التدريـس :
واجب التلقيـن و وسائل التعلــم
Philippe Meirieu Professeur à l’université LUMIERE-Lyon 2
كان يكتب القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي " من يطلب العلم بطريقة جنونية فليرسل ابنه إلى المدرسة لكي يعرف كيف يفكر المعلم ؟ ". في عالم يتسم بالتعددية و يرى ثوابته الأكثر رسوخا تتأرجح ، فإن هذا السؤال يعتبر أكثر أهمية من أي وقت مضى . لماذا نرسل أطفالنا إلى المدرسة ؟ ماذا نريد أن نلقن لهم ؟ قال رينيه شار " إرثنا لم تسبقه أية وصية ". وصحيح أننا لا نعرف تماما ما يجب علينا أن نتركه لأطفالنا . آباء ، و مدرسون ، خبراء و سياسيون غير قادرين على الاتفاق على أهداف و غايات التعليم . المدرسة ـ " المدرسة الاجبارية للجميع " التي نناقشها في هذه الورقة ـ مقسمة بين وظائف متعددة و متناقضة : تدريس التحكم في اللغات التقليدية وتعليم التكنولوجيا الجديدة ، تلقين التراث وتمكين فهم القضايا المعاصرة ، أخذ بعين الاعتبار الاختلافات و الفروقات وضمان ثقافة مشتركة ، توفير النجاح في الامتحانات وتعلم قواعد الحياة في المجتمع ، تكوين على احترام البيئة والسلامة الطرقية ، تربية على الصحة ، وقاية من مرض الإيدز ، إبلاغ عن مخاطر تعاطي المخدرات و أيضا أشياء أخرى .
هذا التضخم يؤدي حتما إلى فقدان شرعية المعارف المُدَرَّسَة لدرجة أن وضعيات التعليم في كثير من الأحيان تشبه ، والغريب جدا ، لـ " صراعات في الرأي" : المعلم له رأي ، و يدافع عنه . و التلميذ له رأي آخر . ويجب على أحدهما أن يستسلم في صراع على السلطة و أن لا شيء ولا أحد يبدو قادرا على التحكيم . في معظم الأحيان ، يتنازل التلميذ ، ولكن على طريقة الاضراب : يوافق على الامتثال للمعلم ، في اعتقاد وأن يفعل ما يطلب منه ... مع الاحتفاظ بالحق في رفض أي قيمة لأنشطته المدرسية بمجرد أن يلج القسم . وهكذا ، فالتعليم ، وحتى عندما يمارس في المدارس العمومية ، فإنه يلعب ، في كثير من الأحيان ، في مكان و وفقا لأسلوب خاص ... منزوع الشرعية الخارجية وحيث أن المعلم يجب ، في كل لحظة ، أن ينجح في فرض سلطته . فإذا كان هنالك أزمة المدرسة ، فهي موجودة هنا . في هذا الاختفاء التدريجي لكل مرجعية ثابتة و مستقرة ، في تحدي كلي مشترك و مقبول من لدن جميع الأطراف . في هذا التصعيد في المواجهة - مفتوحة أو مخادعة – التي تبدو أنها تميز ، أكثر بكثير من حالات العنف الصريحة ، المدرسة الفرنسية اليوم .
يتطلب مثل هذا الوضع ، بكل بداهة ، معالجة سياسية . إن قضية المعارف المُدَرَّسَة وأهداف التمدرس الاجباري لا يوجبان الاستمرار في المعالجة بطريقة امبريقية ، وفقا لعلاقات القوى بين جماعات الضغط . القفزات الفجائية الأخيرة للمؤسسسة المدرسية تبرز أنه من المستحيل تطوير الأمور إذا اشتغلنا بالإضافات وبتر أطراف الوضعية . مثل هذه الطريقة لا تنجح إلا في استقرار التوازن الهش ، على حساب الاتساق الحقيقي للتكوين . والأسوأ من ذلك ، أنها تثبت ، حتى بداخل النظام المدرسي ، نقاشا الذي لا يقدر ، الذي لا يجب ، أن يتقرر داخليا : شرعية المدرسين و المعارف التي يدرسونها لا يمكنها أن تأتي إلا من خارج المؤسسة . مأموريتهم ، الفكرية ، الاجتماعية والسياسية ، يجب أن تكون محددة من قبل الدولة . في كل مرة يبحثون ليحلوا محل الدولة ، في بحثهم إذن عن تعزيز شرعيتهم ، فإنهم يضعفونها . و قد ضعفت ، و بالتالي يلزمهم أن يفرضوا أنفسهم . أن تفرض نفسك على التلاميذ وعلى وأولياء أمورهم ، أن تفرض نفسك على الجسم الاجتماعي الذي لم يكن جزءا مساهما في تحديد مأموريتهم .
لذلك من المستعجل أن التمثيل الوطني – البرلمان – يهتم بالقضايا الرئيسية للتربية الوطنية ، وقبل كل شيء في البداية ، القضايا المتعلقة بالتمدرس الإجباري : لتحقيق الاستقرار بسرعة كبيرة في المحتويات ( البرامج و أهداف نهاية السلك) كما أيضا في الشروط (من حيث عدم تجانس الأقسام ، اللجوء في حالة وجود صعوبة لدى التلميذ أو إجراءات التوجيه).
ولكن ، نظرا لضرورة و أهمية هذه الشراكة ، فهي لن تسمح بأن تقوم بدون التفكير البيداغوجي الخاص بها على ما يحدث أثناء العلاقة بين التعليم والتعلم . بما أننا نريد دمقرطة ولوج المعارف وعدم حجزها لمن يطلبها أو يعرف لماذا ، وكيف يمتلكها ، فإنه من غير الممكن ، في الواقع ، سماح الاشتغال على نطاق واسع للتواطوءات السوسيولوجية العشوائية في المؤسسة المدرسية . يجب أن نجهز أنفسنا بأدوات ذات معقولية و وضوح لـ " الشيء البيداغوجي " ، وعلى وجه الخصوص ، الوسائل لكي نفهم مقاومة التلاميذ الذين يرفضون أو لا يصلون إلى التعلم .
التلقين هو ضرورة و عدم التلقين استقالة ...
لا يوجد مثيل حيث أن إنسانا قد يصل الى حالة البالغين دون تدخل في حياته من غيرهم من البشر، و هؤلاء البشر هم كبار . الطفل ، في الواقع ، يأتي إلى العالم وهو في عجز تام و بلا حد ولا يمكنه أن ينمو إلا إذا " استدْخِل في العالم " ، إلا إذا الكبار" قاموا بالتقديمات " و تكفلوا بمجيئه في هذه الدار . هنا ، يجب تعليمه قواعد أولئك الذين استقبلوه و رحبوا به . هذا الأمر ليس سهلا : الاندماج في الميدان هو دائما مؤسسة " التدجين " ، و مسألة المواقيت التي يجب احترامها ، وعادات يجب اتخاذها ، و رموز امتلاكها ، و واجبات التي يجب الخضوع إليها . يتميز الانسان ، يفسر علماء الأنثروبولوجيا و بحاث العلوم المعرفية على حد سواء ، بقوته الخارقة و الرائعة في التعلم . ولكن على الجانب الآخر الخفي من الميدالية ، و هو أن الطفل يجب أن يتعلم من كل ما سوف يسمح له بأن يعيش مع رفاقه .
لذلك فالشخص الذي تلقى تربية لا يمكن أن يختار لنفسه ما يحتاج إليه إلى أن يكون تربية . لم يختر أطفالنا اللغة التي سوف يعبرون بها ، و لا العادات و التقاليد التي سوف يعيشون بها . كما أيضا لا يستطيعون ، في المدرسة ، اختيار المواد التخصصية التي سيكون من الواجب تعلمها لكي يدمجوا في المجتمع . لو كان الطفل باستطاعته على أن يختار موضوعاته التعلميه ، فهذا معناه أنه قد تربى بالفعل . ولا " حترام " يمكن تبريره هنا للامتناع التربوي . لدى الكبار أمر" سبق الواجب " . لا يمكن التخلي عن الطفل دونما إدراجه في التاريخ .
لا شك في أن مسألة التلقين كانت تطرح بالأمس بشكل أقل مقارنة مع وقتنا الراهن . حنة أرندت ، في أزمة الثقافة تفسر، بالفعل ، أن المدارس الآن يجب أن تلعب الدور الذي ، في العصور السابقة ، قد كانت تقوم به الأسر بشكل طبيعي . لم تكن هناك في زمن بعيد ، الاختلافات من جيل إلى آخر كانت محدودة ؛ و الأجيال تتداخل فيما بينها بشكل كبير بالشكل الذي أن الرباط بينهما كان مكفولا إلى حد ما عن طريق الاشباع imprégnation . كان التلقين يتم هنا ، في الأيام الروتينية من السنوات الأولى من الحياة ، ثقافة كلها كانت تترسب و تسمح للثقافة المدرسية بأن تتطور على مكتسب مستقر نسبيا . بين أجدادنا وآبائنا ، هناك عدة أشياء كثيرة لم يتم تعليمها عن وعي : لقد تم تلقينها و نقلها في نوع من الاستيعاب البطيء ، دونما التفكير فيها حقا ولا أن تكون نتيجة عمل منظم وممنهج .
"القلق الأسري " هو قلق فاشل ، أسوأ مما كان في أي وقت مضى ... حتى لو كان غيرعادل في العمق لوصم " الاستقالة " من الآباء والأمهات الذين يعانون أيضا ، من وضعية لم يسبق لها مثيل تماما . و الحال ، أن المربين ، منذ زمان إلى حد الآن ، اشتغلوا مع أطفال أيتام حقيقيين أو غير حقيقيين . يدركون أنهم يعززون نقل الثقافة لكي يتمفصل الفرد في التاريخ ، لتمكينه من فهم الحاضر على ضوء الماضي لابتكار المستقبل . أبعد من أن يتخلوا عن التلقين ، فإن "البيداغوجيين التاريخيين" هم من أصابهم الهوس : باسم مبدأ القابلية للتربية ، يريدون على الاطلاق النقل و التلقين ومنذ إيتارد واختراعه للألعاب التعليمية الأولى لتعليم فيكتور أفيرون - و وصولا إلى ممارسي " بيداغوجية عبر الأهداف " و " بيداغوجية التحكم " - مجزئين المعرفة في تصنيفات عالمة للتأكد من اكتسابها - يصرون على التعليم و القيام بالتعلم . إلى درجة الاصابة أحيانا بالمرض او السقوط في العنف و التلاعب . فلأنهم قد كانوا على اتصال مع الأطفال الأكثر عصيانا ، فإن البيداغوجيين قد عاشوا و وصفوا قبلنا الجموح و الاحتدام للارادة التربوية ، و إغراءات المدرس في وجه المقاومة والرفض : إبراز القوة ، والرضى بالخضوع في الواجهة ، التخلي و إبعاد العصاة ، و الالتفاف على حريتهم وتقييدها . فهم يشهدون ، في كتابات خرقاء أحيانا ، ما يعيشه الآن العديد من المدرسين . وكلهم يعبرون ، بطريقة أو بأخرى ، على نفس الاكتشاف الضروري والصعب : لا بد من التلقين ، ولكن لا شيء يلقن حقا إن لم يكن مستعاد بحرية من طرف الفرد الذي يتعلم .
