المنهـاج الدراسي بين التنقيـح و التجريب
أغتنم هذه الفرصة للتحدث قليلا عن " المشروع المنقح للمنهاج الدراسي " الخاص بالسنوات الأربع الاولى للتعليم الابتدائي المثبت في الموقع الالكتروني للوزارة ، المحور الذي يخص التعلمات الأساسية . بدءا من الآن ، سيخضع هذا البرنامج الدراسي للتجريب في الأقسام الابتدائية اللأولى أي الدخول المدرسي الحالي و سيكون تعميمه رسميا في الدخول المدرسي المقبل لسنة 2016 . تبدو مكونات هذا البرنامج الدراسي تقريبا شبه عادية و مألوفة لدى البعض مع بعض التجديدات و التغييرات الهيكلية المهمة التي ألحقت به و كذا الحدوفات و التنقيحات في الشكل و المضمون الأمر الذي أكسبه قيمة مضافة يجب التحقق منها ميدانيا ، علما أن هذا التجريب لن يشمل سوى % 10 من المدارس المنتقاة حسب كل اكاديمية على حدة إن صح القول . بالطبع ، ستطرح عدة تساؤلات عند باقي المؤسسات الأخرى غير المشاركة في هذه العملية .
في هذا السياق ، لا بد من ذكر أن " الميثاق الوطني " للتربية و التعليم كان و لا يزال هو المنطلق و المرجعية لسلسلة من الاصلاحات المهمة و التجديدات التربوية متوخيا استكمال بقية الأوراش المفتوحة التي لم تر النور . كما أن للمجلس الأعلى للتعليم إسهاماته في بلورة رؤية استراتيجية بعيدة المدى في هذا الشأن ( 2015 – 2030 ) . و بناء على هذه المعطيات ، تم إحداث " مشروع " منقح للمنهاج الدراسي يضفي دلالات جديدة على وظائف المدرسة و عمل المدرس(ة) كما جاء في تقديم الوثيقة . و نحن نرى أنه تغيير مهم جدا قام على تحيين مختلف مكونات المنهاج الدراسي ، عمل يستحق كل التشجيع و التقدير .
الهدف من التجريب هو القيام فقط ببعض التصويبات اللازمة و الممكنة لتجويد البرنامج و تفادي بعض الصعوبات و الاخطاء المحتملة في المستويات المستهدفة حصريا ( المستويات 1 و2 و 3 و4 ) . المطلوب فعله الآن هو أجرأة هذه البرامج و إقحام بعض التدخلات التربوية و البيداغوجية التي تمس الممارسة في الصميم و مواجهة التحديات المعقودة على الاصلاح الجديد لبلوغ الأهداف التربوية المنتظرة مع بذل أقصى المجهودات و التضحيات . و أيضا يامل البرنامج تعميق بعض بنود الاصلاح المذكورة في الميثاق كتعزيز اللغات الأجنبية على سبيل المثال ، و الدفع بالتنشئة الاجتماعية نحو الآفاق و انفتاح المؤسسة على المحيط و الاهتمام بالرياضيات و العلوم ..
باختصار ، يكاد يحس المتتبع بأن هناك فعلا أرادة سياسية حقيقية للاصلاح و أن " تخفيفا " ما قد حصل ؟! رغم أن 34 أسبوعا في السنة لم يطرأ عليها اي تغيير .. فالقصد كان بالأولى تخفيفا على مستوى الكيف أي تدبير زمن التعلمات بحيث أصبح عدد " الوحدات الديداكتيكية " في المستويات الأربعة الأولى للتعليم الابتدائي هو فقط 6 وحدات في العربية و الفرنسية بدل 9 وحدات كما كان في السابق . من الأكيد ان مثل هذا التغيير او التخفيف يمكن اعتباره نقطة إيجابية إلى حد ما ، هو نوع من إعادة الانتشار فقط لأسابيع السنة وفقا لعدة اعتبارات و اجتهادات و مطالب قامت بها السلطات الادارية و القوى الحية بما أن 6 وحدات في السنة يمكن تدبيرها بشكل معقول و بسهولة و فعالية أثناء مزاولة مهنة التدريس .
و أيضا ، لا يجب ان ننسى ان الوحدات الديداكتيكية (6) المقترحة – في الاقسام الابتدائية الستة – لم يتم اختيارها بطريقة عشوائية فحسب ، و إنما تبعا للنمو السيكولوجي الطبيعي للمتعلم و كذلك ضرورات الحياة العامة للتنشئة الاجتماعية فنجد مثلا في :
- السنة الأولى (1 ) المحيط المباشر : ( الأسرة – المدرسة – الملابس و الوقاية الصحية – الحي و القرية – المحيط – الالعاب )
- السنة الثانية (2) المحيط المباشر و المحلي : ( العائلة – الحياة المدرسية – الأطعمة و الصحة – المدينة / القرية )
- السنة الثالثة (3) المحيط المحلي و الجهوي : ( عالم الأصدقاء – الحياة التضامنية – الوقاية ضد الأخطار – المهن و الحرف )
- السنة الرابعة (4) المحيط الجهوي و الوطني : ( الحضارة المغربية – الحياة الثقافية و الفنية – الترفية – الفلاحة و الصناعة و التجارة - الغابة – السياحة )
يمكن القول جزافا أن البرامج الدراسية المخففة أو المنقحة هاته هي برامج افتراضية قابلة للتنزيل حيثما وجدت هنالك إرادة حقيقية وعمل دؤوب و تواصل مثمر بين جميع الأطراف . و الملاحظ أن العناوين التي تصدرت التوزيعات السنوية لكل البرامج ليست دروسا بل يجب تحضيرها و تنقيحها إن امكن حسب الحاجة و الظرفية . ثم من المؤكد ان التجريب ذي المصداقية يمكن ان يسهم في تسليط الضوء على بعض نقط القوة و الضعف و سد الثغرات المحتملة لكي تغدو هذه العملية الاصلاحية جاهزة و مقبولة في نهاية المطاف و يتم المصادقة عليها مباشرة في شهر يونيو (2016 ) . سيكون الأمر مختلفا تماما بسبب هذه الشراكة النسبية غير المنتظرة الملقاة على عاتق بعض المدرسات و المدرسين ، وهذه مسؤولية كبيرة من الممكن ان يسهم فيها حتى الجميع إذا كان ممكنا .
