وخبرته ، قادرعلى رؤية في هذه الاهتامات ليس فقط نقط انطلاق للتربية ، ولكن المهمات و الوظائف التي تحتوي على إمكانات والمؤدية إلى هدف مثالي . هنا في هذا المكان حيث يتدخل الاهتمام كما وصفه هربارت : أولا، اهتمام الطفل الصغير الذي يحب التحدث عن نفسه و عن أصدقائه ، و عن تجاربه و عن احداث كبيرة . إلى أي شيء يميل هذا الاهتمام ؟ ما يمكن أن يصير حقا الهدف الذي يجري من ورائه ؟ ثم تأتي الحاجة إلى أن يخربش ، يضع منازل ، و كلاب ، وشخصيات . عماذا يبحث هذا الاهتمام ؟ وهلم جرا . الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ، ليس فقط يعني معرفة سيكولوجية الطفل ، بل هو أيضا، وفي الوقت نفسه ، إدراك القيمة العالية للحكمة الكبيرة ، بمعارفها التاريخية ، بعلمها وموارد الفن . المناهج الدراسية بكل تحسيناتها ومداها و أبعادها ، هو جواب على هذا السؤال : ماذا تعني القدرات التي تستيقظ تدريجيا عند الطفل؟
للدفع بالأذواق واحتياجات الطفل نحو النضج ، لا شك انه يلزمنا الوقت . إننا نصل إلى ذلك خطوة خطوة . في الممارسة التربوية ، الحاضر هو الذي يهم و يجب على المعلم في الحين أن يرى ماذا يمكنه ان يفعل بهذا الاهتمام الماثل امامه . و بالتالي ، الاهتمام بالخربشة يجب أن يستخدم فورا ، ويجب ان نستخلص منه كل خير ممكن دون تأخير ، دونما الاشتغال بالحدث خاصة حيث أن في عشر سنوات ، سيصبح التلميذ خطاطا calligraphie أو يهتم بالكتب ؛ يجب استخدام هذا الاهتمام بطريقة تفتح له آفاقا جديدة و تنزعه من حالته البدائية المتخلفة . يمكننا القول أن الواجب الرئيس للمربي هو استخدام هذا الاهتمام وهذه العادات من أجل أن يفعل بهما شيئا طافحا بالنشاط ، أوسع ما يمكن ، وأكثر انضباطا، وأمرا منظما . ومن يعرف دائما كيف يستخدم كمثل هذا الاهتمام سيظل دائما هو السيد . في الواقع ، الاهتمام هو شيء متحرك ، و سيرورة نماء ، و إغناء حيوي ، وامتلاك طاقة . فكيف نسلك للرفع من حجم المعارف و القدرات المعرفية النشطة للطفل ؟ في هذا يكمن فن البيداغوجية . ولن يكون ضد ذلك . لكن ومع ذلك فالمناقشة السابقة تبرهن على أنه يجب علينا التمييز بين الاهتمام المباشرة – حيث تتحد الوسائل والغايات عن كثب ، أو على الأقل في تقارب كبير – والاهتمام غير المباشر ، الذي يتفتح في لحظة جد متقدمة من الحياة النفسية . في هذه المرحلة ، يمكن للأطفال ربط اعمالهم بوعي و تفسير بعضها البعض .
معرفة البالغ و معرفة الطفل
المعرفة الإنسانية كما يتصورها العاِلم ، ليست لها اية علاقة مباشرة مع التجربة الفعلية للطفل . فهو يتموقع ما وراء أفقها . نسيانه بهذه الطريقة ، هو تعريض التربية لخطر ليس في النظرية من شيء . في الممارسة العملية ، الجميع يعاني من هذا الامر . المرجع و المعلم يتنافسان لكي يقدما للطفل المواد العلمية كما نظر إليها العالم le savant . إذا غيرنا أو عدلنا ، فذلك فقط من أجل القضاء على بعض الصعوبات الفنية و من اجل تقريب الموضوعات لذكاء الصبيان . لكننا لا نترجم هذه المواد بتعابير حية و صادقة ، وإنما نقدمها كنوع من البديل ، كإضافة مظهرية بعيدة تماما عن الحياة و عن تجربة الطفل .