التلقين هو طريق تعليمي مسدود ...
والمشكلة ، في الواقع ، هو عندما تواجه إرادة إرادة آخرى : " أنت سوف تعمل و أنا هو الضامن و المكلف ؛ و لن أتركك حتى تفهم . سأشرح لك مرة ثانية حتى تعرف ماذا تفعله و تقدم لي في المقابل الحجة و الدليل . عزيمتي لن تقهر . وسوف ينتهي بك الأمر للاستسلام ... " نحن هنا في موقف الرجل البالغ الذي يعتقد أنه يمكن علاج فقدان الشهية بواسطة التغذية عبر الأنبوب " : سوف تأكل لأنني أريد ذلك . سوف تنام لأن هذا قراري . سوف تكبر لأنني أرغب في ذلك . " رغبة تغتاظ و تقوي العناد والاصرار . ثم تتأرجح العلاقة في النهاية في مواجهة جهنمية حيث أن المدرسين غير مستعدين لها و يخرجون منها ، في كثير من الأحيان ، بجراحات . لأنه عندما يُتْرَكون في نهش العلاقة الثنائية ، يجب على المعلمين مواجهة الشباب الذين يمتلكون أسلحة الإقصاء : القدرة على التعرف على نقاط الضعف في الآخر، و الحد من نزيف الجراحات .
في الحقيقة ، إن وظيفة التلقين ، عندما تدعي أنها تقام بموجب مرسوم ، تحمل دائما إنكارا ضمنيا لمكان الفرد في تربيته الخاصة . لأنني لا يمكن أبدا ، على الرغم من كل جهودي ، أجبر أي أحد بأن يتعلم . قد يكون من الممكن إرغامه على تكرار جملة ، و أداء إشارة ، و تطبيق قاعدة ... لكن لا يوجد شيء هنا من شأنه أن يبرز تعلما إنسانيا على وجه التحديد ؛ نظل هنا في سلم الترويض أو نظام " الميكانيكا الاجتماعية " .
كثير من الفلاسفة ، فضلا عن ذلك ، وعلى الرغم من " نظرية المعرفة " المؤطرة بقوة ، يكشفون عن وجود فجوة غير قابلة للاختزال في كل تعلم : من مينون أفلاطون إلى مفارقة آلة القيثارة في الأخلاق النيقوماخية لأرسطو، من القديس أوغسطين إلى ديكارت ، من باسكال إلى روسو ، من برغسون إلى جانكيليفيتش أو حتى إلى فوكو و إلى دولوز، فإننا نجد نفس التيمة المستمرة والباقية للتعلم كخطر غير قابل للاختزال أمام الظروف التي تسمح بظهوره . حسب طريقتهم ، فإن معظم البيداغوجيين لا يقولون شيئا آخر : مونتيسوري ، و فريني ، و كوزيني ما فتئوا يكررون أن المعلم يجب أن يصاحب ولكنه لا يمكنه إلا أن يصاحب فقط . ممنوع القيام بفعل في مكان الآخر . حتى رفض التدريس عند روجرز ما هو ، بلا شك ، سوى تعبيرا مواتيا ، في سياق علم النفس الأمريكي ، للحقيقة اليقينية البناءة " ما نتعلمه حقا هو ما قد حصلنا عليه بأنفسنا ". و جاكوتوت ، في الأخير ، الذي ، في تحريض قوي ، دافعا حيلة روسو إلى أبعد حد ، يعتقد أنه لا يمكننا أن ندرس سوى ما نجهله : عندما نعرف ذلك ، نفسره و نمنع الآخر من اكتشافه ... بالتأكيد ، جاكوتوت يدفع بالحدق والمكر ليتركنا نعتقد في أن الجهل هو الذي يعمل في حين أنه ، بالأحرى ، الاستدراك ، و اعتدال المدرس الذي ، في الوقت الذي يلقن ، يترك للآخر مساحة كافية لكي يتعلم .
في واقع الامر ،التعلم ليس سهلا بأن يختزل في الفئات التقليدية للسببية : و السبب ، هو البحث في فعل شيء نجهله و ذلك بممارسته . و المقصود هنا هو القرار الذي لا يمكن لأي أحد أن يتخذه في مكان شخص آخر : " أنا لا أعرف الكلام ولكن لا أستطيع أن أتعلم كيف أتكلم إلا عن طريق التحدث . أنا لا أعرف حل معادلات ولكن يتوجب علي أن أتعلم ذلك بالتغلب على مخاوفي ، و كذلك عندما أنخرط في قراءة كتاب متجاهلا الصعوبات التي سوف تعترض طريقي ... " . وهذا هو الحال مع كل شيء أستطيع أن أتعلمه و إنجازه ، بدءا من الدرايات الأكثر تفاهة إلى الأنشطة الأساسية للإنسان : لا يمكن أن ننتظر معرفة كيفية السباحة لكي نذهب إلى المسبح و بالمثل الانتظار معرفة الحب لكي نحب ...
إننا هنا نواجه صعوبة توجد في قلب التفكير البيداغوجي : يجب أن أكون وفيا لواجب أمر التلقين ، وفي الوقت نفسه ، أسمح للتلميذ بأن يمتلك بذاته ، في اتباع نهج يكون فيه هو الفاعل ، المعارف التي يجب علي تلقينها . ولأنه ، بالضبط ، يرفض أن يختار بين هذين المطلبين فهذا ما جعل البيداغوجي يقوم بالفعل البيداغوجي .
التربية هو القيام بالتوسط " ليعمل كل واحد بنفسه " (Pestalozzi).
أصبح من الشائع أن نربط اليوم أزمة المدرسة بفقدان معنى المعارف المدرسة . ومع ذلك ، فقد أشار التقليد البيداعوجي منذ فترة طويلة ، حسب عبارة ديوي ، أن " كل درس ينبغي أن يكون جوابا ". ولكن هذا التلقيد خلط طويلا بين المعنى والفائدة . في محاولة لإظهار المعارف كحاجة ضرورية لحل مشاكل أو فهم حالات ملموسة ، فإنه أعطى امتيازا للمعارف الأداتية ، إن لم يكن معارف ـ الفعل الأكثر امبيريقية . باسم " التجربة عن طريق الخطأ " المعلنة من طرف فريني ، أحال التقليد المرامقة إلى رمز وثني طقسي ، مشكلا خطورة إبعاد التفسيرات النظرية الأكثر تعقيدا مستهدفا فعالية فورية . لكن بحلول سنة 1960، كان لويس ليجراند ا يدافع من أجل بيداغوجيا الدهشة ، مشددا على البعد الرمزي للمعارف و رافضا اختزالها في المنفعية .
و نظرا لاتسام هذا المنظور بالراهنية ، بشكل أدق، فإن الطابع المنفعي للمعارف المدرسية مرفوض من قبل التلاميذ أنفسهم ، سواء ما يتعلق بنجاحاتهم الخاصة (لم يعد ينظر إلى المدرسة كأداة للرقي الاجتماعي) أو فيما يرجع لقدرتهم على مساعدتهم على فهم العالم . فلا فائدة في إنهاك أنفسنا لتفسير منفعية المعارف المدرسية للتلاميذ ... هذه المعارف هي مسبقا لا أهلية لها . لا نجعل شخصا يستمع للعقل و هو خارج عن العقل .
يجب أولا إعادة توطيد المعرفة في نظام الرغبة ، و إعطائها مكانة داخل الفضاء الرمزي للتلاميذ . و الحال ، لقد تخلت المدرسة عن الرمزي لفائدة السوق . والت ديزني ، والمانغا ، و أفلام الرعب الأمريكية جمعوا ثروات من خلال استغلال المساحة المتبقية الفارغة من قبل علمانية باردة . بعدما يفرغون كل ما لديهم من مصروف الجيب في ألعاب الفيديو والأفلام السينمائية الرائجة ، يعود الأطفال إلى القسم " لأن هذا إلزامي" وللحصول، إن أمكن ، على بعض النقط و الملاحظات تسمح لهم بـ " الحد من الضرر". لا شيء من كل ما هو ضروري للإنسان نعثر عليه في المعارف المدرسية ، الكل مسترجع من قبل " البيداغوجية المصرفية "، كما كان يقوله باولو فريري .
يجب أن نعمل في هذا الميدان إذا كنا لا نريد أن نترك المدرسة فارغة من كل مضمون : سوف لن تجد طريق الرغبة في التعلم إلا إذا سمحت باكتشاف ثقافة كونية عالمية تعيد بناء سلسلة النسب généalogique وترمم بنوة " الإنسان " . ولهذا ، يجب إيلاء الاهتمام ، في مختلف الثقافات المعبرة ، إلى ما يرن ما وراء كل أحد ، يمس الثوابت الأنثروبولوجية ويربط الكائن الفريد مع أقرانه . لا تنازل كيفما كان في هذه العملية ، بل على العكس تماما . مطلب قوي الذي يمفصل الشخصية الحميمة والعالمية . لأن هنا حقا هو الرهان في كل تربية : فنحن لا نساعد إنسان في البناء و نجبره على التخلي عن تاريخه وعن تغذية رغبته في أعماق نفسه . لكن لن نساعده ، و بالمثل ، في بناء ذاته و نحرمه مما يمكن أن يمنحه شكلا لرغبته ، إدراجه في تاريخ البشرية ، وربطه بالآخرين في نسب و بنوة حيث يجد الكل مكان " الاعمال العظيمة "، والأسئلة الأساسية للعلم ، والإبداعات الأكثر أهمية في تاريخ البشرية : لاسكو وحساب التفاضل والتكامل ، غاندي وشجرة التملق ، خرائط الكنز والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، هوميروس واينشتاين ، موزارت وهيرودوت ...
من أجل هذا فنحن في حاجة ، كما يدعونا جيروم برونير في كتابه الأخير، للعثور أو اختراع " فن استغلال الأسئلة ، ابقائها على قيد الحياة " ، لأن بهذا ، ليس فقط نعيد الارتباط بين الأجيال ، ولكن أيضا نتعلم التواصل مع أولئك الذين ، اليوم ، يطرحون نفس الأسئلة ، حتى لو لم يقدموا نفس الإجابات . بين النسبية الفارقية ، من جهة ، والتي تعين الأفراد بمقراتهم الاجتماعية والثقافية ، والشمولية العقائدية ، من جهة أخرى ، و التي تتبع الاستعمار من الداخل، فإن هناك مكانة للبيداغوجية حيث يتعرف جميع التلاميذ من خلالها أولاد و بنات على نفس القضايا ، قادرين على تحمل بدون عنف إجاباتهم المختلفة .