كيفما كان الحال ، لإحداث الفارق النوعي المطلوب و الذهاب بعيدا بمنظومة الاصلاح – رغم الصعوبات و الاشكالات المطروحة – و العمل على إنجاحه في هذه الظرفية الخاصة ، فلا بأس من فتح باب الحوار و المناقشة بصدد بعض المفاهيم البيداغوجية الأساسية التي مازالت عالقة غير مستقرة كبيداغوجية الادماج و علاقتها مع الكفايات ، و الأوراش المفتوحة كمشروع المؤسسة الذي لم ينطلق بعد و هو الآن في مفترق الطرق إن لم نقل في تنافسية مشبوهة و غير معلنة مع البرنامج الجديد . بتعبير آخر ، ألا يمكن اعتبار البرنامج الدراسي " الجديد " نوعا من مشروع المؤسسة ؟ إذا كان الجواب بالنفي ، فكيف يمكن التوفيق بين المشروعين إذن ؟ أتمنى أن تكون هذه الورقة مدخلا متواضعا لإثارة مثل هذه القضايا الحساسة تجعل من الممارسات و الممارسين يبدون وجهات نظرهم في الموضوع :
- مبادئ المقاربة البيداغوجية وفق مدخل الكفايات : لا تزال « الكفايات » جاثمة على صدورنا و هي في الحقيقة كمثل حكاية " الخيمياء " لـ بولو كيولو : ( ذلك الراعي الصغير الذي سافر من بلاد الاندلس متجها نحو اهرامات الفراعنة باحثا عن « الكنز» .. ) . من الصعب جدا العثور على الكنز إلا بعدما نؤمن أولا بوجود هذا " الكنز " على مستوى الاعتقاد .. ثم يحدث تواصل في بذل المجهودات و قراءة الأحداث و تأويل الرموز التي سوف نجدها لا محالة في طريقنا نحو الكنز.. أو.. الحلم . تماما نفس الحلم الذي يسعى إليه الخيميائي لما يريد تحويل الحديد إلى معدن نفيس كالذهب ؟؟ و بلغتنا العارفة : الدروس كفايات . يجب المزيد من التوضيح و الحفر في هذا المفهوم المتعلق بالتدريس وفق مدخل الكفايات ، لكن الباب مفتوح لكل نموذج بيداغوجي مفتوح و متجدد راكمته المدرسة الوطنية المغربية من ممارسات تربوية عديدة و متنوعة تتجه نحو الانتاجية و الارتقاء بالمتعلم(ة) حسب المواصفات المطلوبة . بالاضافة إلى المضامين المعرفية التي نتقنها ، بالطبع توجد هناك مهارات و قيم و مواقف .. لماذا لا نهتم إلا بالفعل المعرفي تحديدا ؟ و نسقط باقي الأفعال المهمة الاخرى؟ و في هذا الباب ، لقد تمت صياغة « كفاية » في نهاية كل مستوى دارسي بالنسبة لكل مادة دراسية . فلا يكفي التركيز فقط على المضامين لأنه يوجد هنالك ملمح المتعلم (ة) و مواصفاته في نهاية سلك التعليم .. مواصفات عامة مرتبطة بالقيم و الكفايات و المضامين و المقاييس الاجتماعية . إن مفاهيم الوضعية / المسألة ، و العائق ، و التعقيد ، و الموبلة ، و الادماج ، و التقويم التكويني ، و معايير و مؤشرات الجودة و الاتقان .. كل هذه المفاهيم تصب في هذا الاتجاه أي نحو إنماء الكفايات . من الصعب تصور التدريس العام ( وليس التكوين المهني ) بدون كفايات فإن هذه الاخيرة تعتبر صمام أمان و رمز كل جودة و فعالية . السؤال المطروح هو كيف الوصول إلى الكفايات : الفهم ، و التحليل ، و التركيب ، و الحجاج ، و النقد ، و البحث ،الخ . عكس بلجيكا التي تنهج أسلوب الادماج الذي عرف تجربة سيئة في مدارسنا ، لدى فرنسا تقنية مختلفة بعض الشيء يمكن الأخذ بها و الاستئناس بها : 1) التعلم في السياق – 2) التعلم مع هدم السياق – 3) التعلم في سياقات جديدة . يرتكز هذا الأسلوب الفرنسي بقوة على البيداغوجية الفارقية نظرا لنجاعتها و خصوبتها التنظيرية و أيضا بسبب امتلاك البلد القوة المادية و البشرية و العلمية .
- إرساء الموارد : هي نقطة البداية أو ما يسمى عرفا بالدروس . و لعل استبدال التسمية هنا يوجد ما يبرره ، إذ أن الموارد عكس الدروس تشمل عالم الطفل داخليا و خارجيا . أما الدروس المعتادة فإنها تكتفي بل ترتكز حصريا و بصفة عامة على اتباع الخطوات الميتودلوجية المقترحة في المقررات الدراسية. هذا أمر مطلوب لا شك فيه لكنه غير كاف . فإذا كنا غير قادرين في نهاية حصة درس ما على تقويم التعلمات بشكل عقلاني و صريح و ذلك لعدة اعتبارات و أسباب موضوعية و ذاتية و احيانا إدارية صرفة ، و ان هذه الدروس لا ترقى إلى مصاف النضج و الاكتمال لهذه الأسباب ؛ فإنه آن الأوان لتبني نهج جديد يقطع مع مفهوم الدرس كوحدة ديداكتيكية معيارية أي التخلي نهائيا عن بيداغوجية الأهداف . يتحدث محمد الدريج عن التعليم « الهادف » ، ذلك التعليم الذي يفضي في نهاية المطاف إلى منتوجات ذات مواصفات محددة و مؤشرات معروفة . فإذا كان المثل الشائع يقول : ( جميع الطرق تؤدي إلى روما ) هو كلام مقبول على أي حال ، فإن جميع الدروس لا تؤدي حتما إلى الكفاية و التجربة شاهدة على ذلك . و السبب في ذلك يرجع للكفايات التي تحتل مكانة الأهداف دون ربط مفهوم الهدف بتصور « تقني » تجزيئي للعملية التربوية . لذا فإن التخطيط المحكم و الاستراتيجية الواضحة تفرضان نفسهما بقوة ، هنا ، لإحداث الفارق . لصياغة أو أجرأة الكفايات ، يجب اتباع الخطوات التالية :
- 1)- مجموع الاجراءات الخاصة : تنتج المهارة
- 2)- مجموع المهارات المدمجة : تنتج القدرة
- 3)- مجموع القدرات المدمجة : تنتج الكفاية
- 4)- مجموع الكفايات المدمجة المرتبطة بتكوين الشخصية : تنتج التكيف مع الحياة .