وينجم عن ذلك ثلاث عواقب نموذجية و كارثية الأولى ، هو غياب ربط عضوي بما شاهده الطفل في السابق ، و أحس به ، و أحبه ، الذي يجعل من المعرفة المكتسبة شيء شكلاني صرف و رمزي . بمعنى من المعاني ، لا يمكننا أن نفعل الكثير إزاء ما هو شكلاني و رمزي ، لأن الشكل، و الرمز ، يستخدمان في خدمة مناهج البحث وامتلاك الحقيقة . هذه أدوات التي بفضلها يتقدم الفرد إلى الأمام بكل امن و حماية كاملتين نحو المجهول . لكن هذه النتيجة لم يتم الحصول عليها إلا عندما استنفد الرمز أحقيته في واقع الامر ، بمعنى آخر يلخص ويستبدل التجربة التي عاشها الفرد سابقا . الرمز الآتي من الخارج ، والذي لم ينبثق من نشاط سابق ، هو شيء فارغ و سيبقى كذلك ، لا طائل منه و ميت . كل فعل ، سواء أكان ينتمي للحساب ، للجغرافيا أو النحو ، و الذي لم يرتبط بما يهتم حقيقة و في العمق بحياة الطفل ، فإنه يحتل مكانة مغتصبة . هذه ليست حقيقة واقعية ، ولكنها ببساطة اسم واقع يمكنه أن يكون خاضعا للتجريب فيما إذا كانت الشروط المنشودة قد تحققت . والحالة هاته ، لا يمكن أن تتحقق هذه الشروط عندما نقدم للطفل فجأة معارف الآخرين و نطلب منه مجهودا لكي يتملكها بدوره . ما نود تدريسه إياه يبقى في عداد الهيروغليفي ؛ قد يعني شيئا آخر لو كان الطفل يمتلك فقط المفتاح . ولكن بما أن المفتاح كان مفقودا، فالحدث ليس إلا فضول من شأنه ان يبعثر العقل ، نوع من الثقل المميت .
النتيجة المؤسفة الثانية للبيداغوجية التي ندرسها ، وهو غياب الأسباب و البواعث . ليس فقط انه ينعدم في ذهنية الطفل أي حدث ، و اي حقيقة من طبيعة أن تستوعب ، أن تتبنى أحداثا و تطورات جديدة ، ولكن لا يوجد هنالك أي حاجة ، أي شهية ، و أي مطلب لهذه الحقائق . في الاتجاه المعاكس، عندما نأخذ علم النفس بعين الاعتبار و لما ندرك معرفة الاتجاهات والأنشطة المتطورة لدى الطفل ، حينذاك نكتشف عنده بسهولة العائق الفكري، العملي أو الأخلاقي، الذي ينبغي إزالته أو القضاء عليه ، بحيث يتسنى الطفل بأن يصبح سيد الموقف الذي نريد أن يتعلمه . هذه الحاجة le besoin توفر على وجه التحديد باعث للتعلم le motif . بالفعل ، إذا كان للطفل هدف شخصي ، من الطبيعي ان يندفع للبحث عن الوسائل لتحقيقه . عندما تكون المعارف قيد الدرس و الاكتساب مقدمة في شكل الدرس الذي يجب تعلمه كدرس، يوجد هناك غياب كامل لعملية الربط بين الاحتياجات والهدف . ويترتب عن هذا الغياب و النقص الأولي للبواعث و الأسباب تعليم ميكانيكي وفاقد للحياة . هنا حيث توجد حياة و تطور عضوي دائما نجد فعل و ردود الفعل ؛ هناك عرض و طلب ؛ طلب من جانب العقل و عرض من جانب مناهج الدراسات .