" بدون عنف " ، في عالم سلمي وهادئ : هناك بالضبط توجد المشكلة بالنسبة للكثير من المدرسين . لأننا نشهد الآن نشوء بالقوة لظاهرة رئيسية : التلاميذ يأتون إلى القسم بشكل متزايد " تحت الضغط " . المشاكل الاجتماعية ، والاقتصادية ، والعاطفية التي يعيشونها في مكان ما تجعلهم أقل جاهزية للمعارف المدرسية التي تعرض في نوع من الشفافية العقلانية . كل شيء بالنسبة إليهم جلد عميق ؛ خطوط و آلات و تجهيزات مباشرة مع أدنى تفكير ، لا أهمية له بالنسبة للمعلم الذي يدلي به ، و ها هم يخرجون عن الطور . ننظر إليهم نظرة ثابتة وقتا طويلا وهم يظنون أننا نتجسس عليهم ، و حينما لا ننظر إليهم يعتقدون أننا نتجاهلهم . إن العلاقات بداخل القسم ما كانت بالمثل مشحونة عاطفيا ، وفي كثير من الحالات، لم يكن القسم أيضا خاليا من الموضوعات القادرة على تنشيط و تخفيف العلاقات التي تتفاقم .
لهذا السبب فالممارسات البيداغوجية المستلهمة من " الطرق النشطة " و " بيداغوجية فريني " أو ما أطلق عليه جورج شارباك مؤخرا باسم " اليد في العجين " مثيرة للاهتمام . طرق " نشطة " عن وعي و إرادة ، فهي بأي حال من الأحوال " غير توجيهية ". على العكس من ذلك ، تسهل إمكانية الوصول إلى القانون ، إلى قواعد الحياة الجماعية و إلى المعارف الأساسية التي تصبح هنا ضرورية لتنفيذ المهمة المشتركة . عندما يواجه الأطفال تجربة علمية ، عندما يمتلكون بروتوكول العمل ويمكنهم أن يلاحظوا بأنفسهم "ما يعمل" و "ما لا يعمل"، فهم مضطرون ترك علاقة القوى البسيطة . شريطة أن يكون المعلم حريصا على أن أي عضو من أعضاء مجموعة لا يخفي نتائج أو يفرض الصمت على أي أحد ، والتلاميذ ، رغم صغرهم الفائق ، بإمكانهم الوصول إلى المداولة حيث تبنى الحقيقة تدريجيا ، خارجيا بالمقارنة مع التوترات العاطفية والمشاكل الاجتماعية التي من الممكن أن تحدث في مكان آخر . وبالمثل ، الاشتغال على النصوص يمثل فرصة ثمينة بأن نتواجد في مواجهة موضوع موجود و مقاوم ، يقول ما يقول ، و حيث لا نستطيع أن نقول أي شيء إزاءه ... غير أنه يعطي لنا الحق في استثماره داخل الفجوات ، نجرؤ على تأويله و تفسيره في المساحات المفتوحة بين الكلمات والجمل . وماذا نقول عن خريطة الجغرافية ، و رسم مبياني للاقتصاد ، و صفحة للغة أجنبية ؟ كل هذا يشكل موضوعات ثقافية التي يمكن أن تحقق العلاقة ، المُشَكِّلة لبناء الذكاء ، بين الظاهر l’extériorité و الباطن l’intériorité : لأن الواقع الظاهر هو واقع " صعب "، يقاومنا ولا نقدر أبدا فرض قانوننا عليه بالكامل ... ولكنه يتيح لنا ، مع ذلك ، أن " نصنع اللعبة " ، أن نقول : " أنا أفهم " ، " أنا أعرف " ، " أنا أتردد " ، " أريد أن أرى بوضوح " ... فلأن المدرسة أوجدت الكائنات و الموضوعات ما جعلها تسمح بظهور الافراد .
إذن ، المقصود في المدرسة ، هو الخروج من المواجهة وجها لوجه بين الآراء التي تبحث فرض نفسها بالقوة ، التقليد أو ببساطة السلطة . كما نادى به برنار راي على نحو مناسب ، " المدرسة هي المكان الذي نتعلم فيه أن الحقيقة لكلام ما ليست مقتصرة بالحالة من ينطق بها ". الحقيقة تكتشف و تبنى هنا في عملية شاقة من المواجهة ، في عمل حيث نتجرد تدريجيا من طموحاتنا التوسعية ، و من حيث نقبل التشكيك و إعادة الطرح من جديد ، أن نكون مخطئين ، أن نعيد النظر في رأينا . المدرسة هو المكان الذي يجب فيه فك الارتباط لـ "إما نعم أو لا "، هو المكان الذي، على وجه التحديد، يوجد فيه حوار و مناقشة ، و التأمل و النظر قبل الانضمام و الانخراط .
وبالتالي ، إذا كانت لدى المدرسة مأمورية تنشئة التلاميذ ، فذلك من خلال التنفيذ التدريجي للمواقف و الوضعيات التعليمية حيث مواجهة الأشخاص يمكن أن يتحكم فيها شرط الحقيقة . وفي هذا الإطار هو ما يجب القيام به في التعلم الأساسي للتأجيل : تأجيل فورية الانفعلات ، و تأجيل التعبيرغير المنظم للأحاسيس ، و تأجيل الاحكام المسبقة ، و تأجيل قواعد و أحكام العشيرة أو تجمعات الانتماء . يجب أولا " وضع الرماح " يقول مارسيل ماوس في نهاية موضوعه حول الهبة ، آخذا استعارة فرسان المائدة . لا بد من آليات بيداغوجية للتمكن من بناء فضاء مدرسي يسمح للعمل الفكري و يبني النقاش الديمقراطي . في نهاية المطاف ، الرهان أساسي : يجب علينا أن نتعلم الفرق ، من ناحية ، بين الحقيقة الثابتة و المستقرة ـ و لو مؤقتة - من قبل الرجال ، و بين ما يؤسس ، من ناحية أخرى، الحجج المفندة - بفضلهما نتقدم بشكل فردي وجماعي في بناء الحقيقة - ، و ما يشير إليه ، في النهاية ، إلى اختيارات شخصية - تفضيلات فردية مشروعة ولكن لا نستطيع فرضها على أي أحد .
وسائل التعلم
لتحقيق ذلك ، و بعيدا عن اختلافاتهم ، يقترح البيداغوجيون بناء آليات بيداغوجية تخضع لسبعة مبادئ أساسية وهي :
1) رفض العلاقة التناجزية و إستدخال بطريقة ممنهجة " الثالث المنشط " : موضوع الصفقة البيداغوجية ليس هو العلاقة المباشرة التي يعتني بها المعلم مع التلميذ . الموضوع الذي يجمعهما معا يرجع لـ " العالم " ، و يحمل مقتضياته الخاصة التي تتجاوز السلطة ، و الأهواء والانتماءات المختارة لكل الحاضرين.
2) تميز المهمة والهدف : الأساس في النشاط التعليمي ، ليست أبدا هو " المنتوج "، النتيجة الملاحظة مباشرة (وثيقة أعدت بشكل فردي أو في مجموعات ، والواجبات المنزلية والمذكرات ونتائج الامتحانات ) . الشيء الرئيسي هو التقدم المنجز من طرف كل واحد ، و المعارف التي اكتسبها التلميذ و التي يمكن أن يستثمرها ، والطريقة التي استعملها و سمحت له بالنمو . عندما يركز المعلم على المهمة و عليها وحدها ، عندما لا يُقَوِّمُ إلا المهمة la tâche ، فإنه يحث التلميذ على الحدس و التخمين ، على الغش او التحايل ؛ فهو لا يشجع التعلم . العلاقة بين المهمة والهدف علاقة فارقية بين وضعية التدريب و وضعية الإنتاج : في مجال التدريب ، الهدف هو الأول ، و في الإنتاج ، فإنها المهمة .
3) تنظيم التبادل بحيث أن هذا الاخير يخدم تقدم كل واحد : التبادل ، في القسم ، ليس مواتيا تلقائيا للاستثمار من قبل الجميع ، لانخراطهم بالتلمس في معرفة لا يتحكمون فيها حتى الان . المخاطر المتأصلة في كل تعلم تتطلب تعليق أو وقف ضغط تقويم المدرس و يعمل على أن يضمن أيضا أن لن يستخدم بقية التلاميذ السخرية أو الإهانة التي لا تشجع على " شجاعة البدايات " ، التي تحدث عنها جيدا فلاديمير جانكيليفيتش والتي بدونها لا يستطيع أحد أن يحاول القيام بشيء ما زال يجهله لكي يتعلم فعله .
4) تميز الأوقات و الأماكن : العيش معا ، هو التعلم أن كل شيء غير ممكن في كل وقت وفي أي اتجاه ، و أن هناك لحظات للعمل ولحظات للمناقشة ، فضاءات للمبادرة الفردية والتجمعات لسماع التعليمات الجماعية . و هو أيضا الاطلاع على أنه يوجد هناك وقت لتلمس الطريق حيث لا ينبغي أن نخضع للتقويم و وقت آخر للتحقق حيث يعد التقويم ضروري ويسائل كل فرد من الافراد . العيش معا ، هو احترام الرغبة المشروعة للجميع بأن يمتلكوا " فيما يخص الآخر " ويستدخلوا بنيات وهياكل التواصل و التبادل حينما تصبح هذه الاخيرة ضرورية للحياة الجماعية .
5) الاشتغال يصبح عادة و احتفالية ritualiser : لا أحد يصل إلى عمق و حقيقة الكلام بدون طقوس او عادات . العادة التربوية هي إطار ... ليس " إطار مملوء " ، طائفي ، حيث يتخلى الفرد عن كل هوية لصالح المجموعة لكيلا يحصل على وجوده إلا كعضو من تلك المجموعة ؛ لكنه " إطار فارغ " الذي يضمن ، بفضل استقراره وانتظامه ، توزيع الأدوار ، وطريقة تشغيله وحضور لذاكرة جماعية ، أن يكون بمقدور الجميع العمل بدون مخاطر كبيرة .
6) حشد الموارد : هو النتيجة الطبيعية للعناد في إرادة تحقيق نفس الأهداف الثقافية نفسها بدون " تمرير العنف " و لا تشجيع مواقف الرفض أو التستر و الإخفاء . إكثار الموارد ، معناه توفير عدد من الاجراءات الممكنة لتشجيع ودعم الإصرار على التعلم . هو تنويع الأساليب ، والاستخدامات وأنواع العمل مع مرافقة كل واحد لتجنب التشتت ، و التذكير بالأهداف والمساعدة في التقييم .