هذه الترسيمة توضح مدى تسلسل منطق الكفايات و الهدف الذي تنشده بدون لبس أو غموض : التكيف مع الحياة. للتلقين / أو التبليغ جانب مهم في هذه العملية لا يجب نكرانه بأي حال من الأحوال . باختصار ، الكفاية حسب الدريج هي إمكانية غير مرئية ، لكنها تتضمن انجازات / و أداءات . الدرس ، هنا ، ما هو إلا تعلة و ما خفي هو أكبر . المهم في النهاية هو أن يكون التلميذ قادرا على حل وضعية معقدة نسبيا ما و متفردة تماما للتيقن انه حقا استفاد من تعلمه . لكن عامل الزمن أحيانا كان يقف في وجه التعلم فتنعدم الكفاية بعد سقوط الارساء. أظن أن الجميع متفق على أن زمن التعلم هو العائق و على هذا الأساس ، و اعتمادا على « الوحدة الديداكتيكية » في البرمجة الجديدة للتعلمات ، لقد تم تخصيص :
ست (6) وحدات ديداكتيكية في كل سنة من السنوات الأربعة ( 1 و2 و3 و4 ) عربية و فرنسية
الغلاف الزمني للوحدة الديداكتيكية هو 5 أسابيع ( 4 أسابيع للتعلم الفعلي + 1 أسبوع للتقويم و الدعم )
تنتظم السنة الدراسية في أسدوسين
مدة كل أسدوس سبعة عشر أسبوعا ( 17 ) من الدراسة الفعلية
المدة الزمنية للحصة الواحدة لا تقل عن 1 ساعة ( 55 دقيقة )
البيداغوجية المفترضة : البيداغوجية فن وعلم . نصيب الفن فيها يغطي مساحة كبيرة جدا مقابل الممارسات البيداغوجية المبنية على قواعد علمية و ميدانية معترف بها عالميا . و نقصد بالذكر البيداغوجية الصريحة التي تطبق الآن في أمريكا الشمالية و كندا . اولا يجب أن نعترف بعدم وجود نظرية بيداغوجية في الموضوع و أن كل ما هنالك هو فقط مقاربات و تقنيات أكثر أقل تحكما في قوانين التعلم . و مع ذلك في هذا الميدان ، كممارسين ، لا بد من إيجاد طريقة ما تجعل المتعلم بوجه عام ، و الطفل على الاخص ، في قلب الاهتمام و التفكير و الفعل خلال العملية التربوية التكوينية مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الطفل المغربي . كيف الوصول إلى ذلك ؟ أي خطة يجب اتباعها تكون مدروسة و معلنة باتفاق الجميع .. ما هي الأساليب و التقنيات التي من شأنها مساعدتنا في تحقيق ما نصبو إليه ؟ في واقع الامر، يجب أن ننظر إلى الكفايات كمحطات نهائية ، شاملة و مدمجة للمعارف و لمختلف مجالات الشخصية. بلغة العصر نقول : الاستثمار .
- البيداغوجية البنائية : جان بياجي هو الأب الروحي للبنائية غير أنه لم يكن مربيا و لا بيداغوجيا . لقد كانت اهتماماته منصبة بالأساس على الذات الابيستيمية ، من هنا كانت الصعوبات في تطبيق قوانينه السيكولوجية على باقي أطفال العالم . أما الفرد ، عكس ذلك ، المتجذر في التاريخ و المتفاعل مع المحيط أو المجتمع الذي يتبادل معه التأثير( تحديد منطقة القرب من النمو على حد تعبير فيكوتسكي الروسي) فهو شخص قادر على بناء تعلماته . هذه الرؤية الجديدة ما كانت معروفة في سويسرا بسبب الحرب الباردة القائمة انذاك . أما الرؤية السوسيوبنائية فإنها تنظر إلى القسم كأنه عبارة عن « مجتمع » حي يزخر بالتفاعلات و التجاذبات لكن هذا « المجتمع » غير طبيعي .. الذي لم يتجاوب بسهولة مع هذه الرؤية (السوسيوبنائية ) و بالتالي بدأت تفقد شيئا فشيئا بريقها في الآونة الأخيرة بسبب طابعها الفلسفي الوجودي الذي لا يقدر عليه بتاتا الطفل .
و في هذا السياق ، فقط للاشارة، من الصعوبة بمكان أن يبني التلميذ (ة) تعلماته في بداية تقديم الدرس( !) على أساس «الوضعيات» المفترضة في الكراسة . كيف يمكن أن يبني مفاهيمه و تعلماته لوحده أو مع أقرانه كأن يستبق مثلا في طرح الفرضيات أو القيام بالتخمينات أو مجرد تقديم أسئلة استكشافية تدور حول رهانات الموضوع و معنى التعلمات . و الحق يقال أن مثل هذه القدرات غير متوفرة حتى مع التلاميذ المتفوقين بالاحرى مع الضعاف بسبب قلة الخبرة و التداريب .. و.. ، و مع ذلك نستمر في تقديم مثل هذه الوضعيات التحفيزية (!) في بداية كل حصة : لكن الأستاذ (ة) هو من يجيب في أغلب الاحيان عن الأسئلة التي يطرحها و يضع النقط الحسنة . من الممكن فعلا للبيداغوجية البنائية ان تقدم لنا الحل لو التزمنا بشروطها الصعبة ، لو طورنا أساليب و تقنيات أخرى تضمن الحد الادنى من التعلمات الاساسية المطلوبة بطرق واستراتيجيات مختلفة عما نفعله .
- بيداغوجية المحتويات : أو أساليب التلقين و الالقاء و نقل المعرفة .. هذا أمر مفروغ منه . لكن إعادة النظر في مفهوم « التلقين » هو أساسي لمواكبة التغيير و بالأخص في البرامج الدراسية الجديدة و المنقحة التي أفردت حصصا زمنية مهمة لارساء الوحدة الديداكتيكية ( 25 يوم / 30 يوم ) . هذا لا يعني أبدا أن التلقين يجب أن يستمر طول هذه المدة .. أهداف مضمرة و منهاج متنافر و استهداف الكم . عندما لا يترك التلقين هامشا من الحرية و المبادرة و نقد الذات و تأهيل الشخصية و التحفيز و حل المشكلات، فإنه لا يصبح ترويضا فحسب بل يسهم في تنمية شخصية غير سوية تكون خطرا على المجتمع . بالاضافة إلى ذلك ، من الضروري محاربة ما يسمى بـ « الثقل المعرفي الزائد » الآتي من هذه البيداغوجية نفسها والذي لا يخدم بل يعيق عملية التعلم و ينسفها من الأساس ؛ فلا يعرف المتعلم (ة) كيفية معالجة هذا الكم الهائل من المعارف و المعلومات التي تنزل عليه من حيث لا يدري و بلا توقف . و لهذه الأسباب لا نجد معنى للتقويم المعمول به ( مسار ) المبني هكذا على احتساب اعتباطي لمعدلات المواد التعلمية ، كما ان أغلبية المدرسات و المدرسين يشتكون من معضلتين كبيرتين تقف في وجه التلاميذ وهما : عدم « الفهم » و قلة « التذكر» و النتائج المترتبة عن ذلك من عدم نقل و تحويل التعلمات في سياقات أخرى .! و هذا هو الأهم .