إشارة إلى النتيجة المؤسفة الثالثة ، هو أن المواضيع الأكثر علمية ومنطقية في التنظيم تفقد بالتحديد خصائصها عندما نقدمها للطفل بطريقة ظاهرية و مفتقرة للأصالة . في الواقع ، لا بد للمعلم بالضرورة أن يخضعها لتحولات لكي يجعلها في متناول دماغ الطفل . ماذا يحدث ؟ ما يشكل في الحقيقة قيمة كبرى بالنسبة للعالم او المنطقي فقد تم التخلي عنه . الامر الذي كاد ان يحدث نشاطا في العقل وينظمه ها هو قد اختفي أو احتجب . لا نطور بشكل كاف و متين القدرة على المنطق ، وملكة التجريد و التعميم . لقد تم إفراغ الموضوع من قيمته المنطقية ، القيمة الوحيدة التي كان ينبغي أن نحكم على انها مهمة ، أصبحت الآن مجرد مسألة ذاكرة . هذا هو تناقض النظام : لا يكتسب الطفل الامتيازات و المحاسن التي من المعقول ان يقدمها منطق الكبار، و لا تلك التي كان سيستمدها من احتياجاته الفطرية ، و ميولاته الغريزية . منطق الطفل تم تشويه وإضماره ، ويمكننا أن نعتبر أنفسنا محظوظين لو انه ما اكتسب نقيض العلم ، نوع من الحثالة التافهة و المترهلة لما كان يعتبر فيما مضى المعرفة الحية ، التذكر الفاسد أصله لما كان ينظر إليه فيما سبق تجربة حقيقية للأشياء .
ولكن هذا ليس كل شيء. لا يمكن ابدا تجاهل مقتضيات علم النفس مع الإفلات من العقاب. اطردهم من الباب، يأتونك من النافذة . دائما وفي كل مكان لا بد من استخدام البواعث و الاسباب ، إجراء ارتباطات بين العقل وما نريده من تغذيته . لا مجال في التشكيك او الاستغناء عن البواعث و عن الارتباطات ؛ السؤال الكبير، نتيجة ذلك ، هو معرفة ما إذا كانت هذه الأخيرة ( أي الارتباطات ) تنطلق بشكل عضوي من الذات le sujet عندما يوضع في علاقة مع العقل l’esprit او فيما إذا، عكس ذلك ، يتم استيرادها ميكانيكيا من الخارج .
إذا كان موضوع الدرس يحتل حقا مكانة مناسبة من أجل المساهمة في توسع مدارك الطفل، إذا كان يتصل داخليا ببعض تصرفاته و أفعاله ، و أفكاره ، و معاناته و أنه يسهل نموه في المستقبل ويرفع من استجابته ، إذن فهو لا يحتاج بأن يهتم بالتفتيش عن المخارج أو خدع المناهج لجعل هذا الموضوع شيقا . بالعكس ، كل موضوع آت من الخارج و ليس لديه ربط حقيقي مع الحياة ، كل موضوع تملكه الطفل من قبيل بواعث وأسباب غريبة عنه ، فإنه تنعدم فيه هذه القيمة التي تحدثنا عنها . لهذا السبب نجد انفسنا مضطرين إلى اللجوء إلى تمارين مصطنعة ، إلى حيل في الاجراءات أحيانا سخيفة لشد انتباه الطفل .