7) تقديم تدخلات : لا أحد يصل في دفعة واحدة إلى الأهداف التي نرسمها له ؛ في الطريق ، هناك العديد من الصعوبات ، والأخطاء التي لا مفر منها . ليس الخبث او الحثالة هي التي ما ينبغي التخلص منها . الصعوبات والأخطاء ، على العكس من ذلك ، تعتبر فرص التحليل وسبل التفاهم و أوقات سانحة لتقديم تفسيرات أخرى ، اقتراح مداخل أخرى . " التدخلات " ، على هذا النحو ، ليست مجرد " استدراك " ( سد الثغرات ) ، وإنما هي أداة تنظيمية و تعديلية في الأساس ، وسيلة لتحفيز الابتكار البيداغوجي . و هي أيضا ، اليوم ، وسيلة لمحاربة التطور الفوضوي للتدخلات الخارجة عن المؤسسة التربوية بحيث استخداماتها تعتمد إلى حد كبير على الوسط الاجتماعي . وأخيرا، فإنها مما لا شك فيه إمكانية لمكافحة فعالة ضد المنافسة بين المدارس والمؤسسات .
استنتاج
فليكن مسموحا لي ، أن اخاطر بتصوير الأشياء بصفة كاريكاتورية ، مستحضرا في الختام صورتين ، أسطوريتين إلى حد كبير الواحدة والأخرى ، للقسم وللمعلم ولكنهما يشيران إلى اثنين من التمثلات للتلقين وللتعلم .
من جهة ، هناك القسم الذي وصفه ميشيل فوكو في المراقبة و العقاب والذي يمثل نموذجه المثالي في " الفضاء التأديبي للمدارس المعنية بالتعليم المشترك ". نموذج هذه المدراس موروث من الجيش و منتشر في وقت واحد في جميع المؤسسات ذات الرقابة على الأجساد والعقول : المستشفى ، والسجن ، والمصنع . الفضاء المدرسي هنا مهيكل كأنه " آلة التعلم ، ولكن أيضا للمراقبة ، وتحديد الأفضليات ، و المكافأة " . الزمن المفروض يحل تدريجيا في الممارسة البيداغوجية ، يوضح ميشيل فوكو، بالعزل ، والتنظيم ، والمراقبة ، وتحديد المهام والوظائف، و تكليف بالاقامة المدرسية للأجساد والعقول ، واجتناب أي مشكل ، مع استبعاد جميع أنواع الشكوك وكل حالات الطوارئ . مما يعني قبل كل شيء ، في هذا الترويض للأجسام ، جعل العقول في طاعة وانصياع وتسهيل عملية التلقين المختزلة هنا للطاعة المنتجة للتمارين الموحدة .
بالتأكيد ، كانط و دوركهايم حاضران هنا لإضفاء الشرعية على مثل هذا الجهاز : الأول موضحا أنه يجب ترويض الحيوان المتواجد في الإنسان لاطلاق إنسانيته ، و الثاني لتبرير الترويض المدرسي باسم الواقعية الاجتماعية . لكن " الآلة المدرسية " التي يدافعان عنها قد فشلت اليوم : تم إحباطها ، أولا من ناحية ، عن طريق الحسابات الأداتية لأولئك الذين يعرفون ويمارسون بنجاح " مهنة التلميذ " (أولئك الذين يتقنون التظاهر و الادعاء بالخصوع لكي يستخدموا جيدا المدرسة وقيودها في الاستراتيجيات الفردية للنجاح) ؛ و حُطِّمَت المدرسة ، من ناحية أخرى ، تحت ضغط " الأطفال المتفجرون enfants bolides " الذين لا يمكن إدراجهم في أي إطار . إن أسطورة " المدرسة ـ الساعة الحائطية " انهارت على الرغم من جهود أولئك الذين يشتغلون لإنقاذ المظاهر: الفوضى التي في الواقع تحجبها دائما، تتحدث علنا اليوم .
لهذا ، أسطورة بعد أسطورة ، فإنني أفضل أسطورة أخرى ، وهي أسطورة قسم بيستالوزي في مدينة ستانس . في خريف عام 1798، أرسلت الحكومة السويسرية هاينريش بيستالوزي لإدارة دار للأيتام في ستانس . لقد أتى الجيش الفرنسي على احتلال بلدة نيدوال . وكَثُرَ الأيتام المعوزين . وعلى الرغم من تعاطفه السياسي مع الثورة الفرنسية والجمهورية الهلفتيكية فإن بيستالوزي اعتبر الوضع لا يطاق إنسانيا و قَبِلَ بالمهمة الموكلة إليه . هنا ، لمس أعماق الفقر، إذ وجد أطفالا في" وحشية تامة و متعودين على التسول " ، " غطاهم الجرب إلى درجة أنهم أصبحوا غير قادرين على المشي ، والجبين متجعد من جراء عدم الثقة في ذلك الذي كان متحالفا مع الجنود الذين جعلوه منكوبا ". لا يستقرون في مكان ، يعيشون في عنف جميع الحالات والأوقات ، لا يعرفون شيئا مما يعتبره بيستالوزي " المعارف الأساسية " ولا يعطون أي ائتمان او ضمانة لـ " معلمهم " .
لا شك أن في مثل هذه الحالة ، آخرون قد يختارون إظهار هنا زمانا و مكانا خاصين بالتعليم لتغطية بؤس العالم بطلاء البرنيق . بيستالوزي بادر ، فيما يخصه ، إلى فتح معهد قادر ، في آن واحد ، على استقبال الأطفال كما هم ، لتلبية احتياجاتهم المادية المباشرة ، وإلى " وضع نشاطهم الفكري في حالة تأهب " : " التعلم كان بالنسبة إليهم شيئا جديدا تماما و بمجرد أن رأى البعض أنه يتقدم إلى الامام ، حماسهم أصبح نتيجة ذلك قوي و دؤوب " .
دعونا ننظر إلى قسم بيستالوزي كما يظهر منقوشا في ذلك العصر . المعلم لا يتكلم . يقدم لوحة معمارية لثلاث فتيات صغيرات . الفتيات الصغيرات ، أعمارهن مختلف ، كل واحدة تتفاعل بطريقتها الخاصة ؛ تبادل أو حوار بدأ يرتسم الذي هدم و أفسد ، في سنة 1798، جميع الأشكال الممكنة للمراقبة والأحكام المسبقة الاجتماعية : بنات الشعب ، وهن اقفات في القسم ، يشتغلن حول القضايا المخصصة تقليديا للرجال والأثرياء ؛ وعلاوة على ذلك ، فهن لا ينتظرن تلقي تدريسا ولكن يسألن ويناقشن ؛ بل لعل أصغرهن ، بكل ثقة في النفس ، تستجوب المعلم . وهذا الأخير، و هو " يلقي درسه " ، يحمل يد طفل مريض بينما تلميذ آخر يراقب عن كثب ويبدو أنه في مأمن : الذي لا يستطيع التعلم لا يتخلى عنه مع ذلك ؛ يبقى حاضرا هناك ، يخضع لرعاية الجميع هذا الكل الذي يطمح إليه - نظراته تشهد - للانضمام إليهم في أقرب وقت ممكن . عند أسفل رجلي بيستالوزي ، توجد فتاة تتعلم القراءة مع اثنين من الأطفال : والمعلم ، لبعض الوقت ، فوض سلطاته إلى واحدة من التلميذات ؛ من الواضح أنها ستؤدي مهمتها بالحماس الذي يقوي انتباه الأطفال الصغار و يحفزهم على الفضول . بجانب الفتيات ، تحت النافذة ، طفل ينام ؛ لا يخل بالسير العادي للقسم لن يعاقب و يجازى : سوف يدرس عما قريب ، شريطة أن يكون المعلم هناك حينما يستيقظ . طفل آخر يعمل وحده ، واقف : إنه يكتب . والهدوء و العزم الباديان على وجهه يوحيان أنه سيستمر طويلا بعدما ينتهي القسم .على الجانب الآخر، شاب صغير يقرأ كتابا على رفاقه بصوت عال ، ثلاثة تلاميذ يبدون يقظين تقريبا ، لكن أحدهم انسحب ليظهر قلقه بينما الخامس انجذب بسهولة ، من طرف صبي ذي نظرات مريبة ، اتجاه أنشطة ربما أكثر جاذبية : التعلم ليس سهلا و إغراءات و محاولات تجنبه كثيرة ولا تحصى . لا يبدو بيستالوزي مصدوما : قوي وهادئ ، متسامح و يترك العمل . ما الفائدة في إخضاع الأجسام عندما ، على أي حال ، تهيم العقول ؟ فمن الأفضل الحفاظ على طاقتنا للمسك أو خلق فرص أكثر مواتية . على العتبة ، هناك أم تنتظر مع طفلها في ذراعيها . إن لم تكن تعمل كمساعدة عند بيستالوزي . لكنها لا تشتغل في القسم ، إنها تقدم الدعم و ترحب ، دون التدخل في وظيفة المعلم . في الخارج ، لا نزال نتصارع هناك . لكن قواعد اللعبة ، نتخيلها ، حلت في محل العنف الشديد .
وبطبيعة الحال ، إن قسم بيستالوزي هو أسطورة . ولكن نجد في هذه الأسطورة المبادئ التي يمكن أن تساعدنا على فهم ما يجب أن يكون عليه المعلم اليوم : قائد الثقافة . الشخص الذي يضمن القانون ويحافظ على سلامة الناس . الذي يرسم الحدود التي تسمح بأن لا تذوب في فضاء بدون حدود . الشخص الذي يساعد الناس بالتعرف بداخل الثقافة على الأصداء و أجوبة الإنسانية لاستجواباتهم الخاصة . الشخص الذي يضاعف من الموارد ويصاحب كل واحد لكي يعطي أفضل ما لديه .
إذا كان لا بد لي من اختيار بين النموذج الذي وصفه ميشيل فوكو و قسم ستانس Stans ، من دون تردد سوف أختار بيستالوزي . و لهذا السبب فإنني أشعر بالفخر للانتماء إلى الجمهورية التي ، بقرار من الجمعية الوطنية لـ 26 أغسطس 1792 ، " تعتبر أن الرجال الذين ، من خلال كتاباتهم و شجاعتهم قدموا خدمة قضية الحرية و أهتموا بتحرر الشعوب ، لا يمكنهم النظر إليهم كأجانب من قبل شعب أضواءه و شجاعتة جعلتهم أحرارا، (...) صرح منح لقب المواطن الفرنسي لـ هاينريش بيستالوزي ". و ليكن هكذا بيداغوجي مواطن فخري للجمهورية الفرنسية من الواجب طمأنة جميع الجهات المعنية حول التهديدات التي تشكلها البيداغوجية على للجمهورية .