- بيداغوجية الوضعيات : تنص الوثيقة على مبدإ اعتماد المداخل البيداغوجية الثلاث للمنهاج : - مدخل القيم ؛ - مدخل التربية على الاختيار ؛ - مدخل الكفايات . يتم التركيز في مدخل الكفايات على إعطاء معنى للتعلمات و إضفاء النجاعة و الفعالية على الممارسة التعليمية التعلمية و الاهتمام بحاجات المتعلم (ة) . و للمزيد من التوضيح ، إعطاء معنى للتعلمات يعني إذن اعتماد وضعيات و مهمات مركبة و دالة يتفاعل معها الطفل بكل تلقائية . هل هذا ممكن ؟ كيف ؟ و متى ؟ لنتعرف على الوضعية .
- خصائص الوضعيات – المشكلة :
1) – تنتظم الوضعية - المشكلة حول تجاوز العائق ( طبيعة العائق )
2) – ينتظم العمل حول وضعية ملموسة ، تسمح فعلا للتلميذ (ة) بصياغة فرضياته و تكهناته .
3) – ينظر التلاميذ إلى الوضعية التي اقترحت عليهم كلغز حقيقي يجب حله ؛ يكونون قادرين على الاستثمار: وهذا شرط لكي يحصل نقل الوصاية la dévolution /المشكلة أصبحت « قضيتهم »
4) – لا يمتلك التلاميذ ، في البداية ، وسائل الحل المبحوث عنه ، بسبب وجود العائق الذي يجب تجاوزه للوصول إليه . إن الحاجة إلى الحل هي التي تدفع التلميذ إلى إعداد او امتلاك جماعيا الوسائل العقلية التي ستصبح ضرورية لبناء الوضعية .
5) – يجب أن تتسم الوضعية بمقاومة كافية لكي يستثمر التلميذ(ة) من خلالها معارفه السابقة و كذلك تصوراته ، بالشكل الذي يؤدي إلى مساءلة هذه المعارف و إيجاد أفكار جديدة .
6) – لا يجب أن يكون الحل مع ذلك صعب المنال من قبل التلاميذ . الوضعية - المشكلة ليس وضعية ذات طابع إشكالي . يجب على النشاط ان يقام في منطقة القرب من النمو ، مناسب للتحدي العقلي المراد مواجهته و استبطان « قواعد اللعبة »
7) – استباق النتائج و التعبير الجماعي عنه يحدث قبل البحث الفعلي عن الحل ، « المخاطرة » من طرف كل تلميذ (ة) هي جزء من « اللعبة »
– العمل بالوضعية - المشكلة يتم هكذا حسب اسلوب الحوار العلمي داخل القسم ، محفزين الصراعات السوسيومعرفية المحتملة .
9) – المصادقة على الحل و تصحيحه لا يقدمه المدرس (ة) من الخارج ، و لكن ينبع من أسلوب التشكل البنائي للوضعية نفسها .
10)- إعادة الفحص و المعاينة للمسلك المتبع هو فرصة للرجوع التعقلي ، ذو طابع ميتامعرفي ( ما وراء المعرفة ) ؛ يساعد التلاميذ في تحديد الاستراتيجيات التي استخدموها بطريقة استكشافية ، و تحويلها إلى إجراءات مستقرة ، جاهزة و مهيأة للوضعيات – المشكلة الجديدة .
على ما يبدو من الصعب جدا ، للوهلة الأولى ، الانطلاق من الوضعيات – المشكلة في بداية " الدرس" لأن ليس هناك دروس بمعنى الكلمة و إنما سلسلة من الاجراءات الخاصة تنمو و تتطور إلى أن تصل إلى مرحلة من النضج . ثم تأتي الوضعيات- المشكلة لتلعب دور التجنيد و الرقابة والاستثمار . أما الاغراءات التحفيزية و التعليمات الرسمية التي تنادي بأهمية اتباع خطوات الوضعية في بداية كل درس فإنه من الممكن ان تكون وضعيات بدون « مشكلة » لتسهيل مأمورية التلاميذ.. كتقديم أمثلة بسيطة و التمرن عليها و تخزينها في الذاكرة و استدعائها بكل مرونة و يسر .. و هذا ما تسعى إليه البيداغوجية الصريحة في المقام الأول .
- البيداغوجية الصريحة explicite : ( أو التعليم المباشر ) يريد تحقيق المهام التالية ( او الاجابة عن هذه الأسئلة ): ماذا أفعل؟ أين ؟ متى ؟ لماذا أٌقوم بذلك ؟ كيف يتم ذلك ؟ ترتكز البيداغوجية الصريحة على التعليمات المباشرة بلا غموض . تنطلق من البسيط إلى المعقد و تستخدم ميكانيزمات التكرار و المراجعة قصد استهداف الذاكرة البعيدة المدى و تخزين المعلومات و ضمان بقائها و تطورها إلى كفايات او خبرات ميدانية في نهاية مسار التعلم :
- تعليمات ممنهجة
- تقديم منظم للمعارف
- تصحيح الأخطاء من طرف المدرس
- اللجوء إلى التكرار
- استدعاء الذاكرة
- تنمية و تطوير الميكانيزمات التلقائية
- التعرف و التحكم في أكبر عدد من الأفعال و الاحداث
- التمارين
إنها بيداغوجية طموحة و جذابة . منهجيتها متقدمة جدا مقارنة مع الطرق التعليمية المعروفة سابقا لأنها تتوخى الملاءمة و التوفيق بين حدين يبدوان متعارضين غير قابلين للدمج : المضامين الضرورية بجبروتها من جهة ، و الكفايات الأساسية بتعقيداتها من جهة اخرى . كما أنها تولي اهتماما متميزا بكيفية تدبير المادة التعلمية وفق أحسن الأساليب المتطورة علميا ( العلوم المعرفية ) و كذلك تدبير الفصل تنظيما على مستوى الفرد و الجماعة .. كل هذا لا يخلو من التشويق و الاعجاب . في هذا السياق ، يظل التشبت والالتصاق بـ " مشروع المؤسسة " هو الأفضل و الحل الامثل لتفادي سوء تدبير التعلمات اثناء تنزيل المقرارت و البرامج الدراسية و جوانب أخرى أكثر حساسية و خطورة كـ : استقلالية المؤسسة و التدبير عبر النتائج و الاهتمام بالحياة المدرسية و الدورات التدريبية في البيداغوجية و ديداكتيك المواد و تقنيات التنشيط و استغلال التكنولوجية الحديثة ،الخ . نتمنى أن نكون صادقين مع أنفسنا لاعادة ترتيب البيت الداخلي من جديد على أسس متينة من المحبة والتعاون و الرقي و الاضطلاع بالرسالة .