فإنه من المفيد النظر فيما يحدث حينما نعتقد في إمكانية إعطاء للموضوع معنى سيكولوجيا عن طريق الوسائل المظهرية . صحيح أن الإدمان ينتج عنه الاشباع ، غير أنه ينتج أيضا نوعا من الارتباط . فنحن يمكننا أن نعتاد على سلسلة ونأسف من سحبها منا . بل هذه حقيقة أن ، عن طريق العادة ، نأتي على احتضان ما نشعر به قبيحا لأول انطباع . لأن الأنشطة غير السارة التي كانت لا تملك مدلولات بالنسبة لنا ، أصبحت مع مرور الوقت أكثر أو أقل لطفا. يمكن لعقلنا أيضا أن يشتغل في الروتين و العمل الميكانيكي إذا كان يتواجد في ظروف تتطلب مثل هذا النشاط باستثناء أنشطة أخرى . كثيرا ما نسمع الناس و هم يدافعون عن التمارين المملة و الفارغة على الاطلاق في القول أن الأطفال يجدون في ذلك الاهتمام الكثير. و هذا محزن و مقلق على وجه التحديد ؛ لأن عقولهم ، التي فطمناها من نشاط عادي و التي تفقد ذوق التمارين المتلائمة مع الطبيعة الحقيقية ، تتدهور إلى حد أنها تهتم بالأشياء الضيقة والحقيرة . القانون الحقيقي للعقل ، هو العثور على الارتياح في ممارسته الذاتية ، وإذا لم نوفر له عملا كافيا و كاملا من حيث المعانى و المدلولات ، فإنه سيحاول تلبية ذلك بقدر ما يستطيع إليه سبيلا ، و في أغلب الأحيان يتمكن من التعلق بالأمور الاكثر شكلانية ، إلا في حالة ما إذا كان الامر مستحيلا بالتأكيد ، أو حيث يصبح التلميذ جامحا و متمردا . بالنسبة للعديد من التلاميذ ، الاستفادة من رمز خالص و الاسترجاع الميكانيكي يحل محل الاهتمام و الأصالة .
L’école et l’enfant
Editions Delachaux et Niestlé
عند الطفـل
John DEWEY
1897
كثيرا ما يقال أن المذهب الذي يبني التربية على الاهتمام l’intérêt يستبدل الهوى ، التجربة الخشنة و الفوضوية للطفل ليحل محلها التجربة المنظمة والناضجة للبالغ . ما قلناه يرد الأمور إلى نصابها . يمتلك الطفل بطبيعة الحال إهتمامات ترجع في جزء منها إلى درجة النمو الذي حققه ، جزء منها يرجع للعادات التي اكتسبها والبيئة التي يعيش فيها . هذه الاهتمامات فظة نسبيا ، وغير مستقرة ، وعابرة . و مع ذلك فهي تمثل كل ما هو مهم بالنسبة للطفل ؛ إنها القوى الوحيدة التي يمكن أن يرتكز عليها المربي ؛ هي بمثابة نقط الانطلاق ، ما يوجد لدى الطفل من نشاط و حيوية ، بداية . هل يجب على المربي أن يأخذها بعين الاعتبارعلى أساس نقط الوصول ، كشيء بات محسوما ، انتهى أمره ؟ ام استوجب عليه البحث في إشباعها والاحتفاظ بها كما هي ؟ مطلقا ، و من يستعملها بهذه الطريقة يكون الأسوأ عدو لنظرية الاهتمام . لأن مدلول الاهتمام يكمن كله في اين يتجه هذا الاهتمام ، في التجارب الجديدة التي يجعلها ممكنة ، و في القدرات الجديدة التي يخلقها . الاندفاعات وعادات الطفل ينبغي إذن ان تخضع للتأويل . البيداغوجي الحقيقي هو بالضبط ذلك الذي ، بفضل علمه وخبرته ، قادرعلى رؤية في هذه الاهتامات ليس فقط نقط انطلاق للتربية ، ولكن المهمات و الوظائف التي تحتوي على إمكانات والمؤدية إلى هدف مثالي . هنا في هذا المكان حيث يتدخل الاهتمام كما وصفه هربارت : أولا، اهتمام الطفل الصغير الذي يحب التحدث عن نفسه و عن أصدقائه ، و عن تجاربه و عن احداث كبيرة . إلى أي شيء يميل هذا الاهتمام ؟ ما يمكن أن يصير حقا الهدف الذي يجري من ورائه ؟ ثم تأتي الحاجة إلى أن يخربش ، يضع منازل ، و كلاب ، وشخصيات . عماذا يبحث هذا الاهتمام ؟ وهلم جرا . الإجابة عن مثل هذه الأسئلة ، ليس فقط يعني معرفة سيكولوجية الطفل ، بل هو أيضا، وفي الوقت نفسه ، إدراك القيمة العالية للحكمة الكبيرة ، بمعارفها التاريخية ، بعلمها وموارد الفن . المناهج الدراسية بكل تحسيناتها ومداها و أبعادها ، هو جواب على هذا السؤال : ماذا تعني القدرات التي تستيقظ تدريجيا عند الطفل؟