واجب التلقيـن و وسائل التعلــم
Philippe Meirieu Professeur à l’université LUMIERE-Lyon 2
كان يكتب القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي " من يطلب العلم بطريقة جنونية فليرسل ابنه إلى المدرسة لكي يعرف كيف يفكر المعلم ؟ ". في عالم يتسم بالتعددية و يرى ثوابته الأكثر رسوخا تتأرجح ، فإن هذا السؤال يعتبر أكثر أهمية من أي وقت مضى . لماذا نرسل أطفالنا إلى المدرسة ؟ ماذا نريد أن نلقن لهم ؟ قال رينيه شار " إرثنا لم تسبقه أية وصية ". وصحيح أننا لا نعرف تماما ما يجب علينا أن نتركه لأطفالنا . آباء ، و مدرسون ، خبراء و سياسيون غير قادرين على الاتفاق على أهداف و غايات التعليم . المدرسة ـ " المدرسة الاجبارية للجميع " التي نناقشها في هذه الورقة ـ مقسمة بين وظائف متعددة و متناقضة : تدريس التحكم في اللغات التقليدية وتعليم التكنولوجيا الجديدة ، تلقين التراث وتمكين فهم القضايا المعاصرة ، أخذ بعين الاعتبار الاختلافات و الفروقات وضمان ثقافة مشتركة ، توفير النجاح في الامتحانات وتعلم قواعد الحياة في المجتمع ، تكوين على احترام البيئة والسلامة الطرقية ، تربية على الصحة ، وقاية من مرض الإيدز ، إبلاغ عن مخاطر تعاطي المخدرات و أيضا أشياء أخرى .
هذا التضخم يؤدي حتما إلى فقدان شرعية المعارف المُدَرَّسَة لدرجة أن وضعيات التعليم في كثير من الأحيان تشبه ، والغريب جدا ، لـ " صراعات في الرأي" : المعلم له رأي ، و يدافع عنه . و التلميذ له رأي آخر . ويجب على أحدهما أن يستسلم في صراع على السلطة و أن لا شيء ولا أحد يبدو قادرا على التحكيم . في معظم الأحيان ، يتنازل التلميذ ، ولكن على طريقة الاضراب : يوافق على الامتثال للمعلم ، في اعتقاد وأن يفعل ما يطلب منه ... مع الاحتفاظ بالحق في رفض أي قيمة لأنشطته المدرسية بمجرد أن يلج القسم . وهكذا ، فالتعليم ، وحتى عندما يمارس في المدارس العمومية ، فإنه يلعب ، في كثير من الأحيان ، في مكان و وفقا لأسلوب خاص ... منزوع الشرعية الخارجية وحيث أن المعلم يجب ، في كل لحظة ، أن ينجح في فرض سلطته . فإذا كان هنالك أزمة المدرسة ، فهي موجودة هنا . في هذا الاختفاء التدريجي لكل مرجعية ثابتة و مستقرة ، في تحدي كلي مشترك و مقبول من لدن جميع الأطراف . في هذا التصعيد في المواجهة - مفتوحة أو مخادعة – التي تبدو أنها تميز ، أكثر بكثير من حالات العنف الصريحة ، المدرسة الفرنسية اليوم .
يتطلب مثل هذا الوضع ، بكل بداهة ، معالجة سياسية . إن قضية المعارف المُدَرَّسَة وأهداف التمدرس الاجباري لا يوجبان الاستمرار في المعالجة بطريقة امبريقية ، وفقا لعلاقات القوى بين جماعات الضغط . القفزات الفجائية الأخيرة للمؤسسسة المدرسية تبرز أنه من المستحيل تطوير الأمور إذا اشتغلنا بالإضافات وبتر أطراف الوضعية . مثل هذه الطريقة لا تنجح إلا في استقرار التوازن الهش ، على حساب الاتساق الحقيقي للتكوين . والأسوأ من ذلك ، أنها تثبت ، حتى بداخل النظام المدرسي ، نقاشا الذي لا يقدر ، الذي لا يجب ، أن يتقرر داخليا : شرعية المدرسين و المعارف التي يدرسونها لا يمكنها أن تأتي إلا من خارج المؤسسة . مأموريتهم ، الفكرية ، الاجتماعية والسياسية ، يجب أن تكون محددة من قبل الدولة . في كل مرة يبحثون ليحلوا محل الدولة ، في بحثهم إذن عن تعزيز شرعيتهم ، فإنهم يضعفونها . و قد ضعفت ، و بالتالي يلزمهم أن يفرضوا أنفسهم . أن تفرض نفسك على التلاميذ وعلى وأولياء أمورهم ، أن تفرض نفسك على الجسم الاجتماعي الذي لم يكن جزءا مساهما في تحديد مأموريتهم .
لذلك من المستعجل أن التمثيل الوطني – البرلمان – يهتم بالقضايا الرئيسية للتربية الوطنية ، وقبل كل شيء في البداية ، القضايا المتعلقة بالتمدرس الإجباري : لتحقيق الاستقرار بسرعة كبيرة في المحتويات ( البرامج و أهداف نهاية السلك) كما أيضا في الشروط (من حيث عدم تجانس الأقسام ، اللجوء في حالة وجود صعوبة لدى التلميذ أو إجراءات التوجيه).
ولكن ، نظرا لضرورة و أهمية هذه الشراكة ، فهي لن تسمح بأن تقوم بدون التفكير البيداغوجي الخاص بها على ما يحدث أثناء العلاقة بين التعليم والتعلم . بما أننا نريد دمقرطة ولوج المعارف وعدم حجزها لمن يطلبها أو يعرف لماذا ، وكيف يمتلكها ، فإنه من غير الممكن ، في الواقع ، سماح الاشتغال على نطاق واسع للتواطوءات السوسيولوجية العشوائية في المؤسسة المدرسية . يجب أن نجهز أنفسنا بأدوات ذات معقولية و وضوح لـ " الشيء البيداغوجي " ، وعلى وجه الخصوص ، الوسائل لكي نفهم مقاومة التلاميذ الذين يرفضون أو لا يصلون إلى التعلم .
التلقين هو ضرورة و عدم التلقين استقالة ...
لا يوجد مثيل حيث أن إنسانا قد يصل الى حالة البالغين دون تدخل في حياته من غيرهم من البشر، و هؤلاء البشر هم كبار . الطفل ، في الواقع ، يأتي إلى العالم وهو في عجز تام و بلا حد ولا يمكنه أن ينمو إلا إذا " استدْخِل في العالم " ، إلا إذا الكبار" قاموا بالتقديمات " و تكفلوا بمجيئه في هذه الدار . هنا ، يجب تعليمه قواعد أولئك الذين استقبلوه و رحبوا به . هذا الأمر ليس سهلا : الاندماج في الميدان هو دائما مؤسسة " التدجين " ، و مسألة المواقيت التي يجب احترامها ، وعادات يجب اتخاذها ، و رموز امتلاكها ، و واجبات التي يجب الخضوع إليها . يتميز الانسان ، يفسر علماء الأنثروبولوجيا و بحاث العلوم المعرفية على حد سواء ، بقوته الخارقة و الرائعة في التعلم . ولكن على الجانب الآخر الخفي من الميدالية ، و هو أن الطفل يجب أن يتعلم من كل ما سوف يسمح له بأن يعيش مع رفاقه .
لذلك فالشخص الذي تلقى تربية لا يمكن أن يختار لنفسه ما يحتاج إليه إلى أن يكون تربية . لم يختر أطفالنا اللغة التي سوف يعبرون بها ، و لا العادات و التقاليد التي سوف يعيشون بها . كما أيضا لا يستطيعون ، في المدرسة ، اختيار المواد التخصصية التي سيكون من الواجب تعلمها لكي يدمجوا في المجتمع . لو كان الطفل باستطاعته على أن يختار موضوعاته التعلميه ، فهذا معناه أنه قد تربى بالفعل . ولا " حترام " يمكن تبريره هنا للامتناع التربوي . لدى الكبار أمر" سبق الواجب " . لا يمكن التخلي عن الطفل دونما إدراجه في التاريخ .
لا شك في أن مسألة التلقين كانت تطرح بالأمس بشكل أقل مقارنة مع وقتنا الراهن . حنة أرندت ، في أزمة الثقافة تفسر، بالفعل ، أن المدارس الآن يجب أن تلعب الدور الذي ، في العصور السابقة ، قد كانت تقوم به الأسر بشكل طبيعي . لم تكن هناك في زمن بعيد ، الاختلافات من جيل إلى آخر كانت محدودة ؛ و الأجيال تتداخل فيما بينها بشكل كبير بالشكل الذي أن الرباط بينهما كان مكفولا إلى حد ما عن طريق الاشباع imprégnation . كان التلقين يتم هنا ، في الأيام الروتينية من السنوات الأولى من الحياة ، ثقافة كلها كانت تترسب و تسمح للثقافة المدرسية بأن تتطور على مكتسب مستقر نسبيا . بين أجدادنا وآبائنا ، هناك عدة أشياء كثيرة لم يتم تعليمها عن وعي : لقد تم تلقينها و نقلها في نوع من الاستيعاب البطيء ، دونما التفكير فيها حقا ولا أن تكون نتيجة عمل منظم وممنهج .
"القلق الأسري " هو قلق فاشل ، أسوأ مما كان في أي وقت مضى ... حتى لو كان غيرعادل في العمق لوصم " الاستقالة " من الآباء والأمهات الذين يعانون أيضا ، من وضعية لم يسبق لها مثيل تماما . و الحال ، أن المربين ، منذ زمان إلى حد الآن ، اشتغلوا مع أطفال أيتام حقيقيين أو غير حقيقيين . يدركون أنهم يعززون نقل الثقافة لكي يتمفصل الفرد في التاريخ ، لتمكينه من فهم الحاضر على ضوء الماضي لابتكار المستقبل . أبعد من أن يتخلوا عن التلقين ، فإن "البيداغوجيين التاريخيين" هم من أصابهم الهوس : باسم مبدأ القابلية للتربية ، يريدون على الاطلاق النقل و التلقين ومنذ إيتارد واختراعه للألعاب التعليمية الأولى لتعليم فيكتور أفيرون - و وصولا إلى ممارسي " بيداغوجية عبر الأهداف " و " بيداغوجية التحكم " - مجزئين المعرفة في تصنيفات عالمة للتأكد من اكتسابها - يصرون على التعليم و القيام بالتعلم . إلى درجة الاصابة أحيانا بالمرض او السقوط في العنف و التلاعب . فلأنهم قد كانوا على اتصال مع الأطفال الأكثر عصيانا ، فإن البيداغوجيين قد عاشوا و وصفوا قبلنا الجموح و الاحتدام للارادة التربوية ، و إغراءات المدرس في وجه المقاومة والرفض : إبراز القوة ، والرضى بالخضوع في الواجهة ، التخلي و إبعاد العصاة ، و الالتفاف على حريتهم وتقييدها . فهم يشهدون ، في كتابات خرقاء أحيانا ، ما يعيشه الآن العديد من المدرسين . وكلهم يعبرون ، بطريقة أو بأخرى ، على نفس الاكتشاف الضروري والصعب : لا بد من التلقين ، ولكن لا شيء يلقن حقا إن لم يكن مستعاد بحرية من طرف الفرد الذي يتعلم .