أغتنم هذه الفرصة للتحدث قليلا عن " المشروع المنقح للمنهاج الدراسي " الخاص بالسنوات الأربع الاولى للتعليم الابتدائي المثبت في الموقع الالكتروني للوزارة ، المحور الذي يخص التعلمات الأساسية . بدءا من الآن ، سيخضع هذا البرنامج الدراسي للتجريب في الأقسام الابتدائية اللأولى أي الدخول المدرسي الحالي و سيكون تعميمه رسميا في الدخول المدرسي المقبل لسنة 2016 . تبدو مكونات هذا البرنامج الدراسي تقريبا شبه عادية و مألوفة لدى البعض مع بعض التجديدات و التغييرات الهيكلية المهمة التي ألحقت به و كذا الحدوفات و التنقيحات في الشكل و المضمون الأمر الذي أكسبه قيمة مضافة يجب التحقق منها ميدانيا ، علما أن هذا التجريب لن يشمل سوى % 10 من المدارس المنتقاة حسب كل اكاديمية على حدة إن صح القول . بالطبع ، ستطرح عدة تساؤلات عند باقي المؤسسات الأخرى غير المشاركة في هذه العملية .
في هذا السياق ، لا بد من ذكر أن " الميثاق الوطني " للتربية و التعليم كان و لا يزال هو المنطلق و المرجعية لسلسلة من الاصلاحات المهمة و التجديدات التربوية متوخيا استكمال بقية الأوراش المفتوحة التي لم تر النور . كما أن للمجلس الأعلى للتعليم إسهاماته في بلورة رؤية استراتيجية بعيدة المدى في هذا الشأن ( 2015 – 2030 ) . و بناء على هذه المعطيات ، تم إحداث " مشروع " منقح للمنهاج الدراسي يضفي دلالات جديدة على وظائف المدرسة و عمل المدرس(ة) كما جاء في تقديم الوثيقة . و نحن نرى أنه تغيير مهم جدا قام على تحيين مختلف مكونات المنهاج الدراسي ، عمل يستحق كل التشجيع و التقدير .
الهدف من التجريب هو القيام فقط ببعض التصويبات اللازمة و الممكنة لتجويد البرنامج و تفادي بعض الصعوبات و الاخطاء المحتملة في المستويات المستهدفة حصريا ( المستويات 1 و2 و 3 و4 ) . المطلوب فعله الآن هو أجرأة هذه البرامج و إقحام بعض التدخلات التربوية و البيداغوجية التي تمس الممارسة في الصميم و مواجهة التحديات المعقودة على الاصلاح الجديد لبلوغ الأهداف التربوية المنتظرة مع بذل أقصى المجهودات و التضحيات . و أيضا يامل البرنامج تعميق بعض بنود الاصلاح المذكورة في الميثاق كتعزيز اللغات الأجنبية على سبيل المثال ، و الدفع بالتنشئة الاجتماعية نحو الآفاق و انفتاح المؤسسة على المحيط و الاهتمام بالرياضيات و العلوم ..
باختصار ، يكاد يحس المتتبع بأن هناك فعلا أرادة سياسية حقيقية للاصلاح و أن " تخفيفا " ما قد حصل ؟! رغم أن 34 أسبوعا في السنة لم يطرأ عليها اي تغيير .. فالقصد كان بالأولى تخفيفا على مستوى الكيف أي تدبير زمن التعلمات بحيث أصبح عدد " الوحدات الديداكتيكية " في المستويات الأربعة الأولى للتعليم الابتدائي هو فقط 6 وحدات في العربية و الفرنسية بدل 9 وحدات كما كان في السابق . من الأكيد ان مثل هذا التغيير او التخفيف يمكن اعتباره نقطة إيجابية إلى حد ما ، هو نوع من إعادة الانتشار فقط لأسابيع السنة وفقا لعدة اعتبارات و اجتهادات و مطالب قامت بها السلطات الادارية و القوى الحية بما أن 6 وحدات في السنة يمكن تدبيرها بشكل معقول و بسهولة و فعالية أثناء مزاولة مهنة التدريس .
و أيضا ، لا يجب ان ننسى ان الوحدات الديداكتيكية (6) المقترحة – في الاقسام الابتدائية الستة – لم يتم اختيارها بطريقة عشوائية فحسب ، و إنما تبعا للنمو السيكولوجي الطبيعي للمتعلم و كذلك ضرورات الحياة العامة للتنشئة الاجتماعية فنجد مثلا في :
- السنة الأولى (1 ) المحيط المباشر : ( الأسرة – المدرسة – الملابس و الوقاية الصحية – الحي و القرية – المحيط – الالعاب )
- السنة الثانية (2) المحيط المباشر و المحلي : ( العائلة – الحياة المدرسية – الأطعمة و الصحة – المدينة / القرية )
- السنة الثالثة (3) المحيط المحلي و الجهوي : ( عالم الأصدقاء – الحياة التضامنية – الوقاية ضد الأخطار – المهن و الحرف )
- السنة الرابعة (4) المحيط الجهوي و الوطني : ( الحضارة المغربية – الحياة الثقافية و الفنية – الترفية – الفلاحة و الصناعة و التجارة - الغابة – السياحة )
يمكن القول جزافا أن البرامج الدراسية المخففة أو المنقحة هاته هي برامج افتراضية قابلة للتنزيل حيثما وجدت هنالك إرادة حقيقية وعمل دؤوب و تواصل مثمر بين جميع الأطراف . و الملاحظ أن العناوين التي تصدرت التوزيعات السنوية لكل البرامج ليست دروسا بل يجب تحضيرها و تنقيحها إن امكن حسب الحاجة و الظرفية . ثم من المؤكد ان التجريب ذي المصداقية يمكن ان يسهم في تسليط الضوء على بعض نقط القوة و الضعف و سد الثغرات المحتملة لكي تغدو هذه العملية الاصلاحية جاهزة و مقبولة في نهاية المطاف و يتم المصادقة عليها مباشرة في شهر يونيو (2016 ) . سيكون الأمر مختلفا تماما بسبب هذه الشراكة النسبية غير المنتظرة الملقاة على عاتق بعض المدرسات و المدرسين ، وهذه مسؤولية كبيرة من الممكن ان يسهم فيها حتى الجميع إذا كان ممكنا .