للدفع بالأذواق واحتياجات الطفل نحو النضج ، لا شك انه يلزمنا الوقت . إننا نصل إلى ذلك خطوة خطوة . في الممارسة التربوية ، الحاضر هو الذي يهم و يجب على المعلم في الحين أن يرى ماذا يمكنه ان يفعل بهذا الاهتمام الماثل امامه . و بالتالي ، الاهتمام بالخربشة يجب أن يستخدم فورا ، ويجب ان نستخلص منه كل خير ممكن دون تأخير ، دونما الاشتغال بالحدث خاصة حيث أن في عشر سنوات ، سيصبح التلميذ خطاطا calligraphie أو يهتم بالكتب ؛ يجب استخدام هذا الاهتمام بطريقة تفتح له آفاقا جديدة و تنزعه من حالته البدائية المتخلفة . يمكننا القول أن الواجب الرئيس للمربي هو استخدام هذا الاهتمام وهذه العادات من أجل أن يفعل بهما شيئا طافحا بالنشاط ، أوسع ما يمكن ، وأكثر انضباطا، وأمرا منظما . ومن يعرف دائما كيف يستخدم كمثل هذا الاهتمام سيظل دائما هو السيد . في الواقع ، الاهتمام هو شيء متحرك ، و سيرورة نماء ، و إغناء حيوي ، وامتلاك طاقة . فكيف نسلك للرفع من حجم المعارف و القدرات المعرفية النشطة للطفل ؟ في هذا يكمن فن البيداغوجية . ولن يكون ضد ذلك . لكن ومع ذلك فالمناقشة السابقة تبرهن على أنه يجب علينا التمييز بين الاهتمام المباشرة – حيث تتحد الوسائل والغايات عن كثب ، أو على الأقل في تقارب كبير – والاهتمام غير المباشر ، الذي يتفتح في لحظة جد متقدمة من الحياة النفسية . في هذه المرحلة ، يمكن للأطفال ربط اعمالهم بوعي و تفسير بعضها البعض .
معرفة البالغ و معرفة الطفل
المعرفة الإنسانية كما يتصورها العاِلم ، ليست لها اية علاقة مباشرة مع التجربة الفعلية للطفل . فهو يتموقع ما وراء أفقها . نسيانه بهذه الطريقة ، هو تعريض التربية لخطر ليس في النظرية من شيء . في الممارسة العملية ، الجميع يعاني من هذا الامر . المرجع و المعلم يتنافسان لكي يقدما للطفل المواد العلمية كما نظر إليها العالم le savant . إذا غيرنا أو عدلنا ، فذلك فقط من أجل القضاء على بعض الصعوبات الفنية و من اجل تقريب الموضوعات لذكاء الصبيان . لكننا لا نترجم هذه المواد بتعابير حية و صادقة ، وإنما نقدمها كنوع من البديل ، كإضافة مظهرية بعيدة تماما عن الحياة و عن تجربة الطفل .
وينجم عن ذلك ثلاث عواقب نموذجية و كارثية الأولى ، هو غياب ربط عضوي بما شاهده الطفل في السابق ، و أحس به ، و أحبه ، الذي يجعل من المعرفة المكتسبة شيء شكلاني صرف و رمزي . بمعنى من المعاني ، لا يمكننا أن نفعل الكثير إزاء ما هو شكلاني و رمزي ، لأن الشكل، و الرمز ، يستخدمان في خدمة مناهج البحث وامتلاك الحقيقة . هذه أدوات التي بفضلها يتقدم الفرد إلى الأمام بكل امن و حماية كاملتين نحو المجهول . لكن هذه النتيجة لم يتم الحصول عليها إلا عندما استنفد الرمز أحقيته في واقع الامر ، بمعنى آخر يلخص ويستبدل التجربة التي عاشها الفرد سابقا . الرمز الآتي من الخارج ، والذي لم ينبثق من نشاط سابق ، هو شيء فارغ و سيبقى كذلك ، لا طائل منه و ميت . كل فعل ، سواء أكان ينتمي للحساب ، للجغرافيا أو النحو ، و الذي لم يرتبط بما يهتم حقيقة و في العمق بحياة الطفل ، فإنه يحتل مكانة مغتصبة . هذه ليست حقيقة واقعية ، ولكنها ببساطة اسم واقع يمكنه أن يكون خاضعا للتجريب فيما إذا كانت الشروط المنشودة قد تحققت . والحالة هاته ، لا يمكن أن تتحقق هذه الشروط عندما نقدم للطفل فجأة معارف الآخرين و نطلب منه مجهودا لكي يتملكها بدوره . ما نود تدريسه إياه يبقى في عداد الهيروغليفي ؛ قد يعني شيئا آخر لو كان الطفل يمتلك فقط المفتاح . ولكن بما أن المفتاح كان مفقودا، فالحدث ليس إلا فضول من شأنه ان يبعثر العقل ، نوع من الثقل المميت .