التلقين هو طريق تعليمي مسدود ...
والمشكلة ، في الواقع ، هو عندما تواجه إرادة إرادة آخرى : " أنت سوف تعمل و أنا هو الضامن و المكلف ؛ و لن أتركك حتى تفهم . سأشرح لك مرة ثانية حتى تعرف ماذا تفعله و تقدم لي في المقابل الحجة و الدليل . عزيمتي لن تقهر . وسوف ينتهي بك الأمر للاستسلام ... " نحن هنا في موقف الرجل البالغ الذي يعتقد أنه يمكن علاج فقدان الشهية بواسطة التغذية عبر الأنبوب " : سوف تأكل لأنني أريد ذلك . سوف تنام لأن هذا قراري . سوف تكبر لأنني أرغب في ذلك . " رغبة تغتاظ و تقوي العناد والاصرار . ثم تتأرجح العلاقة في النهاية في مواجهة جهنمية حيث أن المدرسين غير مستعدين لها و يخرجون منها ، في كثير من الأحيان ، بجراحات . لأنه عندما يُتْرَكون في نهش العلاقة الثنائية ، يجب على المعلمين مواجهة الشباب الذين يمتلكون أسلحة الإقصاء : القدرة على التعرف على نقاط الضعف في الآخر، و الحد من نزيف الجراحات .
في الحقيقة ، إن وظيفة التلقين ، عندما تدعي أنها تقام بموجب مرسوم ، تحمل دائما إنكارا ضمنيا لمكان الفرد في تربيته الخاصة . لأنني لا يمكن أبدا ، على الرغم من كل جهودي ، أجبر أي أحد بأن يتعلم . قد يكون من الممكن إرغامه على تكرار جملة ، و أداء إشارة ، و تطبيق قاعدة ... لكن لا يوجد شيء هنا من شأنه أن يبرز تعلما إنسانيا على وجه التحديد ؛ نظل هنا في سلم الترويض أو نظام " الميكانيكا الاجتماعية " .
كثير من الفلاسفة ، فضلا عن ذلك ، وعلى الرغم من " نظرية المعرفة " المؤطرة بقوة ، يكشفون عن وجود فجوة غير قابلة للاختزال في كل تعلم : من مينون أفلاطون إلى مفارقة آلة القيثارة في الأخلاق النيقوماخية لأرسطو، من القديس أوغسطين إلى ديكارت ، من باسكال إلى روسو ، من برغسون إلى جانكيليفيتش أو حتى إلى فوكو و إلى دولوز، فإننا نجد نفس التيمة المستمرة والباقية للتعلم كخطر غير قابل للاختزال أمام الظروف التي تسمح بظهوره . حسب طريقتهم ، فإن معظم البيداغوجيين لا يقولون شيئا آخر : مونتيسوري ، و فريني ، و كوزيني ما فتئوا يكررون أن المعلم يجب أن يصاحب ولكنه لا يمكنه إلا أن يصاحب فقط . ممنوع القيام بفعل في مكان الآخر . حتى رفض التدريس عند روجرز ما هو ، بلا شك ، سوى تعبيرا مواتيا ، في سياق علم النفس الأمريكي ، للحقيقة اليقينية البناءة " ما نتعلمه حقا هو ما قد حصلنا عليه بأنفسنا ". و جاكوتوت ، في الأخير ، الذي ، في تحريض قوي ، دافعا حيلة روسو إلى أبعد حد ، يعتقد أنه لا يمكننا أن ندرس سوى ما نجهله : عندما نعرف ذلك ، نفسره و نمنع الآخر من اكتشافه ... بالتأكيد ، جاكوتوت يدفع بالحدق والمكر ليتركنا نعتقد في أن الجهل هو الذي يعمل في حين أنه ، بالأحرى ، الاستدراك ، و اعتدال المدرس الذي ، في الوقت الذي يلقن ، يترك للآخر مساحة كافية لكي يتعلم .
في واقع الامر ،التعلم ليس سهلا بأن يختزل في الفئات التقليدية للسببية : و السبب ، هو البحث في فعل شيء نجهله و ذلك بممارسته . و المقصود هنا هو القرار الذي لا يمكن لأي أحد أن يتخذه في مكان شخص آخر : " أنا لا أعرف الكلام ولكن لا أستطيع أن أتعلم كيف أتكلم إلا عن طريق التحدث . أنا لا أعرف حل معادلات ولكن يتوجب علي أن أتعلم ذلك بالتغلب على مخاوفي ، و كذلك عندما أنخرط في قراءة كتاب متجاهلا الصعوبات التي سوف تعترض طريقي ... " . وهذا هو الحال مع كل شيء أستطيع أن أتعلمه و إنجازه ، بدءا من الدرايات الأكثر تفاهة إلى الأنشطة الأساسية للإنسان : لا يمكن أن ننتظر معرفة كيفية السباحة لكي نذهب إلى المسبح و بالمثل الانتظار معرفة الحب لكي نحب ...
إننا هنا نواجه صعوبة توجد في قلب التفكير البيداغوجي : يجب أن أكون وفيا لواجب أمر التلقين ، وفي الوقت نفسه ، أسمح للتلميذ بأن يمتلك بذاته ، في اتباع نهج يكون فيه هو الفاعل ، المعارف التي يجب علي تلقينها . ولأنه ، بالضبط ، يرفض أن يختار بين هذين المطلبين فهذا ما جعل البيداغوجي يقوم بالفعل البيداغوجي .
التربية هو القيام بالتوسط " ليعمل كل واحد بنفسه " (Pestalozzi).
أصبح من الشائع أن نربط اليوم أزمة المدرسة بفقدان معنى المعارف المدرسة . ومع ذلك ، فقد أشار التقليد البيداعوجي منذ فترة طويلة ، حسب عبارة ديوي ، أن " كل درس ينبغي أن يكون جوابا ". ولكن هذا التلقيد خلط طويلا بين المعنى والفائدة . في محاولة لإظهار المعارف كحاجة ضرورية لحل مشاكل أو فهم حالات ملموسة ، فإنه أعطى امتيازا للمعارف الأداتية ، إن لم يكن معارف ـ الفعل الأكثر امبيريقية . باسم " التجربة عن طريق الخطأ " المعلنة من طرف فريني ، أحال التقليد المرامقة إلى رمز وثني طقسي ، مشكلا خطورة إبعاد التفسيرات النظرية الأكثر تعقيدا مستهدفا فعالية فورية . لكن بحلول سنة 1960، كان لويس ليجراند ا يدافع من أجل بيداغوجيا الدهشة ، مشددا على البعد الرمزي للمعارف و رافضا اختزالها في المنفعية .
و نظرا لاتسام هذا المنظور بالراهنية ، بشكل أدق، فإن الطابع المنفعي للمعارف المدرسية مرفوض من قبل التلاميذ أنفسهم ، سواء ما يتعلق بنجاحاتهم الخاصة (لم يعد ينظر إلى المدرسة كأداة للرقي الاجتماعي) أو فيما يرجع لقدرتهم على مساعدتهم على فهم العالم . فلا فائدة في إنهاك أنفسنا لتفسير منفعية المعارف المدرسية للتلاميذ ... هذه المعارف هي مسبقا لا أهلية لها . لا نجعل شخصا يستمع للعقل و هو خارج عن العقل .
يجب أولا إعادة توطيد المعرفة في نظام الرغبة ، و إعطائها مكانة داخل الفضاء الرمزي للتلاميذ . و الحال ، لقد تخلت المدرسة عن الرمزي لفائدة السوق . والت ديزني ، والمانغا ، و أفلام الرعب الأمريكية جمعوا ثروات من خلال استغلال المساحة المتبقية الفارغة من قبل علمانية باردة . بعدما يفرغون كل ما لديهم من مصروف الجيب في ألعاب الفيديو والأفلام السينمائية الرائجة ، يعود الأطفال إلى القسم " لأن هذا إلزامي" وللحصول، إن أمكن ، على بعض النقط و الملاحظات تسمح لهم بـ " الحد من الضرر". لا شيء من كل ما هو ضروري للإنسان نعثر عليه في المعارف المدرسية ، الكل مسترجع من قبل " البيداغوجية المصرفية "، كما كان يقوله باولو فريري .
يجب أن نعمل في هذا الميدان إذا كنا لا نريد أن نترك المدرسة فارغة من كل مضمون : سوف لن تجد طريق الرغبة في التعلم إلا إذا سمحت باكتشاف ثقافة كونية عالمية تعيد بناء سلسلة النسب généalogique وترمم بنوة " الإنسان " . ولهذا ، يجب إيلاء الاهتمام ، في مختلف الثقافات المعبرة ، إلى ما يرن ما وراء كل أحد ، يمس الثوابت الأنثروبولوجية ويربط الكائن الفريد مع أقرانه . لا تنازل كيفما كان في هذه العملية ، بل على العكس تماما . مطلب قوي الذي يمفصل الشخصية الحميمة والعالمية . لأن هنا حقا هو الرهان في كل تربية : فنحن لا نساعد إنسان في البناء و نجبره على التخلي عن تاريخه وعن تغذية رغبته في أعماق نفسه . لكن لن نساعده ، و بالمثل ، في بناء ذاته و نحرمه مما يمكن أن يمنحه شكلا لرغبته ، إدراجه في تاريخ البشرية ، وربطه بالآخرين في نسب و بنوة حيث يجد الكل مكان " الاعمال العظيمة "، والأسئلة الأساسية للعلم ، والإبداعات الأكثر أهمية في تاريخ البشرية : لاسكو وحساب التفاضل والتكامل ، غاندي وشجرة التملق ، خرائط الكنز والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، هوميروس واينشتاين ، موزارت وهيرودوت ...
من أجل هذا فنحن في حاجة ، كما يدعونا جيروم برونير في كتابه الأخير، للعثور أو اختراع " فن استغلال الأسئلة ، ابقائها على قيد الحياة " ، لأن بهذا ، ليس فقط نعيد الارتباط بين الأجيال ، ولكن أيضا نتعلم التواصل مع أولئك الذين ، اليوم ، يطرحون نفس الأسئلة ، حتى لو لم يقدموا نفس الإجابات . بين النسبية الفارقية ، من جهة ، والتي تعين الأفراد بمقراتهم الاجتماعية والثقافية ، والشمولية العقائدية ، من جهة أخرى ، و التي تتبع الاستعمار من الداخل، فإن هناك مكانة للبيداغوجية حيث يتعرف جميع التلاميذ من خلالها أولاد و بنات على نفس القضايا ، قادرين على تحمل بدون عنف إجاباتهم المختلفة .