كيفما كان الحال ، لإحداث الفارق النوعي المطلوب و الذهاب بعيدا بمنظومة الاصلاح – رغم الصعوبات و الاشكالات المطروحة – و العمل على إنجاحه في هذه الظرفية الخاصة ، فلا بأس من فتح باب الحوار و المناقشة بصدد بعض المفاهيم البيداغوجية الأساسية التي مازالت عالقة غير مستقرة كبيداغوجية الادماج و علاقتها مع الكفايات ، و الأوراش المفتوحة كمشروع المؤسسة الذي لم ينطلق بعد و هو الآن في مفترق الطرق إن لم نقل في تنافسية مشبوهة و غير معلنة مع البرنامج الجديد . بتعبير آخر ، ألا يمكن اعتبار البرنامج الدراسي " الجديد " نوعا من مشروع المؤسسة ؟ إذا كان الجواب بالنفي ، فكيف يمكن التوفيق بين المشروعين إذن ؟ أتمنى أن تكون هذه الورقة مدخلا متواضعا لإثارة مثل هذه القضايا الحساسة تجعل من الممارسات و الممارسين يبدون وجهات نظرهم في الموضوع :
- مبادئ المقاربة البيداغوجية وفق مدخل الكفايات : لا تزال « الكفايات » جاثمة على صدورنا و هي في الحقيقة كمثل حكاية " الخيمياء " لـ بولو كيولو : ( ذلك الراعي الصغير الذي سافر من بلاد الاندلس متجها نحو اهرامات الفراعنة باحثا عن « الكنز» .. ) . من الصعب جدا العثور على الكنز إلا بعدما نؤمن أولا بوجود هذا " الكنز " على مستوى الاعتقاد .. ثم يحدث تواصل في بذل المجهودات و قراءة الأحداث و تأويل الرموز التي سوف نجدها لا محالة في طريقنا نحو الكنز.. أو.. الحلم . تماما نفس الحلم الذي يسعى إليه الخيميائي لما يريد تحويل الحديد إلى معدن نفيس كالذهب ؟؟ و بلغتنا العارفة : الدروس كفايات . يجب المزيد من التوضيح و الحفر في هذا المفهوم المتعلق بالتدريس وفق مدخل الكفايات ، لكن الباب مفتوح لكل نموذج بيداغوجي مفتوح و متجدد راكمته المدرسة الوطنية المغربية من ممارسات تربوية عديدة و متنوعة تتجه نحو الانتاجية و الارتقاء بالمتعلم(ة) حسب المواصفات المطلوبة . بالاضافة إلى المضامين المعرفية التي نتقنها ، بالطبع توجد هناك مهارات و قيم و مواقف .. لماذا لا نهتم إلا بالفعل المعرفي تحديدا ؟ و نسقط باقي الأفعال المهمة الاخرى؟ و في هذا الباب ، لقد تمت صياغة « كفاية » في نهاية كل مستوى دارسي بالنسبة لكل مادة دراسية . فلا يكفي التركيز فقط على المضامين لأنه يوجد هنالك ملمح المتعلم (ة) و مواصفاته في نهاية سلك التعليم .. مواصفات عامة مرتبطة بالقيم و الكفايات و المضامين و المقاييس الاجتماعية . إن مفاهيم الوضعية / المسألة ، و العائق ، و التعقيد ، و الموبلة ، و الادماج ، و التقويم التكويني ، و معايير و مؤشرات الجودة و الاتقان .. كل هذه المفاهيم تصب في هذا الاتجاه أي نحو إنماء الكفايات . من الصعب تصور التدريس العام ( وليس التكوين المهني ) بدون كفايات فإن هذه الاخيرة تعتبر صمام أمان و رمز كل جودة و فعالية . السؤال المطروح هو كيف الوصول إلى الكفايات : الفهم ، و التحليل ، و التركيب ، و الحجاج ، و النقد ، و البحث ،الخ . عكس بلجيكا التي تنهج أسلوب الادماج الذي عرف تجربة سيئة في مدارسنا ، لدى فرنسا تقنية مختلفة بعض الشيء يمكن الأخذ بها و الاستئناس بها : 1) التعلم في السياق – 2) التعلم مع هدم السياق – 3) التعلم في سياقات جديدة . يرتكز هذا الأسلوب الفرنسي بقوة على البيداغوجية الفارقية نظرا لنجاعتها و خصوبتها التنظيرية و أيضا بسبب امتلاك البلد القوة المادية و البشرية و العلمية .
- إرساء الموارد : هي نقطة البداية أو ما يسمى عرفا بالدروس . و لعل استبدال التسمية هنا يوجد ما يبرره ، إذ أن الموارد عكس الدروس تشمل عالم الطفل داخليا و خارجيا . أما الدروس المعتادة فإنها تكتفي بل ترتكز حصريا و بصفة عامة على اتباع الخطوات الميتودلوجية المقترحة في المقررات الدراسية. هذا أمر مطلوب لا شك فيه لكنه غير كاف . فإذا كنا غير قادرين في نهاية حصة درس ما على تقويم التعلمات بشكل عقلاني و صريح و ذلك لعدة اعتبارات و أسباب موضوعية و ذاتية و احيانا إدارية صرفة ، و ان هذه الدروس لا ترقى إلى مصاف النضج و الاكتمال لهذه الأسباب ؛ فإنه آن الأوان لتبني نهج جديد يقطع مع مفهوم الدرس كوحدة ديداكتيكية معيارية أي التخلي نهائيا عن بيداغوجية الأهداف . يتحدث محمد الدريج عن التعليم « الهادف » ، ذلك التعليم الذي يفضي في نهاية المطاف إلى منتوجات ذات مواصفات محددة و مؤشرات معروفة . فإذا كان المثل الشائع يقول : ( جميع الطرق تؤدي إلى روما ) هو كلام مقبول على أي حال ، فإن جميع الدروس لا تؤدي حتما إلى الكفاية و التجربة شاهدة على ذلك . و السبب في ذلك يرجع للكفايات التي تحتل مكانة الأهداف دون ربط مفهوم الهدف بتصور « تقني » تجزيئي للعملية التربوية . لذا فإن التخطيط المحكم و الاستراتيجية الواضحة تفرضان نفسهما بقوة ، هنا ، لإحداث الفارق . لصياغة أو أجرأة الكفايات ، يجب اتباع الخطوات التالية :
- 1)- مجموع الاجراءات الخاصة : تنتج المهارة
- 2)- مجموع المهارات المدمجة : تنتج القدرة
- 3)- مجموع القدرات المدمجة : تنتج الكفاية
- 4)- مجموع الكفايات المدمجة المرتبطة بتكوين الشخصية : تنتج التكيف مع الحياة .