النتيجة المؤسفة الثانية للبيداغوجية التي ندرسها ، وهو غياب الأسباب و البواعث . ليس فقط انه ينعدم في ذهنية الطفل أي حدث ، و اي حقيقة من طبيعة أن تستوعب ، أن تتبنى أحداثا و تطورات جديدة ، ولكن لا يوجد هنالك أي حاجة ، أي شهية ، و أي مطلب لهذه الحقائق . في الاتجاه المعاكس، عندما نأخذ علم النفس بعين الاعتبار و لما ندرك معرفة الاتجاهات والأنشطة المتطورة لدى الطفل ، حينذاك نكتشف عنده بسهولة العائق الفكري، العملي أو الأخلاقي، الذي ينبغي إزالته أو القضاء عليه ، بحيث يتسنى الطفل بأن يصبح سيد الموقف الذي نريد أن يتعلمه . هذه الحاجة le besoin توفر على وجه التحديد باعث للتعلم le motif . بالفعل ، إذا كان للطفل هدف شخصي ، من الطبيعي ان يندفع للبحث عن الوسائل لتحقيقه . عندما تكون المعارف قيد الدرس و الاكتساب مقدمة في شكل الدرس الذي يجب تعلمه كدرس، يوجد هناك غياب كامل لعملية الربط بين الاحتياجات والهدف . ويترتب عن هذا الغياب و النقص الأولي للبواعث و الأسباب تعليم ميكانيكي وفاقد للحياة . هنا حيث توجد حياة و تطور عضوي دائما نجد فعل و ردود الفعل ؛ هناك عرض و طلب ؛ طلب من جانب العقل و عرض من جانب مناهج الدراسات .
إشارة إلى النتيجة المؤسفة الثالثة ، هو أن المواضيع الأكثر علمية ومنطقية في التنظيم تفقد بالتحديد خصائصها عندما نقدمها للطفل بطريقة ظاهرية و مفتقرة للأصالة . في الواقع ، لا بد للمعلم بالضرورة أن يخضعها لتحولات لكي يجعلها في متناول دماغ الطفل . ماذا يحدث ؟ ما يشكل في الحقيقة قيمة كبرى بالنسبة للعالم او المنطقي فقد تم التخلي عنه . الامر الذي كاد ان يحدث نشاطا في العقل وينظمه ها هو قد اختفي أو احتجب . لا نطور بشكل كاف و متين القدرة على المنطق ، وملكة التجريد و التعميم . لقد تم إفراغ الموضوع من قيمته المنطقية ، القيمة الوحيدة التي كان ينبغي أن نحكم على انها مهمة ، أصبحت الآن مجرد مسألة ذاكرة . هذا هو تناقض النظام : لا يكتسب الطفل الامتيازات و المحاسن التي من المعقول ان يقدمها منطق الكبار، و لا تلك التي كان سيستمدها من احتياجاته الفطرية ، و ميولاته الغريزية . منطق الطفل تم تشويه وإضماره ، ويمكننا أن نعتبر أنفسنا محظوظين لو انه ما اكتسب نقيض العلم ، نوع من الحثالة التافهة و المترهلة لما كان يعتبر فيما مضى المعرفة الحية ، التذكر الفاسد أصله لما كان ينظر إليه فيما سبق تجربة حقيقية للأشياء .