" بدون عنف " ، في عالم سلمي وهادئ : هناك بالضبط توجد المشكلة بالنسبة للكثير من المدرسين . لأننا نشهد الآن نشوء بالقوة لظاهرة رئيسية : التلاميذ يأتون إلى القسم بشكل متزايد " تحت الضغط " . المشاكل الاجتماعية ، والاقتصادية ، والعاطفية التي يعيشونها في مكان ما تجعلهم أقل جاهزية للمعارف المدرسية التي تعرض في نوع من الشفافية العقلانية . كل شيء بالنسبة إليهم جلد عميق ؛ خطوط و آلات و تجهيزات مباشرة مع أدنى تفكير ، لا أهمية له بالنسبة للمعلم الذي يدلي به ، و ها هم يخرجون عن الطور . ننظر إليهم نظرة ثابتة وقتا طويلا وهم يظنون أننا نتجسس عليهم ، و حينما لا ننظر إليهم يعتقدون أننا نتجاهلهم . إن العلاقات بداخل القسم ما كانت بالمثل مشحونة عاطفيا ، وفي كثير من الحالات، لم يكن القسم أيضا خاليا من الموضوعات القادرة على تنشيط و تخفيف العلاقات التي تتفاقم .
لهذا السبب فالممارسات البيداغوجية المستلهمة من " الطرق النشطة " و " بيداغوجية فريني " أو ما أطلق عليه جورج شارباك مؤخرا باسم " اليد في العجين " مثيرة للاهتمام . طرق " نشطة " عن وعي و إرادة ، فهي بأي حال من الأحوال " غير توجيهية ". على العكس من ذلك ، تسهل إمكانية الوصول إلى القانون ، إلى قواعد الحياة الجماعية و إلى المعارف الأساسية التي تصبح هنا ضرورية لتنفيذ المهمة المشتركة . عندما يواجه الأطفال تجربة علمية ، عندما يمتلكون بروتوكول العمل ويمكنهم أن يلاحظوا بأنفسهم "ما يعمل" و "ما لا يعمل"، فهم مضطرون ترك علاقة القوى البسيطة . شريطة أن يكون المعلم حريصا على أن أي عضو من أعضاء مجموعة لا يخفي نتائج أو يفرض الصمت على أي أحد ، والتلاميذ ، رغم صغرهم الفائق ، بإمكانهم الوصول إلى المداولة حيث تبنى الحقيقة تدريجيا ، خارجيا بالمقارنة مع التوترات العاطفية والمشاكل الاجتماعية التي من الممكن أن تحدث في مكان آخر . وبالمثل ، الاشتغال على النصوص يمثل فرصة ثمينة بأن نتواجد في مواجهة موضوع موجود و مقاوم ، يقول ما يقول ، و حيث لا نستطيع أن نقول أي شيء إزاءه ... غير أنه يعطي لنا الحق في استثماره داخل الفجوات ، نجرؤ على تأويله و تفسيره في المساحات المفتوحة بين الكلمات والجمل . وماذا نقول عن خريطة الجغرافية ، و رسم مبياني للاقتصاد ، و صفحة للغة أجنبية ؟ كل هذا يشكل موضوعات ثقافية التي يمكن أن تحقق العلاقة ، المُشَكِّلة لبناء الذكاء ، بين الظاهر l’extériorité و الباطن l’intériorité : لأن الواقع الظاهر هو واقع " صعب "، يقاومنا ولا نقدر أبدا فرض قانوننا عليه بالكامل ... ولكنه يتيح لنا ، مع ذلك ، أن " نصنع اللعبة " ، أن نقول : " أنا أفهم " ، " أنا أعرف " ، " أنا أتردد " ، " أريد أن أرى بوضوح " ... فلأن المدرسة أوجدت الكائنات و الموضوعات ما جعلها تسمح بظهور الافراد .
إذن ، المقصود في المدرسة ، هو الخروج من المواجهة وجها لوجه بين الآراء التي تبحث فرض نفسها بالقوة ، التقليد أو ببساطة السلطة . كما نادى به برنار راي على نحو مناسب ، " المدرسة هي المكان الذي نتعلم فيه أن الحقيقة لكلام ما ليست مقتصرة بالحالة من ينطق بها ". الحقيقة تكتشف و تبنى هنا في عملية شاقة من المواجهة ، في عمل حيث نتجرد تدريجيا من طموحاتنا التوسعية ، و من حيث نقبل التشكيك و إعادة الطرح من جديد ، أن نكون مخطئين ، أن نعيد النظر في رأينا . المدرسة هو المكان الذي يجب فيه فك الارتباط لـ "إما نعم أو لا "، هو المكان الذي، على وجه التحديد، يوجد فيه حوار و مناقشة ، و التأمل و النظر قبل الانضمام و الانخراط .
وبالتالي ، إذا كانت لدى المدرسة مأمورية تنشئة التلاميذ ، فذلك من خلال التنفيذ التدريجي للمواقف و الوضعيات التعليمية حيث مواجهة الأشخاص يمكن أن يتحكم فيها شرط الحقيقة . وفي هذا الإطار هو ما يجب القيام به في التعلم الأساسي للتأجيل : تأجيل فورية الانفعلات ، و تأجيل التعبيرغير المنظم للأحاسيس ، و تأجيل الاحكام المسبقة ، و تأجيل قواعد و أحكام العشيرة أو تجمعات الانتماء . يجب أولا " وضع الرماح " يقول مارسيل ماوس في نهاية موضوعه حول الهبة ، آخذا استعارة فرسان المائدة . لا بد من آليات بيداغوجية للتمكن من بناء فضاء مدرسي يسمح للعمل الفكري و يبني النقاش الديمقراطي . في نهاية المطاف ، الرهان أساسي : يجب علينا أن نتعلم الفرق ، من ناحية ، بين الحقيقة الثابتة و المستقرة ـ و لو مؤقتة - من قبل الرجال ، و بين ما يؤسس ، من ناحية أخرى، الحجج المفندة - بفضلهما نتقدم بشكل فردي وجماعي في بناء الحقيقة - ، و ما يشير إليه ، في النهاية ، إلى اختيارات شخصية - تفضيلات فردية مشروعة ولكن لا نستطيع فرضها على أي أحد .
وسائل التعلم
لتحقيق ذلك ، و بعيدا عن اختلافاتهم ، يقترح البيداغوجيون بناء آليات بيداغوجية تخضع لسبعة مبادئ أساسية وهي :
1) رفض العلاقة التناجزية و إستدخال بطريقة ممنهجة " الثالث المنشط " : موضوع الصفقة البيداغوجية ليس هو العلاقة المباشرة التي يعتني بها المعلم مع التلميذ . الموضوع الذي يجمعهما معا يرجع لـ " العالم " ، و يحمل مقتضياته الخاصة التي تتجاوز السلطة ، و الأهواء والانتماءات المختارة لكل الحاضرين.
2) تميز المهمة والهدف : الأساس في النشاط التعليمي ، ليست أبدا هو " المنتوج "، النتيجة الملاحظة مباشرة (وثيقة أعدت بشكل فردي أو في مجموعات ، والواجبات المنزلية والمذكرات ونتائج الامتحانات ) . الشيء الرئيسي هو التقدم المنجز من طرف كل واحد ، و المعارف التي اكتسبها التلميذ و التي يمكن أن يستثمرها ، والطريقة التي استعملها و سمحت له بالنمو . عندما يركز المعلم على المهمة و عليها وحدها ، عندما لا يُقَوِّمُ إلا المهمة la tâche ، فإنه يحث التلميذ على الحدس و التخمين ، على الغش او التحايل ؛ فهو لا يشجع التعلم . العلاقة بين المهمة والهدف علاقة فارقية بين وضعية التدريب و وضعية الإنتاج : في مجال التدريب ، الهدف هو الأول ، و في الإنتاج ، فإنها المهمة .
3) تنظيم التبادل بحيث أن هذا الاخير يخدم تقدم كل واحد : التبادل ، في القسم ، ليس مواتيا تلقائيا للاستثمار من قبل الجميع ، لانخراطهم بالتلمس في معرفة لا يتحكمون فيها حتى الان . المخاطر المتأصلة في كل تعلم تتطلب تعليق أو وقف ضغط تقويم المدرس و يعمل على أن يضمن أيضا أن لن يستخدم بقية التلاميذ السخرية أو الإهانة التي لا تشجع على " شجاعة البدايات " ، التي تحدث عنها جيدا فلاديمير جانكيليفيتش والتي بدونها لا يستطيع أحد أن يحاول القيام بشيء ما زال يجهله لكي يتعلم فعله .
4) تميز الأوقات و الأماكن : العيش معا ، هو التعلم أن كل شيء غير ممكن في كل وقت وفي أي اتجاه ، و أن هناك لحظات للعمل ولحظات للمناقشة ، فضاءات للمبادرة الفردية والتجمعات لسماع التعليمات الجماعية . و هو أيضا الاطلاع على أنه يوجد هناك وقت لتلمس الطريق حيث لا ينبغي أن نخضع للتقويم و وقت آخر للتحقق حيث يعد التقويم ضروري ويسائل كل فرد من الافراد . العيش معا ، هو احترام الرغبة المشروعة للجميع بأن يمتلكوا " فيما يخص الآخر " ويستدخلوا بنيات وهياكل التواصل و التبادل حينما تصبح هذه الاخيرة ضرورية للحياة الجماعية .
5) الاشتغال يصبح عادة و احتفالية ritualiser : لا أحد يصل إلى عمق و حقيقة الكلام بدون طقوس او عادات . العادة التربوية هي إطار ... ليس " إطار مملوء " ، طائفي ، حيث يتخلى الفرد عن كل هوية لصالح المجموعة لكيلا يحصل على وجوده إلا كعضو من تلك المجموعة ؛ لكنه " إطار فارغ " الذي يضمن ، بفضل استقراره وانتظامه ، توزيع الأدوار ، وطريقة تشغيله وحضور لذاكرة جماعية ، أن يكون بمقدور الجميع العمل بدون مخاطر كبيرة .
6) حشد الموارد : هو النتيجة الطبيعية للعناد في إرادة تحقيق نفس الأهداف الثقافية نفسها بدون " تمرير العنف " و لا تشجيع مواقف الرفض أو التستر و الإخفاء . إكثار الموارد ، معناه توفير عدد من الاجراءات الممكنة لتشجيع ودعم الإصرار على التعلم . هو تنويع الأساليب ، والاستخدامات وأنواع العمل مع مرافقة كل واحد لتجنب التشتت ، و التذكير بالأهداف والمساعدة في التقييم .