هذه الترسيمة توضح مدى تسلسل منطق الكفايات و الهدف الذي تنشده بدون لبس أو غموض : التكيف مع الحياة. للتلقين / أو التبليغ جانب مهم في هذه العملية لا يجب نكرانه بأي حال من الأحوال . باختصار ، الكفاية حسب الدريج هي إمكانية غير مرئية ، لكنها تتضمن انجازات / و أداءات . الدرس ، هنا ، ما هو إلا تعلة و ما خفي هو أكبر . المهم في النهاية هو أن يكون التلميذ قادرا على حل وضعية معقدة نسبيا ما و متفردة تماما للتيقن انه حقا استفاد من تعلمه . لكن عامل الزمن أحيانا كان يقف في وجه التعلم فتنعدم الكفاية بعد سقوط الارساء. أظن أن الجميع متفق على أن زمن التعلم هو العائق و على هذا الأساس ، و اعتمادا على « الوحدة الديداكتيكية » في البرمجة الجديدة للتعلمات ، لقد تم تخصيص :
ست (6) وحدات ديداكتيكية في كل سنة من السنوات الأربعة ( 1 و2 و3 و4 ) عربية و فرنسية
الغلاف الزمني للوحدة الديداكتيكية هو 5 أسابيع ( 4 أسابيع للتعلم الفعلي + 1 أسبوع للتقويم و الدعم )
تنتظم السنة الدراسية في أسدوسين
مدة كل أسدوس سبعة عشر أسبوعا ( 17 ) من الدراسة الفعلية
المدة الزمنية للحصة الواحدة لا تقل عن 1 ساعة ( 55 دقيقة )
البيداغوجية المفترضة : البيداغوجية فن وعلم . نصيب الفن فيها يغطي مساحة كبيرة جدا مقابل الممارسات البيداغوجية المبنية على قواعد علمية و ميدانية معترف بها عالميا . و نقصد بالذكر البيداغوجية الصريحة التي تطبق الآن في أمريكا الشمالية و كندا . اولا يجب أن نعترف بعدم وجود نظرية بيداغوجية في الموضوع و أن كل ما هنالك هو فقط مقاربات و تقنيات أكثر أقل تحكما في قوانين التعلم . و مع ذلك في هذا الميدان ، كممارسين ، لا بد من إيجاد طريقة ما تجعل المتعلم بوجه عام ، و الطفل على الاخص ، في قلب الاهتمام و التفكير و الفعل خلال العملية التربوية التكوينية مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الطفل المغربي . كيف الوصول إلى ذلك ؟ أي خطة يجب اتباعها تكون مدروسة و معلنة باتفاق الجميع .. ما هي الأساليب و التقنيات التي من شأنها مساعدتنا في تحقيق ما نصبو إليه ؟ في واقع الامر، يجب أن ننظر إلى الكفايات كمحطات نهائية ، شاملة و مدمجة للمعارف و لمختلف مجالات الشخصية. بلغة العصر نقول : الاستثمار .
- البيداغوجية البنائية : جان بياجي هو الأب الروحي للبنائية غير أنه لم يكن مربيا و لا بيداغوجيا . لقد كانت اهتماماته منصبة بالأساس على الذات الابيستيمية ، من هنا كانت الصعوبات في تطبيق قوانينه السيكولوجية على باقي أطفال العالم . أما الفرد ، عكس ذلك ، المتجذر في التاريخ و المتفاعل مع المحيط أو المجتمع الذي يتبادل معه التأثير( تحديد منطقة القرب من النمو على حد تعبير فيكوتسكي الروسي) فهو شخص قادر على بناء تعلماته . هذه الرؤية الجديدة ما كانت معروفة في سويسرا بسبب الحرب الباردة القائمة انذاك . أما الرؤية السوسيوبنائية فإنها تنظر إلى القسم كأنه عبارة عن « مجتمع » حي يزخر بالتفاعلات و التجاذبات لكن هذا « المجتمع » غير طبيعي .. الذي لم يتجاوب بسهولة مع هذه الرؤية (السوسيوبنائية ) و بالتالي بدأت تفقد شيئا فشيئا بريقها في الآونة الأخيرة بسبب طابعها الفلسفي الوجودي الذي لا يقدر عليه بتاتا الطفل .
و في هذا السياق ، فقط للاشارة، من الصعوبة بمكان أن يبني التلميذ (ة) تعلماته في بداية تقديم الدرس( !) على أساس «الوضعيات» المفترضة في الكراسة . كيف يمكن أن يبني مفاهيمه و تعلماته لوحده أو مع أقرانه كأن يستبق مثلا في طرح الفرضيات أو القيام بالتخمينات أو مجرد تقديم أسئلة استكشافية تدور حول رهانات الموضوع و معنى التعلمات . و الحق يقال أن مثل هذه القدرات غير متوفرة حتى مع التلاميذ المتفوقين بالاحرى مع الضعاف بسبب قلة الخبرة و التداريب .. و.. ، و مع ذلك نستمر في تقديم مثل هذه الوضعيات التحفيزية (!) في بداية كل حصة : لكن الأستاذ (ة) هو من يجيب في أغلب الاحيان عن الأسئلة التي يطرحها و يضع النقط الحسنة . من الممكن فعلا للبيداغوجية البنائية ان تقدم لنا الحل لو التزمنا بشروطها الصعبة ، لو طورنا أساليب و تقنيات أخرى تضمن الحد الادنى من التعلمات الاساسية المطلوبة بطرق واستراتيجيات مختلفة عما نفعله .
- بيداغوجية المحتويات : أو أساليب التلقين و الالقاء و نقل المعرفة .. هذا أمر مفروغ منه . لكن إعادة النظر في مفهوم « التلقين » هو أساسي لمواكبة التغيير و بالأخص في البرامج الدراسية الجديدة و المنقحة التي أفردت حصصا زمنية مهمة لارساء الوحدة الديداكتيكية ( 25 يوم / 30 يوم ) . هذا لا يعني أبدا أن التلقين يجب أن يستمر طول هذه المدة .. أهداف مضمرة و منهاج متنافر و استهداف الكم . عندما لا يترك التلقين هامشا من الحرية و المبادرة و نقد الذات و تأهيل الشخصية و التحفيز و حل المشكلات، فإنه لا يصبح ترويضا فحسب بل يسهم في تنمية شخصية غير سوية تكون خطرا على المجتمع . بالاضافة إلى ذلك ، من الضروري محاربة ما يسمى بـ « الثقل المعرفي الزائد » الآتي من هذه البيداغوجية نفسها والذي لا يخدم بل يعيق عملية التعلم و ينسفها من الأساس ؛ فلا يعرف المتعلم (ة) كيفية معالجة هذا الكم الهائل من المعارف و المعلومات التي تنزل عليه من حيث لا يدري و بلا توقف . و لهذه الأسباب لا نجد معنى للتقويم المعمول به ( مسار ) المبني هكذا على احتساب اعتباطي لمعدلات المواد التعلمية ، كما ان أغلبية المدرسات و المدرسين يشتكون من معضلتين كبيرتين تقف في وجه التلاميذ وهما : عدم « الفهم » و قلة « التذكر» و النتائج المترتبة عن ذلك من عدم نقل و تحويل التعلمات في سياقات أخرى .! و هذا هو الأهم .