ولكن هذا ليس كل شيء. لا يمكن ابدا تجاهل مقتضيات علم النفس مع الإفلات من العقاب. اطردهم من الباب، يأتونك من النافذة . دائما وفي كل مكان لا بد من استخدام البواعث و الاسباب ، إجراء ارتباطات بين العقل وما نريده من تغذيته . لا مجال في التشكيك او الاستغناء عن البواعث و عن الارتباطات ؛ السؤال الكبير، نتيجة ذلك ، هو معرفة ما إذا كانت هذه الأخيرة ( أي الارتباطات ) تنطلق بشكل عضوي من الذات le sujet عندما يوضع في علاقة مع العقل l’esprit او فيما إذا، عكس ذلك ، يتم استيرادها ميكانيكيا من الخارج .
إذا كان موضوع الدرس يحتل حقا مكانة مناسبة من أجل المساهمة في توسع مدارك الطفل، إذا كان يتصل داخليا ببعض تصرفاته و أفعاله ، و أفكاره ، و معاناته و أنه يسهل نموه في المستقبل ويرفع من استجابته ، إذن فهو لا يحتاج بأن يهتم بالتفتيش عن المخارج أو خدع المناهج لجعل هذا الموضوع شيقا . بالعكس ، كل موضوع آت من الخارج و ليس لديه ربط حقيقي مع الحياة ، كل موضوع تملكه الطفل من قبيل بواعث وأسباب غريبة عنه ، فإنه تنعدم فيه هذه القيمة التي تحدثنا عنها . لهذا السبب نجد انفسنا مضطرين إلى اللجوء إلى تمارين مصطنعة ، إلى حيل في الاجراءات أحيانا سخيفة لشد انتباه الطفل .
فإنه من المفيد النظر فيما يحدث حينما نعتقد في إمكانية إعطاء للموضوع معنى سيكولوجيا عن طريق الوسائل المظهرية . صحيح أن الإدمان ينتج عنه الاشباع ، غير أنه ينتج أيضا نوعا من الارتباط . فنحن يمكننا أن نعتاد على سلسلة ونأسف من سحبها منا . بل هذه حقيقة أن ، عن طريق العادة ، نأتي على احتضان ما نشعر به قبيحا لأول انطباع . لأن الأنشطة غير السارة التي كانت لا تملك مدلولات بالنسبة لنا ، أصبحت مع مرور الوقت أكثر أو أقل لطفا. يمكن لعقلنا أيضا أن يشتغل في الروتين و العمل الميكانيكي إذا كان يتواجد في ظروف تتطلب مثل هذا النشاط باستثناء أنشطة أخرى . كثيرا ما نسمع الناس و هم يدافعون عن التمارين المملة و الفارغة على الاطلاق في القول أن الأطفال يجدون في ذلك الاهتمام الكثير. و هذا محزن و مقلق على وجه التحديد ؛ لأن عقولهم ، التي فطمناها من نشاط عادي و التي تفقد ذوق التمارين المتلائمة مع الطبيعة الحقيقية ، تتدهور إلى حد أنها تهتم بالأشياء الضيقة والحقيرة . القانون الحقيقي للعقل ، هو العثور على الارتياح في ممارسته الذاتية ، وإذا لم نوفر له عملا كافيا و كاملا من حيث المعانى و المدلولات ، فإنه سيحاول تلبية ذلك بقدر ما يستطيع إليه سبيلا ، و في أغلب الأحيان يتمكن من التعلق بالأمور الاكثر شكلانية ، إلا في حالة ما إذا كان الامر مستحيلا بالتأكيد ، أو حيث يصبح التلميذ جامحا و متمردا . بالنسبة للعديد من التلاميذ ، الاستفادة من رمز خالص و الاسترجاع الميكانيكي يحل محل الاهتمام و الأصالة .
L’école et l’enfant
Editions Delachaux et Niestlé