7) تقديم تدخلات : لا أحد يصل في دفعة واحدة إلى الأهداف التي نرسمها له ؛ في الطريق ، هناك العديد من الصعوبات ، والأخطاء التي لا مفر منها . ليس الخبث او الحثالة هي التي ما ينبغي التخلص منها . الصعوبات والأخطاء ، على العكس من ذلك ، تعتبر فرص التحليل وسبل التفاهم و أوقات سانحة لتقديم تفسيرات أخرى ، اقتراح مداخل أخرى . " التدخلات " ، على هذا النحو ، ليست مجرد " استدراك " ( سد الثغرات ) ، وإنما هي أداة تنظيمية و تعديلية في الأساس ، وسيلة لتحفيز الابتكار البيداغوجي . و هي أيضا ، اليوم ، وسيلة لمحاربة التطور الفوضوي للتدخلات الخارجة عن المؤسسة التربوية بحيث استخداماتها تعتمد إلى حد كبير على الوسط الاجتماعي . وأخيرا، فإنها مما لا شك فيه إمكانية لمكافحة فعالة ضد المنافسة بين المدارس والمؤسسات .
استنتاج
فليكن مسموحا لي ، أن اخاطر بتصوير الأشياء بصفة كاريكاتورية ، مستحضرا في الختام صورتين ، أسطوريتين إلى حد كبير الواحدة والأخرى ، للقسم وللمعلم ولكنهما يشيران إلى اثنين من التمثلات للتلقين وللتعلم .
من جهة ، هناك القسم الذي وصفه ميشيل فوكو في المراقبة و العقاب والذي يمثل نموذجه المثالي في " الفضاء التأديبي للمدارس المعنية بالتعليم المشترك ". نموذج هذه المدراس موروث من الجيش و منتشر في وقت واحد في جميع المؤسسات ذات الرقابة على الأجساد والعقول : المستشفى ، والسجن ، والمصنع . الفضاء المدرسي هنا مهيكل كأنه " آلة التعلم ، ولكن أيضا للمراقبة ، وتحديد الأفضليات ، و المكافأة " . الزمن المفروض يحل تدريجيا في الممارسة البيداغوجية ، يوضح ميشيل فوكو، بالعزل ، والتنظيم ، والمراقبة ، وتحديد المهام والوظائف، و تكليف بالاقامة المدرسية للأجساد والعقول ، واجتناب أي مشكل ، مع استبعاد جميع أنواع الشكوك وكل حالات الطوارئ . مما يعني قبل كل شيء ، في هذا الترويض للأجسام ، جعل العقول في طاعة وانصياع وتسهيل عملية التلقين المختزلة هنا للطاعة المنتجة للتمارين الموحدة .
بالتأكيد ، كانط و دوركهايم حاضران هنا لإضفاء الشرعية على مثل هذا الجهاز : الأول موضحا أنه يجب ترويض الحيوان المتواجد في الإنسان لاطلاق إنسانيته ، و الثاني لتبرير الترويض المدرسي باسم الواقعية الاجتماعية . لكن " الآلة المدرسية " التي يدافعان عنها قد فشلت اليوم : تم إحباطها ، أولا من ناحية ، عن طريق الحسابات الأداتية لأولئك الذين يعرفون ويمارسون بنجاح " مهنة التلميذ " (أولئك الذين يتقنون التظاهر و الادعاء بالخصوع لكي يستخدموا جيدا المدرسة وقيودها في الاستراتيجيات الفردية للنجاح) ؛ و حُطِّمَت المدرسة ، من ناحية أخرى ، تحت ضغط " الأطفال المتفجرون enfants bolides " الذين لا يمكن إدراجهم في أي إطار . إن أسطورة " المدرسة ـ الساعة الحائطية " انهارت على الرغم من جهود أولئك الذين يشتغلون لإنقاذ المظاهر: الفوضى التي في الواقع تحجبها دائما، تتحدث علنا اليوم .
لهذا ، أسطورة بعد أسطورة ، فإنني أفضل أسطورة أخرى ، وهي أسطورة قسم بيستالوزي في مدينة ستانس . في خريف عام 1798، أرسلت الحكومة السويسرية هاينريش بيستالوزي لإدارة دار للأيتام في ستانس . لقد أتى الجيش الفرنسي على احتلال بلدة نيدوال . وكَثُرَ الأيتام المعوزين . وعلى الرغم من تعاطفه السياسي مع الثورة الفرنسية والجمهورية الهلفتيكية فإن بيستالوزي اعتبر الوضع لا يطاق إنسانيا و قَبِلَ بالمهمة الموكلة إليه . هنا ، لمس أعماق الفقر، إذ وجد أطفالا في" وحشية تامة و متعودين على التسول " ، " غطاهم الجرب إلى درجة أنهم أصبحوا غير قادرين على المشي ، والجبين متجعد من جراء عدم الثقة في ذلك الذي كان متحالفا مع الجنود الذين جعلوه منكوبا ". لا يستقرون في مكان ، يعيشون في عنف جميع الحالات والأوقات ، لا يعرفون شيئا مما يعتبره بيستالوزي " المعارف الأساسية " ولا يعطون أي ائتمان او ضمانة لـ " معلمهم " .
لا شك أن في مثل هذه الحالة ، آخرون قد يختارون إظهار هنا زمانا و مكانا خاصين بالتعليم لتغطية بؤس العالم بطلاء البرنيق . بيستالوزي بادر ، فيما يخصه ، إلى فتح معهد قادر ، في آن واحد ، على استقبال الأطفال كما هم ، لتلبية احتياجاتهم المادية المباشرة ، وإلى " وضع نشاطهم الفكري في حالة تأهب " : " التعلم كان بالنسبة إليهم شيئا جديدا تماما و بمجرد أن رأى البعض أنه يتقدم إلى الامام ، حماسهم أصبح نتيجة ذلك قوي و دؤوب " .
دعونا ننظر إلى قسم بيستالوزي كما يظهر منقوشا في ذلك العصر . المعلم لا يتكلم . يقدم لوحة معمارية لثلاث فتيات صغيرات . الفتيات الصغيرات ، أعمارهن مختلف ، كل واحدة تتفاعل بطريقتها الخاصة ؛ تبادل أو حوار بدأ يرتسم الذي هدم و أفسد ، في سنة 1798، جميع الأشكال الممكنة للمراقبة والأحكام المسبقة الاجتماعية : بنات الشعب ، وهن اقفات في القسم ، يشتغلن حول القضايا المخصصة تقليديا للرجال والأثرياء ؛ وعلاوة على ذلك ، فهن لا ينتظرن تلقي تدريسا ولكن يسألن ويناقشن ؛ بل لعل أصغرهن ، بكل ثقة في النفس ، تستجوب المعلم . وهذا الأخير، و هو " يلقي درسه " ، يحمل يد طفل مريض بينما تلميذ آخر يراقب عن كثب ويبدو أنه في مأمن : الذي لا يستطيع التعلم لا يتخلى عنه مع ذلك ؛ يبقى حاضرا هناك ، يخضع لرعاية الجميع هذا الكل الذي يطمح إليه - نظراته تشهد - للانضمام إليهم في أقرب وقت ممكن . عند أسفل رجلي بيستالوزي ، توجد فتاة تتعلم القراءة مع اثنين من الأطفال : والمعلم ، لبعض الوقت ، فوض سلطاته إلى واحدة من التلميذات ؛ من الواضح أنها ستؤدي مهمتها بالحماس الذي يقوي انتباه الأطفال الصغار و يحفزهم على الفضول . بجانب الفتيات ، تحت النافذة ، طفل ينام ؛ لا يخل بالسير العادي للقسم لن يعاقب و يجازى : سوف يدرس عما قريب ، شريطة أن يكون المعلم هناك حينما يستيقظ . طفل آخر يعمل وحده ، واقف : إنه يكتب . والهدوء و العزم الباديان على وجهه يوحيان أنه سيستمر طويلا بعدما ينتهي القسم .على الجانب الآخر، شاب صغير يقرأ كتابا على رفاقه بصوت عال ، ثلاثة تلاميذ يبدون يقظين تقريبا ، لكن أحدهم انسحب ليظهر قلقه بينما الخامس انجذب بسهولة ، من طرف صبي ذي نظرات مريبة ، اتجاه أنشطة ربما أكثر جاذبية : التعلم ليس سهلا و إغراءات و محاولات تجنبه كثيرة ولا تحصى . لا يبدو بيستالوزي مصدوما : قوي وهادئ ، متسامح و يترك العمل . ما الفائدة في إخضاع الأجسام عندما ، على أي حال ، تهيم العقول ؟ فمن الأفضل الحفاظ على طاقتنا للمسك أو خلق فرص أكثر مواتية . على العتبة ، هناك أم تنتظر مع طفلها في ذراعيها . إن لم تكن تعمل كمساعدة عند بيستالوزي . لكنها لا تشتغل في القسم ، إنها تقدم الدعم و ترحب ، دون التدخل في وظيفة المعلم . في الخارج ، لا نزال نتصارع هناك . لكن قواعد اللعبة ، نتخيلها ، حلت في محل العنف الشديد .
وبطبيعة الحال ، إن قسم بيستالوزي هو أسطورة . ولكن نجد في هذه الأسطورة المبادئ التي يمكن أن تساعدنا على فهم ما يجب أن يكون عليه المعلم اليوم : قائد الثقافة . الشخص الذي يضمن القانون ويحافظ على سلامة الناس . الذي يرسم الحدود التي تسمح بأن لا تذوب في فضاء بدون حدود . الشخص الذي يساعد الناس بالتعرف بداخل الثقافة على الأصداء و أجوبة الإنسانية لاستجواباتهم الخاصة . الشخص الذي يضاعف من الموارد ويصاحب كل واحد لكي يعطي أفضل ما لديه .
إذا كان لا بد لي من اختيار بين النموذج الذي وصفه ميشيل فوكو و قسم ستانس Stans ، من دون تردد سوف أختار بيستالوزي . و لهذا السبب فإنني أشعر بالفخر للانتماء إلى الجمهورية التي ، بقرار من الجمعية الوطنية لـ 26 أغسطس 1792 ، " تعتبر أن الرجال الذين ، من خلال كتاباتهم و شجاعتهم قدموا خدمة قضية الحرية و أهتموا بتحرر الشعوب ، لا يمكنهم النظر إليهم كأجانب من قبل شعب أضواءه و شجاعتة جعلتهم أحرارا، (...) صرح منح لقب المواطن الفرنسي لـ هاينريش بيستالوزي ". و ليكن هكذا بيداغوجي مواطن فخري للجمهورية الفرنسية من الواجب طمأنة جميع الجهات المعنية حول التهديدات التي تشكلها البيداغوجية على للجمهورية .