- بيداغوجية الوضعيات : تنص الوثيقة على مبدإ اعتماد المداخل البيداغوجية الثلاث للمنهاج : - مدخل القيم ؛ - مدخل التربية على الاختيار ؛ - مدخل الكفايات . يتم التركيز في مدخل الكفايات على إعطاء معنى للتعلمات و إضفاء النجاعة و الفعالية على الممارسة التعليمية التعلمية و الاهتمام بحاجات المتعلم (ة) . و للمزيد من التوضيح ، إعطاء معنى للتعلمات يعني إذن اعتماد وضعيات و مهمات مركبة و دالة يتفاعل معها الطفل بكل تلقائية . هل هذا ممكن ؟ كيف ؟ و متى ؟ لنتعرف على الوضعية .
- خصائص الوضعيات – المشكلة :
1) – تنتظم الوضعية - المشكلة حول تجاوز العائق ( طبيعة العائق )
2) – ينتظم العمل حول وضعية ملموسة ، تسمح فعلا للتلميذ (ة) بصياغة فرضياته و تكهناته .
3) – ينظر التلاميذ إلى الوضعية التي اقترحت عليهم كلغز حقيقي يجب حله ؛ يكونون قادرين على الاستثمار: وهذا شرط لكي يحصل نقل الوصاية la dévolution /المشكلة أصبحت « قضيتهم »
4) – لا يمتلك التلاميذ ، في البداية ، وسائل الحل المبحوث عنه ، بسبب وجود العائق الذي يجب تجاوزه للوصول إليه . إن الحاجة إلى الحل هي التي تدفع التلميذ إلى إعداد او امتلاك جماعيا الوسائل العقلية التي ستصبح ضرورية لبناء الوضعية .
5) – يجب أن تتسم الوضعية بمقاومة كافية لكي يستثمر التلميذ(ة) من خلالها معارفه السابقة و كذلك تصوراته ، بالشكل الذي يؤدي إلى مساءلة هذه المعارف و إيجاد أفكار جديدة .
6) – لا يجب أن يكون الحل مع ذلك صعب المنال من قبل التلاميذ . الوضعية - المشكلة ليس وضعية ذات طابع إشكالي . يجب على النشاط ان يقام في منطقة القرب من النمو ، مناسب للتحدي العقلي المراد مواجهته و استبطان « قواعد اللعبة »
7) – استباق النتائج و التعبير الجماعي عنه يحدث قبل البحث الفعلي عن الحل ، « المخاطرة » من طرف كل تلميذ (ة) هي جزء من « اللعبة »
– العمل بالوضعية - المشكلة يتم هكذا حسب اسلوب الحوار العلمي داخل القسم ، محفزين الصراعات السوسيومعرفية المحتملة .
9) – المصادقة على الحل و تصحيحه لا يقدمه المدرس (ة) من الخارج ، و لكن ينبع من أسلوب التشكل البنائي للوضعية نفسها .
10)- إعادة الفحص و المعاينة للمسلك المتبع هو فرصة للرجوع التعقلي ، ذو طابع ميتامعرفي ( ما وراء المعرفة ) ؛ يساعد التلاميذ في تحديد الاستراتيجيات التي استخدموها بطريقة استكشافية ، و تحويلها إلى إجراءات مستقرة ، جاهزة و مهيأة للوضعيات – المشكلة الجديدة .
على ما يبدو من الصعب جدا ، للوهلة الأولى ، الانطلاق من الوضعيات – المشكلة في بداية " الدرس" لأن ليس هناك دروس بمعنى الكلمة و إنما سلسلة من الاجراءات الخاصة تنمو و تتطور إلى أن تصل إلى مرحلة من النضج . ثم تأتي الوضعيات- المشكلة لتلعب دور التجنيد و الرقابة والاستثمار . أما الاغراءات التحفيزية و التعليمات الرسمية التي تنادي بأهمية اتباع خطوات الوضعية في بداية كل درس فإنه من الممكن ان تكون وضعيات بدون « مشكلة » لتسهيل مأمورية التلاميذ.. كتقديم أمثلة بسيطة و التمرن عليها و تخزينها في الذاكرة و استدعائها بكل مرونة و يسر .. و هذا ما تسعى إليه البيداغوجية الصريحة في المقام الأول .
- البيداغوجية الصريحة explicite : ( أو التعليم المباشر ) يريد تحقيق المهام التالية ( او الاجابة عن هذه الأسئلة ): ماذا أفعل؟ أين ؟ متى ؟ لماذا أٌقوم بذلك ؟ كيف يتم ذلك ؟ ترتكز البيداغوجية الصريحة على التعليمات المباشرة بلا غموض . تنطلق من البسيط إلى المعقد و تستخدم ميكانيزمات التكرار و المراجعة قصد استهداف الذاكرة البعيدة المدى و تخزين المعلومات و ضمان بقائها و تطورها إلى كفايات او خبرات ميدانية في نهاية مسار التعلم :
- تعليمات ممنهجة
- تقديم منظم للمعارف
- تصحيح الأخطاء من طرف المدرس
- اللجوء إلى التكرار
- استدعاء الذاكرة
- تنمية و تطوير الميكانيزمات التلقائية
- التعرف و التحكم في أكبر عدد من الأفعال و الاحداث
- التمارين
إنها بيداغوجية طموحة و جذابة . منهجيتها متقدمة جدا مقارنة مع الطرق التعليمية المعروفة سابقا لأنها تتوخى الملاءمة و التوفيق بين حدين يبدوان متعارضين غير قابلين للدمج : المضامين الضرورية بجبروتها من جهة ، و الكفايات الأساسية بتعقيداتها من جهة اخرى . كما أنها تولي اهتماما متميزا بكيفية تدبير المادة التعلمية وفق أحسن الأساليب المتطورة علميا ( العلوم المعرفية ) و كذلك تدبير الفصل تنظيما على مستوى الفرد و الجماعة .. كل هذا لا يخلو من التشويق و الاعجاب . في هذا السياق ، يظل التشبت والالتصاق بـ " مشروع المؤسسة " هو الأفضل و الحل الامثل لتفادي سوء تدبير التعلمات اثناء تنزيل المقرارت و البرامج الدراسية و جوانب أخرى أكثر حساسية و خطورة كـ : استقلالية المؤسسة و التدبير عبر النتائج و الاهتمام بالحياة المدرسية و الدورات التدريبية في البيداغوجية و ديداكتيك المواد و تقنيات التنشيط و استغلال التكنولوجية الحديثة ،الخ . نتمنى أن نكون صادقين مع أنفسنا لاعادة ترتيب البيت الداخلي من جديد على أسس متينة من المحبة والتعاون و الرقي و الاضطلاع بالرسالة .